|
أنا سليل جمهورية أفلاطون وابن عربي وميشيل فوكو الاعتراف بالآخر ضرورة وجود، ولو تجرَّدنا من أثر الغرب سنخرج عرايا إلى الشارع!
يرى المفكر اللبناني د. علي حرب أن الواقع الذي نعيشه لم يعد معطى بسيطًا، بل أضحى يتخطانا وأمسى مفتوحًا على احتمالات عديدة وسط التغيرات الكاسحة التي تجتاح عالمنا.
وقال أستاذ الفلسفة في حوار أجرتْه معه الشرق الأوسط، في أثناء زيارته الأخيرة للقاهرة، إن التراثيين والحداثيين في عالمنا العربي، من حيث الفشل على أرض الواقع، وجهان لعملة واحدة، لافتًا إلى أن المثقف صاحب الدور النخبوي والرسولي قد تراجع كثيرًا في ظلِّ «مجتمع الفرجة» الجديد الذي بات يسيطر عليه الإعلامُ وآلياتُه. كما تطرَّق الحوار إلى قضايا أخرى. وفيما يلي نص الحوار. ص.ش. ***
ما دور الفلسفة حيال مشكلات العالم الضاغطة الآن، مثل: الديموقراطية، العولمة، العَلْمَنة، النظام العالمي الجديد، وغيرها؟ الفلسفة صناعة مفهومية. فمهمة الفيلسوف مواجهة المشكلات، وتحليل القضايا وإخضاعها للدرس والتحليل، وذلك لخلق وقائع معرفية جديدة. فالحقيقة ليست فقط معطى مسبقًا جاهزًا يقوم بذاته وعلينا معرفته، بل الحقيقة هي ما نقدر على خلقه. وفي المجال الفلسفي، تتجلَّى الحقيقة في القدرة على خلق أدوات للفهم. وهذا المفهوم يكتسب أهمية خاصة في العالم العربي، ولاسيما أن الكثيرين من المشتغلين بالفلسفة يتعاملون مع مهمتهم تعامُلاً إيديولوجيًّا، فيطرحون مشاريع تقوم على نفي العالم والواقع؛ فأفكارهم تحتاج إلى واقع آخر «فردوسي»! والنتيجة، كما نعلم، فشل المشاريع الفكرية. تقول ساندرا لوجيه في كتابها هل يجب بعدُ الإصغاء إلى المثقفين؟ ما مفاده أن «المعلِّم الفرد» تهاوى على صعيدين اثنين: الأول بسبب ثورة المعلوماتية، والثاني بسبب سقوط الأحزاب العقائدية التي كانت توفر للمعلِّم قاعدة دفاع. فالطبقة المثقفة، التي تحتضر بالتقرب من السلطة، أضرَّت بمصالحها الذاتية، فراجت سوقُ العرض والطلب، ورفع الساسةُ شعار: «إذا أردتَ شراء مثقف يكفي أن تقدِّم له وظيفة أو منصبًا». ما رأيك في هذا الكلام؟ أنا أعتقد أن ما حدث من تحولات في العالم يتمثل في الانتقال من عصر الصناعة والحداثة إلى عصر المعلومة، من اللغة الأبجدية إلى اللغة الرقمية. حدث تحولٌ كبير أثَّر في مختلف وجوه النشاط البشري؛ بل إنه خلَّف تأثيرًا في مختلف عناوين الوجود الإنساني، وفجَّر علاقتنا بالزمن والمكان، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي، بل وعلى الصعيد المعرفي والرمزي والخُلُقي بالذات أيضًا، فضلاً عن الأصعدة الأمنية والصحية والإيكولوجية – الأمر الذي غيَّر علاقتنا بمفردات وجودنا وطَرَحَ تساؤلاتٍ حول دور «النخب المثقفة». ما يحدث الآن، في تصوري، يضع نهايةً للمثقف صاحب الدور النبوي الرسولي، بقدر ما يؤدي إلى ولادة فئة جديدة في المجتمع البشري، وهم الإعلاميون العاملون، الذين ينخرطون في «مجتمع الفرجة» la société du spectacle، بحيث إن الرأي العام اليوم لم يعد يشكِّله فقط الكتابُ والأوصياء على الحقيقة. دور هؤلاء انتهى الآن، ولا بدَّ من استخدام الشاشة أيضًا. نحن في زمن الكتروني لا يمهل كثيرًا، بل هو يهمل إذا لم نحسن التعاطي مع أدواته. بهذا المعنى، ليست المسألة مسألة «فساد نخبة»، كما يظن كثيرٌ من المثقفين الذين يقفزون فوق المتغيرات، ليتهموا غيرهم بأنهم خرجوا عن الحظيرة! فمَن يقف ضد العولمة أو السوق أو الشبكة العالمية يقف ضد وقائع لا عودة عنها. والأَوْلى بنا أن نُخضِعها للتحليل والدرس لكي نشارك في صناعة الحدث. فالمثقف فاعل ومنتج في وجه من وجوه النشاط البشري. من جانبي، لا أقول إنني أنتمي إلى «نخبة» – فنحن أقل الناس تأثيرًا في المجتمع، ومع ذلك نسمي أنفسنا «نخبًا»! – إذ إن هذا الوصف غير دقيق، وهو أشبه بخداع النفس. فلنتصور أنفسنا أصحاب مهنة وصناعة، مثلنا كمثل الآخرين. فلا أحد يحتكر المعرفة! هل القائمون على صناعة هذا «الفرجة» في عالمنا العربي مدرِكون لأهمية دورهم؟ أرى أن الأكثرية لا تدرك هذا الدور؛ إذ لا تزال العقلية «النخبوية» هي السائدة. قلة تحاول إعادة رسم الصورة. ولذلك فعدم الاعتراف بالواقع نتيجةٌ لقلة الجدوى وحصاد مزيد من الهامشية.
هل لدينا «فلاسفة عرب» بالمعنى الدقيق للكلمة؟ اليوم هم كثيرون. فمن نتائج عصر العولمة التعددُ والتباينُ من حيث الإنتاج الثقافي، في الشعر والرواية والفن عمومًا. والفلسفة، في العقود الأخيرة، مارست حضورًا لافتًا وازدهارًا في العالم العربي. فهناك إنتاج فلسفي مارس حضوره، وهناك فلاسفة لاقى إنتاجهم حضورًا ورواجًا أكثر بكثير من المؤلَّفات الشعرية. الفكر الفلسفي العربي، كمًّا ونوعًا، حقَّق نقلة. عُقِدَ مؤتمرٌ عالمي للفلسفة باسطنبول ومؤتمرُ "الاتحاد العالمي لمنظمات الفلسفة"، بمشاركة أكثر من 1700 عالم وفيلسوف من 85 دولة – ماعدا الدول العربية والإسلامية. كيف ترى ذلك؟ لا أدري ما هي الظروف التي لم تسمح بدعوة فلاسفة عرب؛ لكن ذلك لا يعني عدم وجود فلاسفة في العالم العربي. هناك أسماء بارزة معروفة كان يمكن دعوتها. وأنا لا أدَّعي أننا – كعرب – أنتجنا نظرياتٍ أو مفاهيم جديدة قياسًا إلى ما هو منتَج في العالم. ما هي العوائق التي تحول دون هذا الإنتاج؟ هناك عوائق كثيرة حاولت أن أحلِّلها في كتابي المشروع الحضاري للعرب: مثلاً، غلبة الطابع النضالي على مشاغل الفيلسوف، الذي يتصرف بوصفه «مناضلاً»، بدلاً من فيلسوف منتج للمعنى. فبعضهم طرح فكرة إنتاج بيان لإدانة الغرب على عقود الاستعمار وتحميله مسؤولية التخلف في العالم العربي – وأنا أخالف هذا. فلو أراد الواحد منَّا أن يتجرد من أثر الغرب عليه لخرج إلى الشارع عاريًا! لا بدَّ من ممارسة أصولية بطريقة عالمية – فقد أُتخِمنا نضالاتٍ فاشلة! –؛ وبذلك أخدم اللغة والثقافة العربيتين، وحتى القضية الفلسطينية التي نتذرَّع بها دومًا: فالشكوى العربية غير المنتجة اليوم، دفاعُها عن القضية الفلسطينية عبءٌ على هذه القضية. نحن نسهم في تشويه صورتنا، التي لا يسهم في تشويهها فقط بعضُ الأصوات المتطرفة في الغرب. وهذا التشويه يعود في بعضه إلى عدم إنتاج ما يستفيد منه الآخرون. هل الثقافة عندنا تعادي الفلسفة؟ ليس في المطلق. بعض الأوساط الدينية الأصولية – قديمًا وحديثًا – يعادي الفلسفة. هذا جرى حتى في أثينا، فتم إعدام سقراط، وكذلك في المجتمعات الحديثة. فالفلسفة، بوصفها تضع البداهات والثوابت موضع تساؤل وتحليل وتشريح، تعرِّض أصحابَها إلى التهمة من جانب الأوساط «الأصولية»، أيًّا كانت «الديانة»، أصولية قومية أو طبقية. مثلاً، الفلاسفة في ظل النازية تعرضوا لضغوط، وأيضًا في المجتمع السوفييتي. فمَن يشتغلون بالفكر النقدي يتعرضون لضغوط حتمًا. قال ابن رشد: «إن الفلسفة للخاصة وليست للعامة؛ إذ إن العامة لا تطيقها ولا تقدر على فهمها، بل هي تسيء ذلك. فلا يجوز إذن أن تُذاع الحقائقُ أمام الجمهور». كيف ترى ذلك؟ ابن رشد يعتقد أن العامة لا تدرك من الحقيقة إلا المثالات والمشاهد. ولهذا يرى ابن رشد أن القرآن نزل للعامة في الأساس. أما «المعرفة من الدرجة الأولى»، من وجهة نظره، فهي معرفة الفلاسفة. وهناك «معرفة من الدرجة الثانية»، وهي معرفة علماء الكلام أو القيِّمين على الأمور الدينية؛ وهؤلاء، برأي ابن رشد، مفسِدون، لأن معرفتهم لا يفهمها الجمهور. ولذلك أنا لا أرى في ابن رشد مفكرًا «حديثًا»، بل مفكر ينتمي إلى العصور الوسطى. ليُفسَح المجال لكلِّ مَن يعبِّر عن رأيه، سواء كان مشروعية دينية، سياسية، أو أية مشروعية أخرى. ومن مهمات الفلسفة إخضاع ما يقوله الدعاة. فلا غنى لأيِّ مجتمع عن حماة ودعاة يدافعون عن الهوية؛ ولا يمكن استئصال الدعاة – وإلا حوَّلنا المجتمع إلى مجتمع إرهابي. وأنا أخالف ابن رشد في قوله بمجتمع الخاصة والعامة؛ بل أنا مع «مجتمع الاختصاص». الفرق بين الفيلسوف وغيره ليس فرق رتبة، بل فرق مهنة، ليس إلا. فمصمِّم الأزياء، هل أعدُّه من العامة؟ قارنت مرة بين مصمِّم أزياء مبتكِر، يخرق السقف الوطني إلى العالمي، وبين «مفكر» ليست لديه أفكار جديدة. في القرآن، التفكير ميزة الإنسان؛ وكل إنسان يمارس علاقته بفكره ممارسةً حية. ولا ضرورة للتمييز بين الناس على أساس طبقي معرفي، بل يجب الاعتراف بالآخر، أيًّا كان. كل الناس تمتلك المعرفة، والفرق يكون في كيفية استخدام العقل. هيغل قال إن «المسيحية هي الطريق المطلق للثورة الفرنسية». هذه النظرة تزداد في عالمنا الراهن انتشارًا. ما تحليلك لتزايد الأصوليات في العالم؟ تحويل العلاقة بين النصوص والتراث إلى مؤسسة للمحاكمة والإدانة – هذا شيء مؤسف! ومن ثم فالأصولي يتهم مَن لا يشبهه بالكفر أو التخريف، أو بالعَمالة مثلاً. قد يكون الفقر والبطالة من الأسباب التي يستخدمها بعضهم في مشاريع شمولية تجعل البشر أدوات تنفيذ. ومن الممكن أن يكون الخلل في العقل والثقافة، كما هو الشأن في الأصولية الإسلامية؛ وكذلك الأمر في الولايات المتحدة: فهم يتصرفون بوصفهم أصحاب مهمات متعالية لإنقاذ البشرية! وبرأيي أن هناك أسبابًا أسميها «الأمن الثقافي». هناك أيضًا الكوارث البيئية والأمراض، ناهيك عن العنف الموجود حاليًّا، الذي لا يوجد له نظير في التاريخ، بالإضافة إلى الرعب التقني المستشري اليوم. هناك اليوم هوة بين ما يفعله الإنسان وبين ما يتوقَّعه: فقدرة الإنسان على الفعل أصبحت هائلة، وقدرته على التوقع ضئيلة. هذا كله يدفع الكثيرين إلى التفكير بالجانب الأخروي. أيضًا شهوة التكالب ومنطق التميز والتفاؤل العنصري – هذه المنازع البشرية كلها هي التي يتغذى منها هذا التميز الذي يتفجر عنفًا «فائقًا»، باعتبار أننا في «عصر الأدوات الفائقة».
برأيك، ما الحل لترويض هذا كله؟ ألقيت محاضرة بعنوان «الإنسان الأدنى»[1]، أقول فيها إننا أقل شأنا بكثير مما ندَّعي. فلنخفف في خطابنا من مفردات «القدسي» و«المتعالي» و«الكامل» و«النموذجي» – فهذا كله لا يصنع إلا الدمار. بعضهم يعتقد أنهم «خير أمة»، وآخرون يعتقدون أنهم «خير نموذج» – هذه هي الأفضلية الخانقة ومنطق الإقصاء. نحن نعتقد أنفسنا أرقى من الحيوان، على الرغم من أن الحيوان لا يضر نفسه ولا غيره؛ بالعكس، نحن الذين نضر أنفسنا، ونضر غيرنا، ونضر الحيوان! فنحن كائنات تعرف وتدعي الذكاء، لكننا ندمِّر بقدر ما ندعي.
ما الذي يسيِّر التاريخ؟ وهل من الممكن التنبؤ به؟ التاريخ يصنعه البشر. ولكن لا يعني ذلك إطلاقًا أن البشر يقبضون على قوانين التاريخ أو يسيِّرون العالم كما يريدون له أن يكون. هل ثمة دور للإرادة العليا؟ ما رأيك في ذلك؟ ليس بسبب الإرادة العليا نتجاوزهم، بل الواقع نفسه يتجاوزهم. نحن أحيانًا نخلق وقائع: فأنا، حين أعلن الحرب، أخلق حدثًا؛ ولكن هذا الحدث يتعداني، لأن له مفاعيل وتداعيات لا يمكن لي أن أحصرها، لأن أية أحداث واقعة تختزن إمكاناتها، وهي واقعة مشرعة على احتمالاتها وأبعادها المتعددة. نحن نعتقد بأننا أسياد أنفسنا أو أسياد على الوقائع، لكن هذا وهم كبير. اليوم، بعد قرون من الحديث عن العقل والعقلانية وعن أن العقل يحكم العالم بالتنظيم المحكم، ها هي ذي الوقائع تفاجئ الإنسان من حيث لا يحتسب! ما هذا العنف؟! ثمة أحداث تداهمنا من حيث لا نحتسب. إذن، لا بدَّ أن نعيد النظر في مسائل كثيرة. فالواقع ليس معطى بسيطًا. النص أنا أكتبه، لكنه يتعداني: كل قارئ يقرأ في هذا النص ما لم يقصده مؤلِّفه، وكل قارئ يقرأ قراءةً مختلفة عن الآخر. إذا تغير المفهوم عن المعطى، سواء كان نصًّا أو حربًا أو قرآنًا، فلا يزال «النص» نصًّا مفتوحًا، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه يقبض على المعنى فيه. والذين ادعوا أنهم احتكروا التفسير والمعنى هم أكثر الناس انتهاكًا للتعاليم والمبادئ التي طرحوها من منظور إسلامي وديني. مثال على ذلك: الثورة الفرنسية والحداثة. لماذا ولدت الثورة الروسية وأحداث 11 سپتمبر؟ هذا كله لا يحتمل تفسيرًا واحدًا، ولا يمكن اختزالُه. وجود ما نُفاجَأ به دومًا يعني أننا لا نسيطر على المعنى. فالأَوْلى بنا أن نعيد النظر في الواقع وفي أفكارنا، بحيث نستطيع بها أن نقبض على الواقع أو على «قوانين التاريخ»، كما ادعى ماركس. البشرية الآن عاجزة. فعلى الرغم من الشعارات الكبيرة، يزداد العنف، وكذلك الفقر والتسلط.
هناك مَن يعتقد أن بإمكانه أن يضع خطة لكي ينفذها – وهذا وهم كبير. فأنا، إذا كنت أنجح، فمعنى ذلك أن الفكرة التي انطلقتُ منها تتحول، وأن الأهداف التي أريدها قد أصبحت معدَّلة. فالخطة التي ننطلق منها والوسائل – ذلك كله يتغير في أثناء العمل. الصناعة تحويل، لا إنتاج؛ فلا إنتاج أو إبداع بلا تحول. والإبداع تحوُّل بطريقة مثمرة. لذلك لا يفكر أحد أن لديه حلاً أمثل أو نهائيًّا، كما يدعي الكثيرون ممَّن يرفعون شعارات من مثل: «لا حل إلا بالاشتراكية»، «الإسلام هو الحل»، «المجتمع المدني هو الحل»، «الديموقراطية هي الحل» – هذه الشعارات كلها مدمِّر، – حتى الديموقراطية، – لأن أيَّ شعار يتم التعامل معه تعامُلاً أحاديًّا مطلقًا سيفشل، ولو كان العقل. فالذين قدَّسوا العقل وقعوا ضحيته. إذن، كيف نفسِّر هذه الفوضى وهذا اللامعقول؟ كيف نفسِّر انفجار العقلانية الحديثة على أرض الواقع؟ يفسِّرها تقديس العقل – وهو الوجه الآخر لفقهاء الشريعة. فالحداثيون والتراثيون في العالم العربي وجهان لعملة واحدة. لا وجود على هذه الأرض إلا لليوميِّ والمعيشي والمحسوس والدنيوي والمتحول والمتغير – ونحن في عصر التحولات الجذرية الهائلة الكاسحة. أيُّ مشتغِل اليوم، في أيِّ مجال، لا يطمئن إلى المعطيات التي بين يديه، لأنه ربما تتغير المعطيات غدًا – وهذا يسبب أزمة. إذن، يجب أن نكف عن التبجح الإنساني. وأنا أفترق بهذا عن الحداثيين، في الشرق والغرب على حدٍّ سواء: من تشومسكي إلى أدونيس، من پيير بورديو إلى حسن حنفي، أو من إدوارد سعيد إلى محمود أمين العالم. السقف لدى هؤلاء دومًا هو الإنسانية. القدامى والحديثون وجهان لعملة واحدة من حيث الفشل على أرض الواقع.
لكن هؤلاء وأولئك – أي أنصار القديم وأنصار الحداثة – يقولون إن الفشل في التطبيق؟ هذه أكبر خديعة يمارسها الإسلاميون والحداثيون؛ فهم يظنون أن هناك نموذجًا لنظرية مثلى تجعل العالم أفضل. ومن هنا جاءت صياغتي حول العالم والفكر: أشير فقط إلى «العقل التداولي»، الذي هو أطروحتي في كتابي العالم ومأزقه[2].
هل تقف إلى جانب الشيطان؟ نيتشه كان مؤمنًا أكثر بكثير مما نتصور. فلو لم يكن مؤمنًا لما جُنَّ! هو يفتش عن قيمة عليا وهو ينتقد الديانات، وكذلك الفلسفة التي تحولت إلى حروب طاحنة. نيتشه منطوق خطابه أنه غير مؤمن، لكن غير المنطوق أنه مؤمن أكثر بكثير مما نظن. لديَّ براءة زائدة؛ ولذلك قد يتم استدراجي في لعبة شيطانية يتقنها بعضهم. لهذا يسوؤني أن أجد نفسي أكثر مثالية من بعض رجال الدين المتقنين للُّعبة الأرضية. إني أشغِّل عقلي، ولكن بالمعنى الخُلُقي، بمعنى أن هناك معايير تحكم عملي؛ وهذه المعايير آتية من صميم الثقافة الإسلامية الدينية التي رباني أهلي عليها. فأنا تربيت على قراءة القرآن، ودخلت الكُتَّاب في المرحلة الأولى. فإذا كان الله هو الحق، فإن صلتي بأيِّ إنسان هي من وجهين: الأول على الصعيد المعرفي، كوني أنتج حقائق، وعلى الصعيد العملي. وإذا كنت أحيانًا انزلقتُ وتكالبتُ على الحكام في حمأة الصراع مع أندادي على أرض الواقع، فلست ممَّن يتعطَّلون من كلِّ قيمة أو معيار أو قاعدة. لقد أسهمتْ آياتُ القرآن البيِّنات في تشكيل ذاكرتي اللغوية وفي تشكيل علاقتي بالمعنى بالذات؛ وحتى لو خرجت عليه، فأنا أثر من آثاره. بينما هناك إسلاميون يدَّعون حمايتَهم النصَّ والوكالةَ عليه، لكنهم لم يتأثروا به – وهذه هي المفارقة! – وعلاقتهم به هشة ضعيفة. أنا سليل القرآن، كما أني سليل جمهورية أفلاطون وابن عربي، وميشيل فوكو أيضًا. *** *** *** حاورتْه في القاهرة: صابرين شمردل عن الشرق الأوسط، 3 أيار/مايو 200[1] توسع علي حرب في هذه المحاضرة لتصدر في كتاب بعنوان الإنسان الأدنى: أمراض الدين وأعطال الحداثة. (المحرِّر) [2] راجع في معابر مراجعة لهذا الكتاب على الرابط التالي: http://maaber.50megs.com/eleventh_issue/books10.htm. (المحرِّر) |
|
|