|
موقع المُسَارَرة من علم الباطن
العالم لا يدوم إلا بالسر. سِفْر الزاهر
في مقالةِ المؤرخ الأفلاطوني الجديد فلوطَرْخُس (حوالى 50-125 م) إيزيس وأوزيريس نقع على عبارة تنطوي على دلالة عميقة: ثمة عقيدة مرتبطة بأقدم العصور، تحدَّرتْ من مؤسِّسي المعارف المقدسة ومن الشارعين، حتى بلغت الشعراءَ والفلاسفة. وفي تصريح للقديس أوغسطينوس (354-430 م) وارد في استدراكاته، لا يقل عن العبارة السابقة دلالةً، نجد، بلغة المنقول المسيحي، معنى مماثلاً: إن ما يُسمَّى مسيحية كان موجودًا لدى الأقدمين، وما كان أبدًا إلا ليوجد، منذ بدء سلالة البشر حتى تجسُّد المسيح، إذ بُدِئَ بإطلاق تسمية مسيحية على الدين الحق الذي كان سابقًا وجودُه.[1] وهو، في نظرنا، صدى قوي لعبارة القديس بولس الذي تكلَّم «بين الكاملين» على ... حكمة الله السرية الخفية التي أعدَّها لنا قبل الدهور في سبيل مجدنا.[2] في وسعنا أن نورد عباراتٍ كثيرة بهذا المعنى – ومصادر «المنقول القديم» Primordial Tradition حافلة بها[3] – لبيان المقصود بمصطلح «علم الباطن» esotericism، دون أن نجازف بمجانبة الدقة في التعبير: علم الباطن، أو «الدين الحق» كما يسمِّيه القديس أوغسطينوس، ينطوي فعلاً على بنيان عقائدي عريق القِدَم، هو إرث إنساني مشترك لم يمسَسْه تغييرٌ أو تحريف إبان التكيفات التاريخية المتوالية التي طرأت على أساليب الكشف عنه، وتنوقل من عصر إلى عصر عبر سلاسل غير منقطعة من المعلِّمين والحواريين المؤهَّلين للقيام عليه. إنه، بحسب مصادر المنقول القديم جميعًا، عبارة عن جملة متماسكة، مُحكمة البناء، من العقائد (وليس المعتقدات)، تشكل صرحًا شامخًا من الحقائق الجوهرية، ما تزال إلى اليوم متاحة لكلِّ مُريد توَّاق إلى المعرفة، متعطش إلى التسامي، حقيق بهما. فروع العقيدة مهما يكن الاسم الذي ظهر به علم الباطن عبر العصور، فإن مما لا ريب فيه، في ضوء ما تقدم، أن «تاريخه» طويل، يعود إلى البدايات الأولى لوجود الإنسان على الأرض؛ بل إن هنالك مَن يذهب إلى أنه قديم قِدَمَ العالم نفسه! ولقد اشتمل هذا العلم دومًا على جُمَل من العقائد، لكلٍّ منها طابعه المأثور وصعيد تطبيقه على مراتب الوجود العديدة، مع بقائها تشكل نسيجًا واحدًا متكاملاً ومتساوقًا إلى حدٍّ مذهل. في البدء، على ما وصلنا، ما كان ثمة حاجة تدعو إلى بناء تصورات نظرية عن هذه الجُمَل، على اعتبار أنها كانت تتفرع مباشرة عن مبدأ وجودي إلهي واحد، عِبْر تحقق الإنسان نفسه بهذا المبدأ في صميم كيانه.[4] كان حسب المؤلِّفين الباطنيين المتحقِّقين أن يسمُّوا العلم الذي تقوم عليه كلُّ جملة من هذه الجُمَل باسمه، نظرًا لأن هذه التسميات تشير أساسًا إلى الصعيد الخاص لتطبيق كلِّ علم على مرتبة أو مراتب معينة من سلَّم الوجود الكوني: أ. تختص «الإلهيات» metaphysics بعلم المبادئ، الذي ليس في الأساس إلا علم الحقيقة والوهم؛ وهذا يظهر، اعتبارًا من الحالة الأرضية، بمظهر علم المراتب الوجودية المبدئية، مميِّزًا، من جهة، بين مبدأ «التجلِّي الكوني» Manifestation، أي المكوِّن، وبين هذا التجلِّي نفسه، أي الكون، ومن جهة أخرى، بين هذا المبدأ منزَّهًا عن الصفات وبين المبدأ عينه مضافةً إليه الصفات.[5] ب. والإلهيات في التجلِّي الكوني تصير علمًا بـ«الكونيات» cosmology، يختص عندئذٍ بالتمييز بين اللاشكلاني والشكلاني (عالم الصور)، الذي ينقسم بدوره إلى حالتين: لطيفة أو حيوية، وكثيفة أو جسمانية. ج. أما «علم النجوم» astrology، فيتناول جانبًا من جوانب الكونيات يتعلق أصلاً بمعرفة الأدوار الكونية والأرضية، ويختص أحدُ فروعه بمعرفة تأثير هذه الأدوار على الطبيعة وعلى حياة الكائنات.[6] د. تختص «الكيمياء» alchemy، أسمى العلوم الباطنية قاطبة (باعتبارها «علم الحياة والموت»)، بدرس العلاقات بين الكونيات وعلم النفس الروحي، بفروعه وتطبيقاته العديدة. غير أنه يجب ألا يغيب لنا عن بال أن كلاً من هذه البُنى العقائدية يشكل، في مآل الأمر، فرعًا من فروع جملة معرفية شاملة ومتكاملة هي الإلهيات، التي تُختزَل بدورها إلى مبدأ إلهي واحد، لا يحيطه به علم ولا يطاله وصف، بل يتم التحقق به. أما الكونيات وعلم النفس الروحي وكل ما يتفرع عنهما من علوم نقلية تفيد قاعدةً للارتقاء إلى الإلهيات، فهي من هذه الأخيرة بمثابة الأغصان المتفرعة من جذع الشجرة التي تُعتبَر معرفةُ المبدأ الأول أصلَها وجذرَها. علم الباطن و«السر» يقودنا مفهوم «علم الباطن» إلى الوقوف بعض الشيء على مسألة التلازم بينه وبين «السر» ومقدار التطابق فيما بينهما. «السر» شأن متأصل في طبيعة علم الباطن نفسها، من حيث هو استغراق في معرفة أعماق الكون والوجود. فـأوپنشاد Upanishad الهند البرهمنية تصف نفسها بكونها «نصوص العقيدة السرية»، في حين تفيدنا النصوص المأثورة كافة – القصص الأسطورية بصفة خاصة – أن كلَّ كشف روحي كان يتم سرًّا، في منأى عن الجموع، في ظلال غابة أو «حَرَم» temenos أو على قمة جبل. كذلك كان تعلُّم «فنون» معيَّنة، تيسِّر لـ«المُسارَر» initiate نوال قدرات خاصة، أمرًا محوطًا دومًا بالكتمان والرموز. جاء في سِفْر الزاهر Sepher ha-Zohar، وهو من أهم نصوص «القبالة» qabbalah الصوفية الإسرائيلية: عندئذٍ طفق رابي شمعون ينطق بما يلي: «الساعي بالنميمة يفشي السر والأمين الروح يكتم الأمر [...]. إن العالم لا يدوم إلا بالسر. فإذا كان السر ضروريًّا في أمور الظاهر، فكم بالحري ضروري هو في سرِّ أسرار قديم الزمان الذي لا يُعهَد به حتى إلى الملائكة الأعلين». ويقول رابي شمعون أيضًا: «إني لا أدعو السماوات إلى الحضور والاستماع إليَّ، ولا أدعو الأرض إلى الإصغاء إليَّ، على غرار موسى، ذلك أننا دروب العالم. [...] تبارك قَدَرُكم، يا أيها الأبرار، يا مَن كُشِفَ لهم سرُّ الأسرار، فيما هو ظل محجوبًا حتى عن القدوسين الأعلين». يتبيَّن مما سبق أن «الباطن» في الواقع يقابل «الظاهر» على نحو ما يتقابل ما هو مخصَّص للنخبة وما هو موجَّه إلى العامة دونما استثناء. إن هذا التمييز يحتفظ بقيمته وفائدته كاملتين مادام المرءُ يتجنب التعثر بمطبين هامين: الأول هو الاعتقاد بتناقض الظاهر والباطن تناقضًا مطلقًا، أي بتنافيهما (بينما يختص كلٌّ منهما بصعيد مختلف عن صعيد الآخر)؛ والثاني هو الظن خطأً بأن الباطن هو عين «التقية». فمع أن التقيَّة كانت تحتل أحيانًا منزلةً خاصة في علم الباطن – ولاسيما متى ارتبط بتنظيم أسراريٍّ، كما سنبيِّن لاحقًا – فإن اختزال علم الباطن إلى التقية حصرًا هو نتيجة أحد أمور ثلاثة: إما سوء النية، وإما الجهل بطبيعة علم الباطن الحق، وإما عرقلة الفهم. ففي علم الباطن الحق ليس ثمة على الإطلاق رغبةٌ مقصودة في صون السر بغية «احتكاره». إن ما يلمِّح إليه مصطلح «التقية»، كما نفهمه، ليس خطر إفشاء عقيدة ما لِمَن لا يعتنقونها، كما أنه ليس الظهور بعكس المبطون درءًا للأذى، بل هو، في المقام الأول، إشارة إلى أن «أسرار ملكوت الله» – الطبيعة القصوى للحق («سدرة المنتهى» في الإسلام)، والنواميس الكونية الكبرى، ورموز العالم المنظور – لا تنكشف للفهم الفكري أو للتعليل الذهني «العقلاني»، باعتبارها تشكِّل بنية الوجود نفسه؛ وهي بهذه المثابة يجب أن تكون موضع سَبْر متدرِّج على مستويات متصاعدة لكلِّ طالب معرفة بحسب استعداده الداخلي لتقبُّلها.[7] إذن، فالتنظيم الأسراري لا يُشكَّل بنيَّة إخفاء شيء على الإطلاق[8]، بل لجعل عدد من الأفراد، المؤهَّلين نفسيًّا وعقليًّا، «شفافين» واحدهم أمام بصائر إخوانه، وذلك لأن العالم الأرضي بعامة كثيف غليظ. إن ما يطالَب «المُسارَر» بصونه سرًّا وعدم إفشائه إلا لمُسارَر آخر أدنى منه مرتبةً ليس، في معظم الأحيان، إلا التفاصيل الفنية لـ«شعيرة أسرارية» initiatory rite، الغرض منها منح «المُسارَرة» Initiation للمريد الجديد. فالسر «السرَّاني» الذي كان كشفُ النقاب عنه محظورًا ليس البتة إفشاء معرفة روحية لا تذعن للبوح بطبيعتها أصلاً، فلا يُشار إليها إلا إيماءً ورمزًا، بل تفاصيل شعيرة أسرارية في جانبها «الفني» وحسب.[9] إذ إن «الحَرام» the Sacred، أي ما يُصار إلى صون حُرمته، ينبغي فصلُه فصلاً دقيقًا صارمًا عن العالم الدنيوي أو «البراني» the profane – ناهيكم عن أن الخبرة الداخلية بطبيعتها تعلِّم أيضًا بأن من طبيعة الأمور أن يجد المرءُ نفسَه ملزَمًا على عدم انتهاك حُرمة ما يُنزله منزلةً رفيعة، أي الأحوال الروحية الباطنة التي لم يفزْ بها إلا بشقِّ النفس بعد اجتياز امتحانات نفسية قاسية.[10] ومن جهة أخرى، فإن التعبير عن الحقائق الباطنة هو من قبيل المفارقة، من حيث إنه يستر بمقدار ما يبوح، يحجب بمقدار ما يكشف. وهي مفارقة خلاقة نجدها كأوضح ما يكون في تمثال هرمس هرپوقراطِس، إله الحكمة والعلوم الباطنية واللغة والكلام عند الإغريق، رافعًا سبابته إلى شفتيه!
«هرمس هرپوقراطس»، بإزميل فلهلم بييِر (1725-1796) نخلص من كلِّ ما تقدم إلى أن «السر» في علم الباطن ليس تمامًا الأمر الذي لا تجوز معرفتُه إلا للقلة حصرًا، بل هو المعقول المنطوي على «عمق يزداد كلما أوغل العارفُ في سبر مضامينه»، كما يشير ندره اليازجي. فالاحتفاظ بسرية بعض التعاليم ليس اعتباطيًّا، بل هو شأن يتعلق بطبيعة هذه التعاليم نفسها التي تستعصي على فهم كلِّ مَن لم ينلْها تدرُّجًا بما يتوافق وتفتُّحه الداخلي. ثم إن وجود تعاليم تتناول بالشرح البنيانَ الباطن للطبيعة، وتفسِّر نواميسَها الغامضة، وتلقي ضوءًا على سيروراتها الخفية، بما يزود العارفَ بها بقدرة على السيطرة على طاقات طبيعية شتى ويمكِّنه من توجيه هذه الطاقات لمقاصد محددة، يستدعي بالضرورة، في جميع التنظيمات الأسرارية الجديرة بهذا الاسم، تشديدًا صارمًا على حُرمة الحقائق الروحية وضرورة كتمها عمن لم يبلغ بعدُ مستوى معينًا من التفتح الداخلي والنضج المناقبي يؤهلانه لاقتبالها وصونها. لذا جاء في كتاب الطريق والفضيلة Tao tö king المنسوب إلى الحكيم الطاوي لاو تْسُه (القرن السادس ق م): على السمكة ألا تُخرَج من المياه العميقة وعلى أسلحة الدولة الأكثر فتكًا ألا يطَّلع عليها الناس. (المقطع 36) فما أكثر ما تناول أشخاص ذوو إمكانات ذهنية متفوقة، لكنهم غير مؤهلين خُلُقيًّا، أسرارًا كونية، فاستخدموها لمآرب أنانية، منقلبين على مرشديهم، فكانت هذه الأسرار وبالاً على الجميع.[11] لذا يشدد الحكماء والعارفون القائمون على التنظيمات الأسرارية دومًا على ضرورة اختيار المريد من ذوي النقاء الداخلي والتجرد من ابتغاء أية منفعة خاصة – وهؤلاء هم «صفوة الصفوة» بطبيعة الحال. ولقد جاء في عبارة للغنوصي المسيحي باسيليدِس (القرن الثاني م): قلة القلة من الناس تستطيع حيازة هذه المعرفة: واحد من بين ألف، اثنان من بين عشرة آلاف.[12] وربما كان لنا اليوم أن نضيف بأن باسيليدِس كان متفائلاً جدًّا بهذا الخصوص! تتصف غالبية الأشكال المأثورة، إذن، بـ«ظاهر» مباح للعامة و«باطن» تنفرد به الخاصة. وهذا التمييز بين عامة الناس من أهل الظاهر وبين خاصتهم من أهل الباطن، موجود منذ أقدم العصور؛ وقد ساد، إنْ على الصعيد الثقافي العام أو على الصعيد الروحي، حيث كان كلٌّ من هذين الصعيدين كثيرًا ما يتطاول على الآخر. فقد كانت فنون الحكم والإدارة، مثلاً، أي ما يُعرَف بـ«السياسة» (بالمفهوم الأرسطي)، وثيقة الصلة في الحضارات النقلية traditional القديمة بالعلوم الغيبية، حيث كان النظام الاجتماعي انعكاسًا صادقًا للنظام الكوني: كان «العالم الصغير» mikrokosmos يضمن، باستقراره واستتباب شؤونه، تناغُم «العالم الكبير» makrokosmos وتوازُنَه؛ كانت أسرار الدولة («أسلحتها»، على حدِّ تعبير لاو تسه) والطرق الغيبية–السياسية للحكم والتدبير وتصريف الأمور والحركات الشعائرية التي كان يتم بها تسخيرُ قوى العالم الأوسط (العالم النفساني) حكرًا على النخبة، أي على المؤهلين لاقتبالها وحُسْن استعمالها، بما هي تقوم في أساسها على كشوف باطنية، ذات عواقب حتمية، لا بدَّ من صونها و«نقلها» بلا تبديل أو تحريف. ذلك أن مفهوم «السر» الذي أتينا على ذكره يتصل مباشرة بمفهوم «المنقول» أو «المأثور» traditio المتضمن فكرة «النقل». (ستكون لنا وقفة عند هذه الفكرة عما قليل.) غاية علم الباطن يشير مصطلح «علم الباطن» إلى وجود عملية «استبطان»، أو ولوج إلى أعماق النفس، عبر معرفة باطنية أو «غنوص» gnôsis يرمي إلى تحقيق الإشراق الروحي الذي يبلغ ذروتَه على مرتبة الوجود الأرضية في «الانعتاق» (مُكتي mukti في العقائد الهندوسية). ويتناول هذا الغنوص أو «العرفان» الروابط التي تشد الإنسان إلى المطلق أو إلى العالم الإلهي، كما يشتمل على معرفة أسرار الألوهة نفسها («أسرار ملكوت الله»، بالتعبير الإنجيلي)، الأمر الذي يجيز لنا بأن نطلق على هذا العرفان اسم «حكمة إلهية» theosophia بالمعنى الدقيق للكلمة. وإن فهم الروابط السابقة يقتضي من المرء الولوج، أو بالأصح، «الاستغراق» في أعماق كيانه عِبْر سيرورة أسرارية، تتمثل في الوقت نفسه بارتقاء درب صاعدة مشادة على نحو مَراتبي بسلسلة من الوسطاء الروحانيين – هو، بعبارة أخرى، «تجلٍّ» epiphania (بالتعبير المسيحي) أو «معراج» (بالمفهوم الصوفي للمصطلح).
«ولوج هيكل الباطن»، بريشة جبران خليل جبران يُعرَف هؤلاء «الوسطاء» بأسماء مختلفة باختلاف الشكل المحدد الذي يتخذه المنقول، لكنهم، في جميع الحالات، يشتركون والمُسارَرَ في نواة جوهرية، لولاها لما كانت المكاشفة بين الطرفين ممكنة. وعلى المُسارَر، في معراجه، أن يتعرف إلى هؤلاء الوسطاء الواحد تلو الآخر، وأن يأخذ عنه العلم الذي يختص به، فيما إذا شاء أن يرتقي موفَّقًا درجات السلَّم الأسراري. ويتطلب هذا السلوك الشاق التزامًا داخليًّا وأخلاقيًّا تامًّا، سواء كانت المُسارَرة تتم عن طريق «مُسارِر» initiator، قد يكون معلمًا منفردًا أو ممثِّلاً عن تنظيم أسراريٍّ، أو كان المريد يتقدم بمفرده مستعينًا بنصوص نقلية يُتعمَّد الغموضُ والإبهامُ في تيسيرها مفاتيح الأسرار (أو حتى من دون هذه النصوص في حالات أندر). وإن وظيفة المُسارَرة هي تجديد الوعي الباطن من خلال احتياز جديد للمعرفة «القديمة» التي أضاعها الإنسان من جراء «السقوط»، أي تدرُّك الروح إلى مرتبة عالم الأجسام واتخاذها من قوامه المادي «أقمصةً» جسمانية. فحالما يتم تحصيل هذه المعرفة، تنفتح للمرء آفاقٌ جديدة في صِلاته بالحَرام وبالكون ككل، ويسترجع الحالة «الفردوسية» الأولى. يتطلب التوفيق على الدرب الأسرارية إيقاظ الملَكة العقلية في الإنسان (وهي غير الفكر)، بوصفها المفتاح الأساسي من مفاتيح علم الباطن. فالعقل – وهو فوق بشري بطبيعته – هو ما ييسِّر للمرء التملص من طغيان «المنطق الخطابي» discursive reason وبلبال المخيِّلة الدنيا والعاطفة المفرطة، وبذلك يدرأ المُسارَر عن نفسه أخطار جموح هذه المخيِّلة النفسانية.[13] ذلك أن طبيعة العقل من طبيعة الروح نفسه، وهو أداة «الكشف العقلي» intellectual intuition الذي ييسِّر للإنسان إدراك الحقائق الكونية والإلهية. على هذا الأساس يقوم التوافق بين علم الباطن وبين ما يُشار إليه عمومًا بمصطلح «غنوص» أو «عرفان»؛ إذ إن كلمة غنوص gnôsis اليونانية الأصل، ومثلها كلمة جنانا jnāna السنسكريتية، تعبِّران كلاهما عن معنيَي «التعلم» و«العلم الحكمي» اللذين ظلا حيَّين في الفلسفة الإغريقية ومسيحية الآباء العرفانية والعقائد الباطنية الهندوسية والصوفية الإسلامية. وجذر هذه الكلمة عينه gn يظهر أيضًا في كلمة «تكوين» genesis اليونانية، ما يجعلها تنطوي في الواقع على معنيَي «العلم» و«الولادة» في آنٍ واحد. وبذلك تتطابق «المعرفة» و«الوجود» أونطولوجيًّا، من حيث إن المعرفة هي «إيجاد» الإنسان حقيقتَه بما يشبه «إنجاب» الحقيقة في الإنسان في منهج «التوليد» maïeutikê السقراطي. فالغنوص، متى كان ولادة روحية جديدة (وهو ليس غيرها في الواقع)، يعيد إلى الإنسان وحدتَه الداخلية التي أضاعها بسقوطه ويطلقه من إسار الجهل. وبذلك تكون المعرفة – معرفة الحق – هي الانعتاق من الجهل؛ إذ ليس تكفي معرفةُ العقائد والرموز معرفةً نظرية، إنما على المرء أن «يولد» بها! إن ما أُطلِقَ عليه أيضًا اسمُ «الفلسفة الحَرام» philosophia sacra هي حكمة حية، محرِّرة، لأنها تحرِّض «توبة» metanoia «الإنسان الظاهر»، «السائر إلى الخراب»، وتوجِّهه شطر «الإنسان الباطن»، «المتجدد يومًا بعد يوم»، على حدِّ تعبير القديس بولس الرسول[14]، ليس عن طريق الفكر الخطابي، بل بتحقق كلمة محرِّرة هي «روح وحياة»[15]. فمعرفة النفس للمتضلِّع بعلم الباطن، ومعرفة مصدر الإنسان ومآبه بالتحقق «الوجودي» به، هي الانعتاق بعينه، لأنها ليست معرفة نظر عقلي وحسب، بل معرفة روحية تُحدِث، بما هي كذلك، تحولاً جذريًّا ونهائيًّا في ذات العارف. الخاصية «النقلية» لعلم الباطن مهما يكن من أمر، فإن علم الباطن يظل أبدًا علمًا «نقليًّا» أو «مأثورًا»، فيكون، بالتالي، مستقلاً عن أية رغبة شخصية أو نزوة يتعرض لها المنظِّرون له. فهو، في الأساس، ليس تعبيرًا عن أفكار فلسفية «شخصية»؛ إنه إفصاح عن تحقيق روحي واحد، يتيح بلوغ مرتبة من الفهم العقلي تتخطى الثنائياتِ كلَّها في واحدية يتعذَّر إدراكُها إدراكًا تصوريًّا محضًا، بل يتم اختبارُها والشعورُ بها بالكيان كلِّه ممثَّلاً بـ«القلب»، بوصفه مقرًّا للكشف العقلي أو الروحي. كذا فإن علم الباطن ينجلي لنا بوصفه طريق حياة ومنهاج رؤيا يتجاوز الإنسان بما هو فرد إلى ما هو كلِّي – أي إلهي – فيه. وبالتالي، فإن إمكانية بحث «شخصي» مستقل عن الحقيقة الكلِّية يبقى، في ضوء علم الباطن النقلي، شأنًا لا معنى له من حيث الأساس. ومن هنا أهمية «المُسارَرة» initiation، بما هي إمكانية «نقل» أو منح «لطيفة روحية»[16] تُعتبَر بمثابة تكريس للإنسان في نطاق الباطن بربطه بسلسلة المعلِّمين الروحيين السابقين و«تثبيته» في استعداد معرفي يتحلَّى به أصلاً. يمكن لنا أن نعرِّف بالمُسارَرة، في صورة عامة، بكونها سيرورة تستهدف عبور الفرد من حال دنيا إلى حال أرقى، من حالة «البرَّاني» إلى حالة «المُسارَر». فعبر سلسلة من الأفعال الرمزية والامتحانات المعنوية والبدنية، يشعر المُسارَر فعلاً بأنه «يموت» عن حال دنيا لـ«يولد ثانية» في حال جديدة.[17] وتأويل هذه السيرورة مزدوج: أشواط المُسارَرة، من جهة، تستعيد رمزيًّا مراحل السيرورة الكوسموغونية، سيرورة ولادة الكون، أي انبثاق النظام من «العَماء الأول» Chaos والنور من الديجور؛ وهي كذلك، من جهة ثانية، نوع من تجدد الكائن، باسترداده لامتيازات الشرط الإنساني التي أضاعتها البشريةُ بسقوط آدم، النموذج البدئي archetype للإنسان. بذلك فإن «المسارَرة» Initiation هي «إدخال» initium الفرد إلى عالم أرقى، إلى حالة نفسية «أكمل» من الحالة البرانية؛ وهي، في حدِّها الأقصى، «تأليه» theosis حقيقي، من حيث إن الغاية منها اقتياد الكائن إلى حالة «تتعدى الحالة المشروطة»، على حدِّ تعبير رونيه غينون. إنها، إذن، تحقيق باطني محض للكائن البشري: تحقيق بالفعل – والتعبير لأرسطو – لإمكانية كانت هاجعة بالقوة in potentia في الفرد.[18] وبحسب ج. پرسيغو، فإن المُسارَرة التامة تتضمن: 1. تطهيرًا للكيان، الذي «يموت» عن شهواته ليصير مخلوقًا كاملاً: إنه «تدبير الإكسير الأعظم» (جابر بن حيان) عند الكيميائيين. 2. استنارةً، تتيح المجال للعثور على «الكلمة الضائعة» («منطق الطير» عند الصوفية) ولبلوغ المعرفة التي أضاعها أجدادنا. 3. استرجاعًا رمزيًّا للامتيازات التي كانت بحوزة الفرد البشري في الأصل، أي قبل حالة «السقوط». إذا عُرِّف بالمُسارَرة بكونها الولوج إلى نطاق معيَّن من مجموع الإمكانات الإنسانية، فليس ثمة بالمعنى المطلق إلا «مُسارَرة» واحدة ممكنة تشتمل على المُسارَرات الأخرى كافة ويتعذَّر التعبير عنها بغير مصطلحات مستمَدة من علم الإلهيات metaphysics. ما يميِّز هذه «الطريقة»، في المقام الأول، عن التدين وعن «التصوف الشعبي» mysticism إجمالاً – باعتبار هذا الأخير قبل كلِّ شيء تحققًا «منفعلاً»، يتأسس على العاطفة التي لا تنقاد خواصُها للتعيين – هي فاعليتها، من ناحية، ودقتها الصارمة، من ناحية ثانية. ذلك أن السيرورة الأسرارية تتأسَّس على قلب «الوجود» Being وتمهِّد تمهيدًا صحيحًا لكلِّ مفعول من مفاعيل الروح؛ وتجلِّيها هو الوجود الكوني نفسه منظورًا إليه في كلِّيته، أي من حيث هو حياة وموت: كلاهما تجلٍّ ممكن للأيس والليس، أي الوجود والعدم، اللذين ليسا إلا مظهرَي لانهائية الممكنات الكامنة في المطلق، التي ليست، بدورها، غير ممكن واحد من ممكنات اللانهائي، أي المطلق ذاته.[19] إن اللانهائي نفسه هو الذي يُستبطَن من خلال سيرورة المُسارَرة التي تتمثل غايتُها النهائية في الانعتاق (وليس في مجرد «النجاة» بالمعنى الديني)، أي في إلغاء الحدود والقيود الفردية كافة – ومن هذه الحدود حد الموت بوصفه عدمًا للوجود، وبوصفه عدمًا محضًا من وجهة النظر «البرَّانية» profane التي يقتصر همُّها على الوجود الخارجي الذي تنتظم من حوله سائرُ أشواق العامة وحاجاتهم المادية والنفسية. لكن هذا الوجود ليس في الواقع إلا كيفية من كيفيات الأيس، أو قُلْ هو حالة من الحالات التي يغطي تعدُّدها تراتبيةً من درجات الانبساط التي يتحقق في أعلاها الانبساط اللانهائي الذي هو الانعتاق الروحي. والمُسارَرة الحق هي السبيل إلى اجتياز هذه «المقامات» المتوالية، الأمر الذي يجعل من المتعذر على المرء القيام بها بمفرده؛ وبالتالي، ليس بإمكان الفرد إجمالاً أن «يُسارِر» نفسه[20] – اللهم إلا في حالات استثنائية نادرة – لسبب بسيط هو أن كلَّ تحول في الحالة أو الصورة يتطلب، على نحوٍ ما، الموت عن الحالة السابقة والولادة الجديدة في حالة جديدة: فمثلما أن المرء لا يولد في حياته هذه من تلقاء نفسه، كذلك يكاد يتعذر عليه أن ينهض بقواه الذاتية وحدها بتحول نوعيٍّ في نفسه: «ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله إلا إذا وُلِد من عَل»[21]. تحددت شروط هذه «الولادة» تحديدًا مُحكَمًا في المنقول الذي يعود بأصله إلى زمان لم يكن فيه البشرُ في حاجة إلى أن يكونوا مُسارَرين بسبب قُربِهم الطبيعي من مبدأ الوجود الأول. من هنا فإن المنقول هو الخيط الذي ييسِّر العروج من جديد إلى هذه الحالة الأصلية، أو استعادة إمكاناتها على الأقل؛ وبذلك يمكن التعريف بالمُسارَرة بوصفها ولادة ثانية وتجددًا داخليًّا، بما يجعلها تتقاطع مع مفهوم «الغنوص»، كما أشرنا. يقوم كل منقول باطني أساسًا على تَناقُل «لطيفة روحية» spiritual influence عبر سلسلة موصولة من الأفراد المُسارَرين الذين ينهضون بالمحافظة على أشكاله التامة منذ الأصل في معزل عن كلِّ شرط تاريخي طارئ. والعناصر الأساسية للمنقول هي، أولاً، علم الرموز، بوصفها الأشكال الرئيسية للتمثيل، ثم علم الشعائر أو التجلِّيات المتعالية للوجود؛ بتعبير آخر: «الرموزيات» symbology و«الشعائريات» liturgia. كل شعيرة فهي تتسم بمعانٍ رمزية في العناصر التي تكوِّنها كافة، لا يملك مفاتيحَ تأويلها إلا المُسارَرون وحدهم؛ وبالعكس، كما يقول رونيه غينون، «كل رمز فهو يولِّد لدى المتأمِّل فيه، المتحلِّي بالسجايا الضرورية، آثارًا تقارَن بالدقة بآثار الشعائر». «الرموزية» symbolism هي الصورة المحسوسة لكلِّ تعليم أسراري؛ وهي نسق التمثيل الوحيد لما هو كلِّي شامل، لأن من شأن استيعاب الرمز، بما هو «لغة» في الأساس، أن يجمع في آنٍ واحد بين الفهم الفكري الأشد محدودية وبين المدى العقلي الأوسع؛ أي أنه يقدر أن يعبِّر عن أعلى درجات التجريد فيما هو يقر بصحة تأويلات عديدة لا تتناقض على الإطلاق (وإن يكن من الممكن لها أن تتعارض أو تتنافى على صعيد معين)، بل تتكامل، من حيث إنها لا تعبِّر إلا عن وجهات نظر مختلفة من حيث العمق.[22] غير أن الرمز لا يشي بمعناه في الحال؛ وما ذاك إلا لأن هذا المعنى هو الجمع أو التأليف بين المقايَسات analogies المتعددة على أصعدة الحقيقة العديدة التي يشتمل عليها. أما المرتبة التي يتم عليها التأليف الجمعي بين هذه التأويلات المختلفة فهي دليل على مدى الأفق العقلي للمريد، الذي يتعذر عليه نقلُ فهمه مباشرة، باعتبار أن هذا الفهم لا يتعلق بالفكر الخطابي، بل بالكشف الروحي المحض.
الـشري ينترا Sri-yantra، أقدس الرموز الروحية الهندوسية: تأليف مكثف لهندسة الكون والإنسان يدل معنى الرموزية على مفهومين أساسيين هما محورا منهاج المُسارَرة: علم الباطن، من وجه، والحَرام the Sacred، من وجه آخر. وإن معنى الرمز لا يُنقَل، بل يبقى محجوبًا، مستترًا، «حَرامًا»، إذا جاز التعبير، لأن ما من أحد يستطيع أن يَلِجَه أو يكتنه سرَّه ما لم يكن مُسارَرًا بدوره. فقلة نادرة تستطيع تحصيل هذه المعرفة وتطيقها[23]، أو بالأحرى تتحلَّى بالاستعداد الكافي للتحقُّق بها، كما حاولنا أن نبيِّن. والتمييز بين «المُسارَر» و«البرَّاني» يُعرِّف بالمنقول في مجال الحَرام، لا بوصفه ضدًّا للدنيوي، بل بوصفه متعاليًا عليه، يؤهِّل المُسارَرَ لذلك استعدادُه العقلي المتفوِّق. وهذا، بطبيعة الحال، لا ينطوي على أيِّ نوع من أنواع التكبر أو الاستعلاء، بل يشير إلى تفاوت مقامات البشر بحسب مقدرتهم على الفهم الروحي: «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» (الزمر 9).
«المتاهة» labyrinthos: رمز بامتياز إلى الخروج من نطاق الدنيوي والدخول إلى مجال الحَرام «السر» الأسراري (وهو موجود فعلاً، وخاصة في حالة الرمز) ضرورة، لأن اللانهائي – وهو مفهوم يهيمن على البنيان النظري للعقيدة الباطنية – مستعصٍ على التعيين والتحديد بأيِّ تمثيل كان، ويتعذر التعبير عن جوهره. وإن الحُرمة الملازمة للمنقول تشير في بساطة إلى ثانوية الدنيوي بالقياس إلى الحَرام، أي إلى تبعيَّته له على صعيد معيَّن من أصعدة التجلِّي حيال المبدأ المتجلِّي الذي ليس هذا الصعيدُ منه إلا مظهرًا متدنيًّا وثانويًّا – وإنْ كان هو المجال الأوحد للتحقيق الروحي بالنسبة إلى الإنسان الذي يقع على عاتقه أن يحيا الحَرام ويحققه في نطاق الدنيوي. فالحياة «العادية»، مجردةً من معناها الروحي، «دنيوية» بأسوأ معاني هذه الكلمة، من حيث إننا نحيا في دور انحطاط المبادئ، دور كالي يوغا kali-yuga في المنقول الهندوسي، عصر الدم والحديد والنار؛ والمعرفة الروحية وشروط التحقق بها، ضمن الظروف الحالية للدور، أمست – مع الأسف – وقفًا على أقلية نادرة من الأفراد الذين يتحلون بالأهلية لعمل داخلي يقومون به على أنفسهم، ويرمي أخيرًا إلى الانعتاق النهائي من دورة الولادة والموت. «شروط» المُسارَرة تتطلب شروط هذا التحقق، من حيث المبدأ، الالتحاق بتنظيم يتبع المنقول القديم إلى حدٍّ معيَّن من القُرب ويمثِّله تمثيلاً صحيحًا، بمعنى أنه يجب أن يكون مؤهلاً شرعيًّا لنقل «لطيفته» أو «بركته». وليس بوسع الإنسان غير المؤهل في كامل ملَكاته[24]، ولا بأي حال من الأحوال، أن يحصِّل مرتبة الوجود التي تتطلَّبها المُسارَرة التي يمنحها فردٌ أو تنظيم يضمن على هذا النحو تواصُل السلسلة الأسرارية.[25] وتشكِّل حلقات هذه السلسلة نخبةً صغيرة لا علاقة لأهليَّتها وعلامات تعرُّف أفرادها بعضهم إلى بعض بأيٍّ من المعايير الدنيوية على الإطلاق، من حيث إن نشاطها يقع على الصعيد الروحي حصرًا. ومن جهة أخرى، يتعذر النهوض بأيِّ تحقق روحي – تمهيدي حتى – من دون الالتحاق الفعلي بالمنقول؛ وهذا الالتحاق قد يكون حاذقًا جدًّا في بعض الأحيان، بحيث لا يشعر به حتى صاحبُه في البداية. إن السمتين الأساسيتين للتنظيم الأسراري الصحيح هما: الصرامة في صون الأشكال النقلية الصحيحة والدقة في تطبيقها. فكل تهاون في المبادئ يتسبب في الانقطاع عن المنقول وإضاعة «روحه» أو «بركته»، الأمر الذي يحدث حتمًا لكلِّ تنظيم «برَّاني» لا يحتفظ إلا بـ«الحرف الميت» للمعرفة والرموز المقدسة: ذلكم، بوجه من الوجوه، مصير الفنون والأساطير والكتابة والمعمار التي كانت أصلاً عناصر حية للنقل الروحي.[26] لكن ثمة حاليًّا تنظيمات ظاهرية تتبع، لأسباب معيَّنة، مركزًا أسراريًّا حقيقيًّا من حيث لا يدري أعضاؤها، ومن دون إتاحة إمكانية تحقق روحي فعلي فيما يتعلق بهم.[27] هذا وإن معظم الأديان ليس إلا مظهرًا مفتوحًا للعامة، لكنه تابع للمُسارَرة تبعيةً غير محسوسة ومباشرة.[28] فالهندوسية والبوذية والطاوية والمسيحية والإسلام إلخ ليست جميعًا إلا كيفيات متنوعة لتجلِّي مبدأ واحد، الأمر الذي لا يجوز ولا يصح إرجاعُه إلى مسائل محض عقائدية أو إلى قضايا رأي واعتقاد وحسب. وفي المقابل، من الصعوبة بمكان عرض خصائص تنظيم أسراري حقيقي بعبارات «إيجابية» (وبخاصة أن المراكز التي مازالت قادرة على منح مُسارَرة صحيحة وفعلية باتت نادرة ومحتجبة). إذ إن «السر» الذي يستعصي بطبيعته على التعبير الدنيوي، كما رأينا، لا يُعبَّر عنه إلا بنفي هذا التعبير، إذا جاز القول. والسر لا يحيل العارفَ إلى اللانهائي ويُطرَح كإثبات محض إلا بمقدار ما يكون نفيًا للقيود والحدود ولمحدودية الوجود الفردي؛ بالتالي، فإن المنقول، على عكس وجهة النظر الدنيوية، ينبذ، في مآل الأمر، كلَّ تجلٍّ وجودي مقتصر على درجة معينة من التجلِّي الكلِّي، الذي يُمتَص في مآله في «اللامتجلِّي»، أي في «غيب الغيب» بالتعبير الصوفي الأكبري. إن أحقية اللامتجلِّي Unmanifest هذه تحيل إلى سلبية مظاهر السيرورة الأسرارية التي تستهدف «إفراغ» المريد من بشريته المقيدة، وتحقيق نوع من «البتولية» أو «الأمية» النفسية، بما يفسح المجال للَّطيفة الروحية في المقابل بأن تفعل فعلَها فيه. كذا فليس للمُسارَر الحقيقي علاماتُ تعرُّف في مرأى من الدنيوي: فهو يحيا في تستُّر تام، ملتحفًا برداء الصمت، مع أنه قد يُضطر أحيانًا إلى ارتداء مختلف الأزياء «الدنيوية» بحسب الظروف، الأمر الذي ليس تخفيًا على الإطلاق، إنما وسيلة لحجب نقاوة نفسه عن مظاهر الشخصية والأنا الاجتماعية التي تَجاوَزَ شرطَها. وإن فكرة اللامتجلِّي تنتظم أيضًا مناهج النقل الأسراري: الكلام والإيماء والصمت مفضلة دومًا على الكتابة التي ليست إلا فضالتها؛ والتعليم الروحي شفاهي أساسًا، ويقوم في الحاصل على الصمت الذي ينبغي أن يُعتبَر مفتاحًا للباطنية أكثر منه ضرورة تربوية.[29]
«الصمت»، بريشة جبران خليل جبران هذا المظهر من مظاهر المسألة لا يجوز قطعًا أن يُقارَن بأيِّ شكل من أشكال«السكونية»[30] الانفعالية quietism: فالصمت ليس الغفلة، و«اللافعل» (وو وِيْ wu wei في العقيدة الطاوية الصينية) ليس القعود عن العمل، كما أن اللطيفة الروحية ليست إيحاءً نفسيًّا، بل طاقة فاعلة. المُسارَرة الحق خالية من أيِّ محتوى نفساني انفعالي؛ وهي لا تتوجَّه إلى الفكر وحسب، بل إلى العاقلة وإلى كافة الملَكات العلوية التي تشارك في معرفة القوى والعناصر اللطيفة غير القابلة للتقصِّي بوسائل العلم الوضعي الحالي. غير أنه لا ينبغي بأيِّ حال من الأحوال التوقف عند مجال «العالم الأوسط» هذا إلا بمقدار ما ينبغي لظاهرات طبيعية تمامًا أن تحظى من أهمية[31]؛ بينما يصح العكس على المتصوف الشعبي mystic الذي، إذ يكابد هذه الظاهرات، تكون له بمثابة عقبات في سبيل الانعتاق. وحتى في حالات تدخُّلها النادرة نسبيًّا في هذا العالم، فإن البواعث والوسائل المباشَر بها لا صلة لها البتة ببواعث ووسائل تلك «العلوم المتخصصة»، غير الواعية والمؤذية عمومًا، التي لا يهتم بها إلا غير المؤهلين لقبول مُسارَرة صحيحة نظرًا لضعف ملَكاتهم العقلية والخُلُقية. غير أن أعلى الدرجات الأسرارية تترافق مع تفتح ملَكات متعالية، «كرامات»، تتسم بها الأنوار الروحية، يفرزها عن الظواهر النفسانية فرزًا واضحًا استقلالُها حيال القيود الجسدية والجسمانية والذهنية والزمكانية. والواصل إلى هذه المقامات الروحية الشاهقة يكاد لا يهتم مطلقًا بحشد هذه الملَكات الناتجة عن اندماجه في المبدأ الأول أو اتحاده به إلا بما فيه فائدة للآخرين ومساعدة لهم. مراتب المُسارَرة إن الدرب الذي يقود إلى الغاية الأسمى هو عكس الدرب الذي تسير عليه البشرية، من العصر الذهبي إلى الأزمنة الراهنة (العصر الحديدي)، مرورًا بالعصرين الفضي والبرونزي؛ إذ إن مختلف العصور الأسطورية التي اجتازتها البشرية تقابل مختلف مراتب المُسارَرة التي تستعيد العصر الذهبي بالرجوع، شوطًا فشوط، بعكس سير التاريخ. ومفهوم المراتبية hierarchy يغطي مجمل كلِّ منهاج أسراري فيما يخص مؤهِّلات أعضائه وأدوارهم؛ وهو لا يتأسَّس على الصلات بين الحَرام والدنيوي وحسب، كما أشرنا، بل ويَسِمُ بِسِمَته بنيان المنقول نفسه. ولنشدِّد هاهنا على أن هذه المراتب ليست منفصلة إطلاقًا بعضها عن بعض، وإنما تتوافق واستعدادات كلِّ امرئ للمضيِّ أبعد على الطريق. وفي التطبيق، أي في حياة الروح، تُشبَّه مراتبُ المُسارَرة رمزيًّا بدرجات السلَّم؛ والمطلق وحده يؤلِّف بين كافة أحوال الوجود الممكنة أو درجاته، مؤهلاً للتحقق بها فيما يتعدى كلَّ خصوصية نظرية. وبحسب رمزية السلَّم الآنفة الذكر، تشير «المراتب» المختلفة إلى الأشواط المتوالية للمُسارَرة، أي إلى درجات الكمال أو «المقامات» التي يرتقي إليها المُسارَرون. ثمة دومًا تنظيم، معقد غالبًا، يشرف على اصطفاء المريدين ويسهر على احترام المأثورات؛ كما أن هناك تدرُّجًا دقيقًا يُراعى في أداء الشعائر وفي الكشف التدريجي عنها للمنتسبين. و«الاصطفاء الأعلى» هو الذي يشير إلى مرتبة «الناطس» Adept («الصوفي» أو «الواصل» في الإسلام، تمييزًا له عن «المتصوف» أو «السالك»). والمفاهيم التي أوردناها في إيجاز هي أساس كلِّ أوصاف «العالم الكبير» makrokosmos و«العوالم السماوية»، بمراتبها الخاصة بالملائكة ورؤساء الملائكة المقرَّبين أو الآلهة، التابعة جميعًا لـ«ربٍّ» أعلى ليس إلا «وجه الله» («الوجه الكبير» Makroprosopos في القبالة) الذي يبقى بعد أن «يهلك كل شيء»، على حدِّ التعبير القرآني (القصص 88). إن إطلاق اسم «الرب» أو الـغورو guru الأعلى على الله لهو أمر ذو مغزى؛ إذ ينبغي فهمه بوصفه المصدر النوري الضامن لصحة المُسارَرة المتحققة في كمال الحالة الإنسانية التي لا تنفصل فيها عنه إلا مسافة «قاب قوسين أو أدنى»[32]، كما جاء في القرآن أيضًا (النجم 9). وهذه «المسافة» تعني أيضًا أن اللطيفة الروحية لا تفعل أبدًا مباشرة، بل بواسطة معلِّم أو مرشد يقود المُسارَر إلى إمكانية اقتبالها. لكن ثمة، مع ذلك، حالات شديدة الندرة لا تخضع فيها هذه اللطيفة مطلقًا للقيود أو الشروط المحدِّدة لوجودنا البشري الأرضي، وتمنح «مَدَدَها» لكائن يتعذر عليه، لأسباب طارئة، أن يلتحق بتعليم مركز أسراري مقبول معتمَد (كنمط المُسارَرة الذي تلقَّتْه السيدة مريم العذراء مثلاً).
أيقونة بيزنطية تمثل «بشارة» (مُسارَرة) الملاك جبريل لمريم «البتول» عودًا على بدء، يتصل المعنى العميق للمرشد guru (بالسنسكريتية «كاشح العتمة») بمعنى السر مباشرة. وبالفعل، فإن المرشد الإنساني ليس غير بديل مؤقت عن «المرشد الداخلي» المقيم في «سر» الإنسان، الذي هو المبدأ الوحيد الذي يقود إلى التحقق بـ«الهوية المطلقة» Supreme Identity. وإن دور المعلِّم يتلخص أساسًا في مساعدة المُسارَر الجديد على التواصل مع معلِّمه الداخلي. ومع أن هذه المهمة عظيمة الأهمية، إلا أن الممكن أحيانًا الاستغناء عنها في تلقِّي «اللطيفة»، شريطة العمل ضمن حلقة من المسارَرين. تلكم هي المظاهر العامة للطريق الأسرارية. وهي تتلخص في التقيد الأخلاقي بقواعد الحياة الروحية، ليس على المستوى «الناهي» للعقيدة، بل على مستوى الفهم الروحي والامتثال للأمر الداخلي والتناغم مع مبدأ الأشياء كلِّها. ملاحظات ختامية تقتصر مبادئ المُسارَرة في الظروف العادية على قوانين طبيعية يتعذر فهمها، إنما يُكتفى في البداية بالتبصر بها وبتطبيقها دون وعيها وعيًا تامًّا؛ وعلة ذلك أن للمنقول القديم أصلاً فوق بشري يكفل «عصمة» عقيدته فيما يتعلق بفهم هذه القوانين وبالتناغم معها. بيد أن الاطلاع على هذه العقيدة اطلاعًا نظريًّا بحتًا ليس شيئًا في حدِّ ذاته، وكذلك الاطلاع على الرموز والشعائر التي تمثل لها؛ إذ إن المعرفة النظرية لا تكتسب مشروعيةً إلا بمقدار ما تترافق بدرجة روحانية تتوافق معها. لذا فإن كشف النقاب عن فحواها أقل أهمية بكثير من فهم إشاراتها واستيعابها باطنيًّا. تتضمن هذه «الإشارات» جملةً من الظاهرات أو «المنشآت» المأثورة، حتى بالمعنى الأكثر ظاهرية للمصطلح. ولئن اكتُفِيَ بمجرد وجهة نظر إپستمولوجية، فإن سيرورة المُسارَرة وعناصرها النظرية تزود العقل بمفاتيح فعالة لتأويل الظواهر الثقافية كافة في مجتمع نقلي أصيل. وهذا جليٌّ خاصة فيما يتعلق بالبُعد الرمزي الذي تهمله العلومُ الإنسانية الحديثة بخاصة والذي وحده خليق بأن يسلط الضوء على تأويل الأساطير والفنون القديمة والشعائر والشرائع والأخلاق والدين والتراث الشعبي واللغة، ناهيك عن المجال الروحي حصرًا، أي الإلهيات الخالصة. وغني عن القول إن المنقول يخالف في اتجاهه سيرورة الانحطاط الدوري التي بقي على البشرية أن تتصدى لأطواره الأخيرة في الدور الجزئي الذي تشهده، من حيث إن كلَّ الحركة التاريخية التي تعرِّف بفكرة «التقدم» قائمةٌ على «مزايا» المذهب المادي الفظ الذي ليس لعواقبه إلا أن تقلِّص حدود الإنسان أكثر وتجرفه في اتجاه عيش يقتصر من الحياة الإنسانية على جانبها «الحيواني»، الشهواني، فيختزل الإله الهاجع في الإنسان إلى «شيء» هو أدنى مرتبة من الحيوان. وهذه الحركة عينها قد سبق لها أن أدت إلى ترجمة الوحدة الجوهرية إلى التماثُل ومحاكاة النموذج الواحد، وترجمة اللانهائي إلى اللامتعيِّن، والكيف إلى كم، والواجبات الأخلاقية والروحية إلى «حقوق» مادية، والانعتاق الروحي إلى حرية التفكير (على أهميتها النسبية)، والتحرر من قيود الشخصية إلى ضياع الفردية، والعقيدة إلى المعتقد، واليقين إلى تعصب، والطمأنينة إلى أمن، إلخ. هذه التقلبات التي تجري على نطاق واسع جدًّا تساهم في اطراد في تسريع انحطاط البشرية على نحو يكاد يكون غير قابل للعكس. لكن معنى «الاكتمال» ليس موجهًا إلى «العالم» بعامة، بل ينبغي الكشفُ عنه في دخيلة النفس أو، على الأقل، التنقيبُ عن آثاره الباقية في نفس كلِّ إنسان حقيق بهذا اللقب، دون الانخداع بمستوى إمكاناته وكيفيات تحقيقه، وتجنبُ الوقوع أسرى الوهم – وهم الانفصال عن الوجود والحياة والكون والإنسان.
إننا لنعلم بأننا لم نفِ موضوعَنا ولا حتى جزءًا يسيرًا من حقِّه، وبأننا أثرْنا في هذا المقال المكثف تساؤلاتٍ أكثر مما قدَّمنا إجابات. فلعلَّه يُتاح لنا أن نعود إليه بمزيد من التفصيل في مناسبات أخرى. *** *** *** تنضيد: لينا خنشت
مراجع عامة للتوسع - Benoist, L., L’ésotérisme, « Que sais-je ? », PUF, Paris, 1980. - Benoist, L., Signes, symboles et mythes, « Que sais-je ? », PUF, Paris, 1977. - Biès, J., Retour à l’Essentiel, Dervy-Livres, Paris, 1986. - Boucher, J., La symbolique maçonnique, Dervy-Livres, Paris, 1948. - Edighoffer, R., Les Rose-Croix, « Que sais-je ? », PUF, Paris, 1982. - Eliade, M., Forgerons et Alchimistes, Flammarion, Paris, 1977. - Eliade, M., Initiation, rites et sociétés secrètes (Naissances mystiques : Essai sur quelques types d’initiation), Gallimard, Paris, 1959. - Guénon, R., Aperçus sur l’Initiation, Éditions Traditionnelles, Paris, 1986. - Guénon, R., Initiation et Réalisation spirituelle, Éditions Traditionnelles, Paris, 1992. - Guénon, R., L’ésotérisme de Dante, Gallimard, Paris, 1957. - Guénon, R., Le Règne de la Quantité et les Signes des Temps, Gallimard, Paris, 1945. - Guénon, R., Le Roi du Monde, Gallimard, Paris, 1985. - Guénon, R., Le symbolisme de la Croix, Guy Trédaniel/Éditions Véga, Paris, 1984. - Guénon, R., Les États multiples de l’Être, Guy Trédaniel/Éditions Véga, Paris, 1984. - Guénon, R., Symboles de la Science sacrée, Gallimard, Paris, 1962. - Hutin, S., L’alchimie, « Que sais-je ? », PUF, Paris, 1981. - Lancri, S. Introduction à l’étude de la Doctrine Secrète, Éditions Adyar, Paris, 1995. - Lancri, S., Doctrines initiatiques, Éditions Adyar, Paris, 1975. - Leisegang, H., La Gnose, Payot, Paris, 1951. - Mallinger, J. Les secrets ésotériques des Pythagoriciens, Niclaus, Paris, 1946. - Mallinger, J. Pythagore et les Mystères, Niclaus, Paris, 1944. - Marquès-Rivière, J., Histoire des doctrines ésotériques, Payot, Paris, 1940. - Marquès-Rivière, J., Les rituels secrets de la Franc-maçonnerie, Plon, Paris, 1941. - Persigout, G., Le cabinet de réflexion, Méré, Paris, 1946. - Schaya, L., L’Homme et l’Absolu selon la Kabbale, Dervy-Livres, Paris, 1988. - Scholem G.G., La kabbale et sa symbolique, Payot, Paris, 1989. - Schuon, F., L’Ésotérisme comme Principe et comme Voie, Éditions Dervy, 1997. - Watts, A., The Supreme Identity: An Essay on Oriental Metaphysic and the Christian Religion, Vintage Books, New York, 1972. [1] Epis. Retrac., 1: b. I, XI I I, 3. [2] الرسالة الأولى إلى الكورنثيين 2: 6-7. [3] مصطلح «المنقول القديم» من ابتكار رونيه غينون. [4] للحلاج في هذا المعنى بيت يقول فيه: تفكَّرت في الأديان جدَّ محقِّق فألفيتها أصلاً له شعب جمَّـا [5] في العقائد الهندوسية، ولاسيما التوحيد الفيدنتي، تمييز واضح بين نيرغونا برهمن nirguna Brahman، أي المبدأ منزهًا عن «الخواص» guna، وبين سَغونا برهمن saguna Brahman، أي المبدأ المتصف بالخواص. [6] لا علاقة لهذا العلم الجليل البتة بما يُنشَر اليوم من «نبوءات» ومعلومات مبتذلة في كتب «المنجمين الفلكيين» وزوايا «الأبراج» في المجلات والصحف الدورية! [7] جاء في إنجيل مرقس (4: 33-34): «وكان يكلِّمهم بأمثال كثيرة ليلقي إليهم كلمة الله، على قدر ما كانوا يستطيعون أن يسمعوها؛ ولم يكلِّمهم من دون مثل. فإذا انفرد بتلاميذه فسَّر لهم كلَّ شيء». [8] إذا اتفق لعضو في تنظيم أسراري أن يمتنع عن الكلام عن العقيدة discipline de l’arcane أو عن إفشاء أسماء «إخوانه» فيه، فإن هذا إجراء احترازي من باب الحيطة ودرء فضول العامة ليس إلا. [9] حتى الاطلاع على هذا الجانب «الفني» في أدق تفاصيله لا يمكِّن «البراني» من اختراق المُسارَرة، لأن هذه وحدها يمكن لها إضفاء المعنى على الشعائر الأسرارية. يقول ج. پرسيغو: «لم يعد ثمة شيء آخر خافٍ في أسرارنا سوى ما يقيم في حصن الكلمات المنيع». [10] وُجِدَ هذا الموقف في المواريث الفلسفية الإغريقية القديمة أيضًا. فقد كتب أرسطو، في معرض كلامه على أسرار إلفسِس في اليونان: «لا التعلم، بل المكابدة». فما يمكن «تعليمه» أصلاً، بحسب رونيه غينون، ليس إلا «الطرائق التمهيدية لتحصيل هذه الأحوال؛ أما ما يمكن التزود به من الخارج بهذا الخصوص، فهو بالإجمال عون أو مَدَد ميسِّر جدًّا للعمل الواجب إنجازه، وكذلك رقابة تنحِّي العقبات والمخاطر التي يمكن لها أن تظهر». [11] يقول يسوع: «لا تعطوا الكلاب ما هو مقدس، وتلقوا لؤلؤكم إلى الخنازير، لئلا تدوسه بأرجلها ثم ترتد إليكم فتمزقكم». (إنجيل متى 7: 6) [12] Adversus haereses, 1, 24, 6. [13] المخيلة، بحسب پاسكال، هي «سيدة الأغلاط والزيف». [14] الرسالة الثانية إلى الكورنثيين 4: 16. يقول القديس بولس أيضًا: «فقد خلعتم الإنسان القديم وخلعتم معه أعماله، ولبستم الإنسان الجديد، ذاك الذي يسير إلى المعرفة الحقيقية في تجدده على صورة خالقه» (الرسالة إلى الكولوسيين 3: 9-10). [15] إنجيل يوحنا 6: 63. [16] «الروح القدس» بالمصطلح المسيحي أو «البركة» في التصوف الإسلامي؛ ومن هنا مصطلحات من نحو «السلسلة الرسولية» في المسيحية و«سلسلة البركة» في التصوف. [17] يمكن للباحث الأنثروپولوجي، بهذا الصدد، أن يصوغ فينومينولوجيا كاملة من جملة الرموز المستعمَلة في الطقوس والأساطير المقدسة ومن سلسلة الثيمات التي تبطِّن الشعائر والامتحانات المتنوعة، لكنْ المتقاطعة، الملازمة للأسرار. ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن سيرورة المُسارَرة، على اختلاف صورها، تبدأ دومًا بـ«سَفَر» في الظلمة، يشاهِد فيه المتلقي مناظر مروعة، ويكابد «محنًا»، الغرض منها تحريض الشعور بالموت. يقول فلوطرخُس: «النفس ساعة الموت تكابد الشعور نفسه الذي يكابده المُسارَرون بالأسرار الكبرى. إنها تبدأ أولاً بجَرْيٍ بلا هدف، بدوران مُضْنٍ، بمسير مفزع في الظلمات لا ينتهي. ثم، قبل بلوغ المنتهى، يبلغ الرعب أوجَه: ارتعاش، رجفان، عرَق بارد، هلع». لكن الشعور بالموت يليه عروجٌ إلى النور واستنارة مفاجئة؛ فكما يقول فلوطرخُس أيضًا: «ثم يشرق في العينين نور باهر، ويجتاز المرء أماكن طاهرة ومروجًا تصدح فيها الأصوات والرقصات: كلمات مقدسة وظهورات إلهية تُلهِم الخشوع. إذ ذاك فإن المرء، وقد فاز بالكمال وسورِر [بالمعرفة]، يصير حرًّا ويجول بلا قيد، محتفيًا بالأسرار [...]». [18] على سبيل المقاربة، نقول إن «شعائر العبور» في المجتمعات البدائية، التي تعمَّق في دراستها الباحثُ مرتشا إلياده (فليراجَع بهذا الخصوص كتابُه الولادات الصوفية)، «تحقِّق» الطفرةَ بين الطفولة والرشاد؛ لكن الراشد منطوٍ بالقوة في الطفل. [19] كتب رونيه غينون: «ليس الأمر هنا عبارة عن تواصُل مع كائنات أخرى، بل بلوغ المرء نفسه وتحقيقه حالاً فائقة للفردية كهذه، لا بوصفه فردًا بشريًّا بطبيعة الحال – الأمر الذي لا يُعقَل طبعًا – بل بوصفه الكائن الذي يتجلَّى كفرد بشري في حال معينة تنطوي في ذاتها أيضًا على إمكانات الأحوال الأخرى جميعًا». [20] المُسارَرة، بما هي «سلوك» (بالمصطلح الصوفي الإسلامي)، تحتاج إلى «تسليك»، وبالتالي، إلى «مسلِّك». [21] إنجيل يوحنا 3: 3. [22] جاء في الحديث الشريف: «ما من آية من آيات القرآن إلا ولها ظهر وبطن، ولكلِّ حرف حدٌّ ولكلِّ حدٍّ مطلع». و«المطلع»، بحسب الكاشاني، هو «مقام شهود المتكلم عند تلاوة آياتِ كلامه، متجليًا بالصفة التي هي مصدر تلك الآية». [23] يقول بولس الرسول للكورنثيين (الرسالة الأولى 3: 1-3): «[...] لم أستطع أن أكلِّمكم كلامي لأناس روحانيين، بل لبشر كالأطفال [...]. قد غذوتكم باللبن الحليب، لا بالطعام، لأنكم ما كنتم تطيقونه، ولا أنتم تطيقونه الآن؛ فإنكم لا تزالون بشرًا». [24]حتى يصحَّ للـ«براني» أن يصير «مُسارَرًا»، لا بدَّ من أن يتصف باستعدادات طبيعية معينة تؤهله لاقتبال المُسارَرة، تظل الشعائرُ الأسرارية في غيابها معطلة المفعول، خاويةً من أيِّ مضمون. [25] من هنا إصرار علم الباطن، أيًّا كان الشكل النقلي الذي يحتضنه، على ضرورة الانتساب إلى «منقول قديم» (غينون) – سابق حتى للعالم الذي نحيا فيه – عِبْر سلسلة نظامية غير منقطعة. وإلى هذا النقل «الأفقي» الزمني، الضروري لصيانة الموروث الأصلي خلال الأشواط المتوالية التي تمر بها البشرية، يضيف بعضُهم نقلاً «عموديًّا» لازمنيًّا، أي متوجهًا من «الفائق للبشر» إلى البشري. من هنا فكرة «الكنيسة غير المنظورة»، المستورة عن أعين البرانيين، عند جماعة «صليب الوردة» Rosicrucians وغيرهم من أهل الباطن. رونيه غينون، من ناحيته، يتبسط في فكرة وجود «مراكز روحية»، متصلة جميعًا بـ«مركز أعلى يشكل المستودع الدائم للمنقول القديم» على الأرض (راجع كتابه ملك العالم). [26] وهو كذلك مصير تنظيمات أسرارية معاصرة، كجمعية «البنائين الأحرار» (الماسونية)، على سبيل المثال لا الحصر. [27] هناك أيضًا في عالم اليوم عدد لا يصدَّق من المنظمات التي تستلهم ما هو الأكثر سطحية في المنقول أو تتعين به، فتخدم بذلك مآرب «مريبة». والمقصودة بذلك هي الجمعيات السرية ذات الرموزية الملفقة أو الأسرارية الكاذبة التي ليست أهدافها «روحية» حصرًا؛ ناهيكم عن التجمعات «الدينية» المؤلِّفة للنِّحَل sects، أي الانشقاقات، ما يتناقض مع شمولية الباطن ووحدته الأساسية. [28] الأديان كلها، من حيث كونها تتوجه إلى جميع البشر، دونما تمييز بين مستويات التفتح الروحي، وسائط «نجاة» لا وسائط «انعتاق»؛ غير أن علم الباطن أسبق من الدين. كتب غينون: «حيثما بالدقة يتخذ [علمُ الباطن الدينَ] قاعدةً، بوصفه وسيلةَ تعبير وتحقيق، لا يفعل شيئًا آخر سوى رَبْطه بالفعل بمبدئه، ويمثل في الواقع، بالنسبة إليه، المنقولَ السابق للأشكال الخارجية الخاصة كافة، دينية كانت أم غير دينية». [29] المفتاح الاشتقاقي للكلمات اليونانية التي تتضمن معنى «السر» (من نحو mythos وmystêrion وmystêkos) هو مفهوم الصمت. ومن المعلوم أن كبار الحكماء، من نحو البوذا وسقراط ويسوع، لم يكتبوا؛ والرسول العربي «أمِّي» للسبب نفسه. [30] من الكلمة اللاتينية quietus التي تفيد معنى «السكون»؛ وهي مذهب يقوم على مؤلفات الراهب الإسباني مولينوس (توفي في العام 1696) الذي رأى الكمال المسيحي في الاستسلام لمحبة الله وللسكينة المنفعلة المطمئنة للنفس. [31] نهتبل الفرصة هنا لبيان أن هذا المجال هو حصرًا مجال السحر والعلوم الغيبية؛ ولكنْ في حين أن هذه العلوم لا تفتش فيه إلا عن وسائل للتأثير على الآخرين، قد يُعرَّف بمراميها بنوايا «شيطانية» تحديدًا، فإن المُسارَر، في المقابل، لا يعزو إلى هذه القوى إلا قيمة الأدوات الزهيدة التي يسيطر عليها بمقتضى الضرورة، فيما هو يرغب عنها أساسًا. [32] تشير رمزية «القوسين» إلى «الوجود» و«العلم». |
|
|