الخـوف

 

أكرم أنطاكي

 

وحيدًا في عتمة الليل أتفكر بحالي وبما يجري من حولي.

في شوارع هذه المدينة البائسة وساحاتها يخيم ظلامٌ دامس، لا تخترقه إلا صفارات جنود تذكِّر الناسين بأن حظر التجول ما يزال ساريًا. وأنا هاهنا، في غرفتي، وحيدًا، أحاول إقناع نفسي بوهم أمان زائف توفِّره لي الجدران والأبواب. أنا أعلم جيدًا أنه ليس بوسع تلك الأبواب ولا تلك الجدران حمايتي، ولا حماية سواي، حين تقع الواقعة – إنْ وقعت – لأني، في تلك الحال، سأصير، يا صاحبي، كالآخرين تمامًا، كأولئك الذين لم تحْمِهم اليوم، في أحياء أخرى، منازلُهم التي خُلِعَتْ أبوابُها، ولا جدرانُها التي أضحت اليوم سوداء من اللهب.

وحيدًا في منزلي في الليل أهجس:

-       أجبان أنا يا ترى؟ وهل تلك التفاهة التي أعيش اليوم هي محصلة حياتي؟!

يمرُّ من أمامي بسرعة شريطُ هذه الحياة. وأتفكر بأني كنت "شجاعًا" في كثير من الأحيان والمواقف. أيام ذاك كنت أتصرف بلا تفكير، حين كانت حياتي وما تعنيه في نظري وفي نظر الآخرين هي آخر همومي ومشاغلي. كان هذا قبل أن أتزوج ويصبح عندي أطفال. وأتفكر أني حينذاك كنت شجاعًا، أجل، كنت شجاعًا!

لكني، حين أتفكر اليوم ببعض التعقل، أتساءل: أتراني لم أكن حينذاك أحمقًا؟!

*

هي – كما حدثوني – امرأة داكنة البشرة، "سمراء"، مثلي ومثل غالبية سكان هذه المنطقة "الشمالية" من بلادي الداكنة الحزينة. امرأة تحمل طفلها بين ذراعيها وتتجه نحو ذلك الدكان القريب من منزلها الذي اعتادت أن تشتري منه كلَّ صباح حوائجها وطعام أطفالها.

فجأة، تنتبه المرأة أن هناك شيئًا غير عادي يحدث من حولها. أشباه رجال، أو بالأصح، أطفال كبار، أكثر سوادًا منها، يحملون العصي والسكاكين، ويتحركون في غضب وهم يتصايحون:

-         Criminals! Criminals!

تحاول المرأة أن تبتعد، أن تهرب، أن تنجو بطفلها. لكن بعد فوات الأوان. فقد طوقتْها مجموعةُ منهم وهي تصيح:

-         She is one of them! She is one of them!

وتصرخ المرأة مذعورةً حين ينتزع أحدهم طفلها من بين يديها ويحزُّه بالسكين. وتصرخ المرأة في قوة وهي تهجم على مَن انتزع طفلها. لكن صيحتها تنتهي إلى شهقة مخنوقة. فقد ضربها ولدٌ آخر بعصاه الحديدية على رأسها وأرداها قتيلة في الحال. وفوق جثتها التي كانت تسيل منها الدماء أُلقِيَتْ جثةُ طفلها القانية.

*

أفتح التلفاز، وأستمع إلى المذيع يقرأ أنباء ما حصل اليوم في المدينة من أحداث شغب ناجمة عن ردة الفعل الانفعالية الغاضبة لجماهير مات زعيمها (أو قُتِلَ): حصيلة هذا اليوم الأول من "الحزن والغضب والأسى" خمسة وأربعون قتيلاً فقط، من بينهم خمسة أطفال.

أتفكر أن ستالين صَدَقَ يوم قال: "موت إنسان هو دومًا مأساة. أما موت الملايين فمجرد قضية إحصائية."

أشعر بالجوع. منزلي خاوٍ من الطعام. أتذكر أن في أول الشارع الآخر، على بعد مئة متر من المنزل حيث أقطن، "مطعمًا" يقدم الفول والطعمية حصرًا. وأتفكر في سذاجة أنه ربما كان هذا المطعم مفتوحًا الآن، كما في كلِّ ليلة، يبيع ما عنده لجياع الليل أمثالي.

وبلا تفكير، أستجمع شجاعتي وأخرج متحديًا حظر التجول.

أسير عشرين مترًا وسط ظلام غير دامس، تتخلَّله أضواء النوافذ والنجوم الخافتة، لألمح فجأةً، عند زاوية الشارع، ثلة "أطفال كبار" متجمعين يحملون العصي.

أتوقف. يخفق قلبي.

وبلا تفكير، أقرر التراجع والعودة مسرعًا إلى منزلي الذي سرعان ما أقفلُ عليَّ بابَه. أندفع إلى غرفتي وأغلق مزلاج بابها في إحكام. ألقي بنفسي على السرير... وأجهش بالبكاء.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود