|
أيـنـمـا حَـلَـلْـتَ
تـكـون! لكلمة "براءة" ملامح
"فردوس مفقود" يُقرأ واضحًا في اللغة
الشعرية والفلسفية والدينية والأسطورية،
ناهيكم عن اللغة المتداولة شعبيًّا،
معبِّرًا عما يمكن تسميته بـ"التحول
العكسي" – بمعنى العودة إلى زمن مضى كان
التصالُح فيه صفةَ العلاقة بين الإنسان
والأشياء من حوله، وكان الفعل الذي يقوم به
فعلاً آنيًّا وعفويًّا، أي فعلاً "بريئًا"! ترتبط
البراءة في ذاكراتنا بالطفولة، محدِّدة
حجمَها بها. وهذا ما يدفعنا إلى التمييز
بينهما، مقدِّرين أن البراءة صفة للطفولة،
في حين أن العكس موضع جدل فلسفي واضح.
فالطفولة محددة زمنيًّا؛ ونحن إذ نفرح
بتصرفات طفل لم يتجاوز عمره السنتين فإننا
نشعر بوجود خطأ ما في سلوك طفولي لدى مَن
تجاوز العشرين. وهنا يمكن لنا أن نقول إن
البراءة مفقودة في سلوك الثاني، على الرغم
من احتفاظها بشكل السلوك الطفولي. يطرح
الربط السابق ثلاثيةَ الوعي–الطفولة–البراءة،
لنكون أمام شبكة من العلاقات تحدِّدها
الصيغُ المتعارَف عليها لكلِّ مفردة من
المفردات الثلاث. فالوعي والطفولة يرتبطان
بعلاقة عكسية تنبع من ضرورة حلول سويةٍ
جديدةٍ من الوعي مكان الوعي الطفولي الذي
لا ندرك كنهه إدراكًا واضحًا؛ وهي علاقة
قائمة على مفهوم ارتقاء الوعي واستحالة
عودته إلى الوراء، على الرغم مما يحيط بهذا
الموضوع من إشكاليات فلسفية وروحية. أما
البراءة والطفولة فترتبطان زمنيًّا دون أن
يكون هذا الارتباط عائقًا أمام العلاقة
الثالثة بين الوعي والبراءة، التي هي علاقة
تكامُل في النهاية، آخذين بعين الاعتبار ما
تسميه البوذية بـ"التلوث الوجداني" (كليشا
klesha)،
أو بتعبير آخر، مأزق المعرفة الفكرية في
مواجهة البراءة. يعبِّر إريش فروم عن هذه
المواجهة بقوله: أما نقيض التجربة المغتربة،
المشوَّهة، الزائفة، المُفَكْرَنة، فهو
الفهم الآني المباشر، الكلِّي، للعالم
الذي نراه رُضَّعًا وأطفالاً قبل أن تغيِّر
سلطةُ التربية هذا الشكل من الخبرة.
فالرضيع المولود حديثًا لا يعاني أيَّ
انفصال بين "أنا" وما "ليس أنا".
وهذا الانفصال يحدث تدريجيًّا، وتعبِّر عن
نتيجته النهائية واقعةٌ تمكِّن الطفل من
قول "أنا".[1] يُعَدُّ
الانفصالُ المذكورُ آنفًا مرحلةً تطورية
فردية يتهيأ فيها الوعيُ الشخصي لممارسة
دوره في صيرورة الإنسان، مُهيئًا إياه
للترقِّي إلى سوية أعلى عِبْرَ حلول الوعي
الفردي مكان الوعي الشخصي – "التفردن"
Individuation
بمصطلح ك.غ. يونغ. وبشكل
عام، تُمَوْضِع هذه السيرورةُ البراءةَ في
موقع معتم في البداية، مضيء في الختام، أو
كما عبَّر فروم بقوله: إن المرء في حالة زوال الكبت يكتسب من
جديد فهمًا للواقع مباشرًا وغير مشوَّه،
ويكتسب بساطة الطفل وعفويته. إلا أن المرور
السابق بسيرورة الاغتراب ونموَّ الفكر
يجعلان من زوال الكبت عودةً إلى البراءة
على مستوًى أرفع؛ أي أن هذه العودة إلى
البراءة لا تكون ممكنة إلا بعد أن يفقد
المرء براءته.[2] هذا
الخط الفكري، على أهميته، يترك ثغرةً تتعلق
بـ"سيرورة الاغتراب" المذكورة أعلاه،
وخاصة أن واقعنا يشير إلى سيادة هذه
السيرورة، التي لم تعد "سيرورة" بقدر
ما هي مُراوحة، وإلى ارتباطها بفقدان
البراءة؛ إذ نعتقد – دون ادعاء القدرة على
الإمساك بزمام الموضوع إمساكًا محكمًا –
أنه ليس لِزامًا علينا فقدان البراءة
للعودة إلى سوية أرفع منها. تقوم
هذه الفكرة على أن البراءة ليست صفاءً
خالصًا يحضر بغياب الوعي خلال الطفولة
وبحضور كلِّي للوعي الفردي في حالة "التفردن"،
بحسب يونغ، أو بحالة "زوال الكبت"، وفق
فروم. فللبراءة طبيعتها الخاصة الحاضرة
باستمرار على مدار التفتح الإنساني، بدءًا
من مراحله الأولى في الطفولة حتى وصول
الفرد إلى استيعاء ذاته بكلِّ جمالها
وطاقاتها الإيجابية التي تشكل البراءةُ
منها إحدى الدعائم. ولعل عبارة كريشنامورتي
في كتابه عند عتبة الصمت تفتتح هذا
الموضوع، مكثفةً التعارض بين المعرفة
والبراءة، مانحةً الأخيرة صفة الحضور ذي
الألوان العدة: عليكم أن تشرعوا في السير دون أن
تعرفوا أيَّ شيء، وتتحركوا من براءة إلى
براءة. يشكل
السير "دون معرفة أيِّ شيء" لغزًا
محيرًا بالنسبة للذهن المتحرك في مجال
المعلوم والتصنيف، لكنه ليس كذلك بالنسبة
للإنسان ككلٍّ يشكل الذهنُ أحد مكوناته.
وربما هي لحظةٌ تتكشف فيها قدرة الذهن
ولاقدرته معًا، لحظةٌ تبلغ فيها البراءةُ
إحدى ذرواتها، واضعةً المرءَ في موقع فهم
أرفع من إمكانية توصيفه لغويًّا. يمكن
لنا أن نقول إن العائق الذي تشكِّله
المعرفة في مواجهة البراءة ليس المعرفة في
حدِّ ذاتها، كما أنه ليس الإنسان منفصلاً
عن المعرفة، بل هو في العلاقة بين الاثنين.
وهذه العلاقة/العائق (كما وأية علاقة "عائقية"
أخرى) ليست جدارًا قُدَّ من صخر؛ إذ إن
الانتقال من "عائقية المعرفة" إلى "عائقية
العلاقة" يمنح هذا العائق صفة الإسفنج،
بمعنى المرونة وإمكانية وجود نوافذ كثيرة
تنفذ من خلالها البراءةُ إلى حياتنا، سواء
في مراحل اغترابها أو لاحقًا في لحظة
متجددة لاكتشافها المستمر. ينسحب
هذا الطرح طبعًا على الوعي أيضًا، لكن مع
وجود فوارق تحدِّدها طبيعة كلٍّ من الوعي
والبراءة: فبقدر ما يقترب الوعي من العمل
الذهني والفكري تقترب البراءةُ من العمل
الروحي. ولهذا، ربما، ليست المعرفة عائقًا
أمام الوعي، بل أمام البراءة. وإذا
تجرأنا على القول بأن الوعي يشمل كلاًّ من
المعرفة والبراءة، فإننا نتجرأ، في
المقابل، على ادعاء أن البراءة تحتضن كِلا
الوعي واللاوعي. وهذا ما يعيدنا إلى
البداية التي نقول فيها إنه إذا كان في
الإمكان اكتشافُ أشواط في حياة الإنسان لا
يكون فيها الوعي حاضرًا، والتحدث عنها
أيضًا، فإن من الصعوبة التطرق إلى أشواط
تغيب عنها البراءة. التكامل
بين الاثنين قائم بالتأكيد، لكن مع امتياز
البراءة بمقولة: أينما حللتَ تكون[3]! *** *** ***
|
|
|