|
الأدب الكبير هو الذي يكتب الإنسان
ثقافتنا باتت من الركاكة والسطحية بحيث إننا لم نعد نبالي حتى بمعيار الكم تحوَّل الفعل المعرفي الخلاق، الذي يعيد إبداع الإنسان من الداخل، إلى مجرد مُراكَمَة فوضوية لمعلومات لا تندرج في رؤية فلسفية كلِّية إلى العالم
تنتمي الروائية السورية أميمة الخش[*] إلى الجيل الذي لم يفقد علاقته بزمن الرومانسية، ولكنه يبدو جيلاً باحثًا عن معنى الحقيقة وعن السرِّ المؤرق فينا وفي كلِّ ما يحدث من حولنا.
عِبْر مجموعة كتبها، التي ابتدأتْها بـدعوة إلى الرقص، وصولاً إلى أحدث كتبها، خط الأفق، الذي أوشك على الصدور، تبدو الخش، بتماوُجها بين القصة والرواية، مستقصيةً، باحثةً في دواخل النفس البشرية؛ ومحاولتها أيضًا محاولة للبحث، ربما، عن حلول وأجوبة لكلِّ ما يحدث. التقينا أميمة الخش، وكان لنا معها الحوار التالي. ث.ز.ز. ***
في حوار أُجرِيَ معك سابقًا، قلتِ إنك تكتبين كي تشعري بالغبطة والامتلاء. هل يمكن لكِ أن تكفِّي عن الكتابة في يوم من الأيام؟ أعني: هل من الممكن ألا تعود الكتابة كافية لإشعاركِ بالغبطة والامتلاء؟ عندما قلت إنني أكتب لكي أشعر بالغبطة والامتلاء لم أعنِ قطعًا أنني لا أشعر بالغبطة إلا عندما أكتب. الغبطة، التي تمنح وجودنا المعنى والامتلاء، ليست عاطفة أو انفعالاً مرتبطًا بحدث معين، فتزول بزواله، بل هي إفصاح عن طبيعتنا العميقة التي تأبى إلا أن تتجلَّى من خلال النفس الحساسة، المتجاوبة مع خلجاتها الداخلية. وهذه الغبطة تبلغ ذروتها عندما نحقِّق حالة من التناغم الداخلي بين طبيعتنا العميقة وبين ملَكاتنا النفسية. وهذه الحالة تكون أظهر ما تكون عندما يتحقق ذلك التناغم في عمل نكون مؤهَّلين للقيام به، أي عندما نسعى إلى تحقيق مواهبنا. لكن هذا لا يعني أن الشعور بالغبطة لا يكون إلا عند ذاك. إذ يمكن لمشهد طبيعي رائع، أو لحظة تناغم مع زهرة أو شجرة، أو حالة إصغاء تأملي عميق إلى عمل موسيقي عظيم، أن يستدعي هذه الغبطة. إذن، فالفرح العميق، أو الغبطة، ليس مرتبطًا بالكتابة في حدِّ ذاتها، بل بتناغمنا الداخلي وبشعورنا بجمال العالم والحياة. هناك دائمًا في أعمالك شخصياتٌ يسكنُها الهمُّ الوجودي. هل تكتبين انطلاقًا من ذاتك أم من تجارب الآخرين؟ وهل يمكن أن تشكِّل حكايةٌ يرويها لك أحدٌ ما مادةً لقصة أو رواية مثلاً؟ الأكيد أن كلَّ كاتب، مهما بلغ من التجرد عن الذات ومن الموضوعية، يكتب في النهاية "قصته" هو؛ وشخوصُه، مهما تباينتْ واختلفتْ، تعبِّر عن إمكانات كامنة في نفسه. وإذا اتفق للكاتب أن يستلهم حكايةً حصلتْ في الواقع فعلاً – وهذا ما حدث لي بضع مرات لدى كتابتي قصصًا قصيرة – فلأنه وقع فيها على "معادل موضوعي" خارجي لمعنى كامن في نفسه. لكن الصعوبة هي في استخلاص العِبْرة من الحدث "الحيادي" وصوغه صياغةً فنية. أما رواياتي فهي أقرب إلى التعبير عني وعن أفكاري، وأكثر عَكْسًا لخبراتي ولفهمي للحياة، من قصصي، لأنني أعبِّر فيها، على سجيتي، عن كلِّ ما يعتمل في نفسي من أفكار ومشاعر ورؤى. صدر أول أعمالكِ في العام 1991. متى أنجزتِ عملكِ الأول؟ أقصد متى كانت بدايتكِ الحقيقية، حين شعرتِ بأنكِ ستكونين كاتبة؟ لا أعتبر نفسي حتى الآن كاتبة "محترفة"، بمعنى أن الكتابة يمكن أن تتحول بنظري يومًا إلى "مهنة"! اليوم ألمس في نفسي تطورًا في خطٍّ صاعد، من دعوة إلى الرقص إلى التوق، ومن انعتاق إلى الرشيم. وجل اهتمامي منصبٌّ على تعميق خبرتي في الحياة وفي الكتابة لكي يستمر هذا الخط صاعدًا ما أمكن. أهوى الكتابة هوايتي لكل ما هو جميل ونبيل في هذا العالم؛ وهذا الهوى موجود فيَّ منذ أن وعيتُ نفسي – وهو الذي أتمنى أن يبقى حيًّا فيَّ. مذ ذاك وبي دافع مبهم إلى الكتابة، عبَّر عن نفسه من خلال خواطر اجتماعية وفلسفية متباعدة، نُشِرَ بعضُها في الصحف في حينه، ثم بدأ يجد متنفَسًا فعليًّا في النشر منذ دعوة إلى الرقص (1991). لكني اليوم أعتبر أن ما أكتبه الآن هو أنضج ما كتبت. هل تتخيرين أوقاتٍ معينة للكتابة؟ أم أن الكتابة تباغتكِ؟ الكاتب المشبع بالموضوع الذي ينوي الكتابة فيه، بحيث لا يكتب قبل أن يختبر السياق الإجمالي للعمل في عقله ونفسه، يجب، من حيث المبدأ، أن يكون مستعدًا للكتابة في أيِّ وقت متاح. لا أحبذ "فوضوية" الكتابة، بمعنى أن ينعكس فعلُ الكتابة على صحة الكاتب ونظام حياته. بوجه عام، أتخير أوقاتٍ للكتابة تنسجم مع حياة صحية سليمة. لكن هذا لا يعني أنه قد لا يحصل لي مرارًا أن توقظني فكرةٌ من نومي، فأقوم وأدوِّنها قبل أن تتوارى في ثنايا اللاوعي. الأفضل أن تتجاوب حياةُ الكاتب مع نظام، يقبل الخرق أحيانًا إذا لزم الأمر. فالإنسان، في النهاية، – والكاتب من باب أولى، – هو محل المتناقضات والمفاجآت! شاع منذ سنوات عديدة مصطلحُ "الأدب النسائي"، وأقيمت ندواتٌ وحوارات حول هذا الموضوع. كيف تتعاملين مع هذه المفردة؟ – أقصد مفردة "الأدب النسائي". هذا مصطلح دَرَجَ واستُهلِكَ، حتى أُفرِغَ من مضمونه! من جانبي، أفهم منه في بساطة النصَّ الأدبي، الشعري أو القصصي إلخ، الذي تكتبه امرأة. الأدب الكبير هو الذي يستطيع أن يكتب عن الإنسان، بل أن يكتب الإنسان، رجلاً كان أم امرأة، فيرتقي بهموم المرأة (إذا كان موضوعه المرأة) حتى تلامس الهمَّ العام، الإنساني والوجودي. أما اقتصار النساء على الكتابة في موضوعات "نسوية" فهو اختزال للأدب لا يختلف، بهذا المعنى، عن "الواقعية الاشتراكية" التي كادت في بلادنا أن تحرِّم الكتابة في أيِّ موضوع خارج نطاق التحرر الوطني ومعاناة الكادحين إلخ. الكتابة عن معاناة النساء ونقد الواقع الاجتماعي المجحف بحق المرأة هو أدخَل في باب المقال الصحفي – وهو فن قائم بذاته – منه في باب الرواية أو القصة. وحتى إذا تناولتْ هاتان تلك المعاناة وذلك الواقع، يجب أن يكون الهم الإنساني العام هو المحرِّك الأساسي للعمل، ناهيك عن الهاجس الجمالي. في رواية زهرة اللوتس، مثلاً، تكلمتُ عن واقع اجتماعي ساحق لكلِّ تطلعات المرأة وتحقيقها لكيانها الإنساني، لكني أدرجت هذا الكلام في سياق سعي الإنسان الأزلي إلى تحقيق تكامُله الداخلي، بصرف النظر عن كونه رجلاً أم امرأة.[†] كيف تقيِّمين وضع "اتحاد الكتاب العرب" في سوريا؟ – وأنت أحد أعضائه. وهل صحيح أن الاتحاد لا يقدم خدمةً للثقافة، كما يقول بعضهم؟ إن مهمة أية مؤسسة ثقافية، في التحليل الأخير، هي تهيئة الظروف المساعِدة للأفراد المنتسبين إليها للإبداع، كلٍّ في مجاله، وحماية حقوقهم، ورعاية نتاجهم الفكري. ضمن هذا النطاق، أرى أن اتحاد الكتاب يؤدي دورًا اجتماعيًّا مفيدًا نسبيًّا. لكننا نعلم أن الإبداع هو شأن فردي في النهاية؛ ومهمة مؤسسة كـ"الاتحاد" هي توفير السبل لإظهار هذا الإبداع إلى النور ضمن منطق تعددي، طيفه الفكري أوسع ما يكون. هل الواقع الراهن للاتحاد واقع مثالي؟ المثالية قطعًا ليست من هذا العالم، ووجود الاتحاد أفضل من عدم وجوده – وإن يكن على أية مؤسَّسة، لكي تستمر في القيام بدورها، أن تجدد نفسها وتقيِّم مسارَها باستمرار. أين تجدين نفسكِ، في كتابة الرواية أم في كتابة القصة؟ إذا صح مبدأ أن "الثواب على قدر المشقة" فإن الرضا النفسي العميق (ولا أعني الرضا عن نفسي) الذي تمنحني إياه كتابة رواية يوازي الجهد المبذول فيها. دعني أوضح: كتابة الرواية لا تتطلب قدرةً على رسم الشخصيات وتعيين مسار الأحداث وحسب، بل إلمام واسع وخبرة مباشرة بكافة مناهج المعرفة الإنسانية التي تُغْني عملية الكتابة الروائية وتضفي عليها صدقيتها، كعلم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ والفن إجمالاً إلخ. على سبيل المثال، عندما يرسم الروائي شخصية رسام، يجب أن يحصِّل معرفةً كافية بعلم نفس الإبداع الفني ورموز الفن وتقنية الرسم إلخ. لذلك أمهد للكتابة بقراءات متنوعة في هذه المجالات، لكي تجيء كتابتي على شيء من الإقناع للقارئ – وهذا مثال. أما القصة القصيرة، فمدارها حول فكرة أساسية تعالَج ضمن مقطع حياتي أو إطار زمني–مكاني محدود نسبيًّا، لا يتطلب مثل ذلك الجهد السابق بالتأكيد، وإنْ تكن كتابتُها تقتضي، هي الأخرى، تملكًا من الكاتب لأدواته الفنية. وفي النهاية، لكتابة كلٍّ من الرواية والقصة خصوصيتُها، والكاتب "يجد نفسه" في كلِّ ما يكتب. ما هو جديد أميمة الخش؟ لي قيد الطبع الآن عمل روائي جديد بعنوان خط الأفق، سيصدر قريبًا جدًّا عن "دار الساقي" في بيروت، وأفترض بأني خطوت فيه خطوةً إلى الأمام في مساري الشخصي وكتابتي. أنت من جيل آمَن بالكتاب. هل ترين أن الكتاب قد انحسر دورُه ولم يعد له ذلك الأثر في حياة الناس؟ من المؤكد أن دور الكتاب في تنمية وعي الناس قد انحسر انحسارًا ملموسًا، ولاسيما في العالم العربي، حيث مناط أولويات الناس غير معقود على "الثقافة" بالمعنى النبيل للكلمة. حتى "المثقفون" المزعومون يتكئون فيما يرددون من مقولات على الآراء المكرورة حتى الملل في المقالات الصحفية وبرامج الفضائيات. لقد تحول الفعل المعرفي الخلاق، الذي يعيد إبداع الإنسان والعالم من الداخل، إلى مجرد مُراكَمَة فوضوية لمعلومات لا تندرج في رؤية فلسفية كلِّية إلى العالم. وحتى أغلب الكتب الرائجة في سوقنا الثقافية تتناول موضوعات وظواهر زائلة، وبالتالي، غير مُغنِية معرفيًّا. لكني – حتى لا أستسلم للتشاؤم – أفترض دائمًا أن المجتمع يفرز الكتاب الذي يستحقه، وأن هناك دومًا، بالتالي، ثلةً من القراء في حاجة إلى أفكار ورؤى تساعدهم على تكوين نظرتهم الشخصية إلى العالم، وتروي تعطشهم إلى المعرفة، وتصقل ثقافتهم بهذا المعنى – وهذه الأمور يصعب على غير الكتاب العميق أن يلبيها. كيف تقرأ أميمة الخش هذا الخبر: تُطبَع في إسرائيل سنويًّا آلافُ الكتب، بينما تُطبَع في الوطن العربي كاملاً مئاتٌ منها فقط؟ "قراءتي" لهذا الخبر، إذا جاز التعبير، تتعلق بجوابي على السؤال السابق. يجب، من جهة، ألا نؤخذ بمعيار الكم وحده. إذ ليس المهم عدد ما يُطبَع في إسرائيل من كتب، بل مضمون هذه الكتب، وعمقها، والبعد الإنساني فيها. (وهنا أشير إلى تقصيرنا الفاضح في معرفة تيارات الحركة الثقافية في إسرائيل، ومدى التنوع والتناقض والصراع الدائر فيها.) ومن جهة أخرى، يجب أن نعترف بتفوق المؤسَّسات العلمية الإسرائيلية وما تنشره من نتاج علمي وفكري – وهذا عائد، بالتأكيد، إلى كون إسرائيل، من الناحية العلمية والثقافية، استطالةً للغرب في منطقتنا. لكن الأهم من ذلك كلِّه، كما قلت، هو مدى تلبية الكتب للحاجات الفكرية والنفسية والإنسانية العميقة للمجتمع – وهذا يخضع لمعيار الكيف أكثر منه لمعيار الكم. لكن المفجع أن ثقافتنا باتت من الركاكة والسطحية بحيث إننا لم نعد نبالي حتى بمعيار الكم – فما بالك بمعيار الكيف؟! نحن في حاجة ماسة إلى إعادة تأسيس، من منطلقات مختلفة تمامًا، لوعينا الثقافي. وهذا لا يتم إلا بتأصيل أنفسنا في الجانب الخلاَّق، الإنساني، وبالتالي، المتجدد دومًا، من تراثنا، وإلى التخلِّي – غير آسفين – عن كلِّ ما بَلِيَ منه ولم يعد يصلح لتغذية قراءتنا الجديدة للعالم ولمنزلتنا فيه، وإلى الانفتاح المطلق على التراث الإنساني الخالد وعلى إبداعات عصرنا الحقيقية. باختصار: "لم يعد أمامنا إلا كل شيء"، على حدِّ قول الشاعر أنسي الحاج. *** *** *** التقى بها: ثائر زكي الزعزوع نسخة منقحة عن لقاء الاتجاه الآخر http://www.alitijahalakhar.com/archive/165/culture.htm#04 [*] سبق لـمعابر أن نشرتْ حوارًا مطولاً مع أميمة الخش، من أسرة المجلة، بعنوان "غاية الأدب هي التحول الداخلي"، يمكن للقارئ العودة إليه على الرابط التالي: http://maaber.50megs.com/issue_november03/literature14.htm. (المحرِّر) [†] يمكن للقارئ مراجعة دراسة لرواية زهرة اللوتس بعنوان "التكامل الداخلي في الأدب" (معابر، الإصدار العاشر) على الرابط التالي: http://maaber.50megs.com/tenth_issue/books_15.htm. (المحرِّر)
|
|
|