|
القانون والنِّظام في الكون
تنظِّم قوانينُ الفيزياء الأساسيةُ الكونَ. فهل كانت هذه القوانين موجودةً قبل أن نتفكَّر فيها – وحتى قبل أن تأتي السيرورات التي تصفها إلى الوجود؟
في النصِّ التالي، يناقش پول ديفيز Paul Davies – وهو فيزيائي منظِّر لامع وواحد من أفضل مبسِّطي الفيزياء في العالم – السؤالَ السابق الذي يقع عند ملتقى – أو مفترق – العلم والفلسفة، التجربة والإيمان. س.ك. ***
يستند العلم إلى افتراض قويٍّ، جَرَتِ العادةُ ألا يُصرَّح به، يخص العلاقةَ بين العالم الواقعي وعالم النماذج النظرية. لا يمكن للعلماء أن يقوموا بأيِّ تقدم من دون أن يقبلوا بأن العالم الواقعي يحتوي على بعض الانتظامات التي يمكن فهمها، على الأقل جزئيًّا، من خلال عملية التقصِّي العقلي. وعلى الرغم من وضوح أن العديد من النماذج النظرية عن العالم، أو أجزاء منها، مؤقت ومنقوص، فإن العلماء يفترضون، مع ذلك، أنها تعكس مَعْلَمًا من معالم الواقع، وذلك مهما بلغ عدمُ كمالها. وهكذا يتم الافتراض بأن النظريات العلمية، التي لا يمكن إنكار أنها من اختراع العقل البشري، تحتوي على الأقل بعض عناصر العالم الذي هو "هناك في الخارج". الأرجح أن الافتراض القائل بأن العالم الخارجي يتصف بِسِماتِ تنظيم، يمكن للبحث العقلي أن يكتشفها ويحتويها في رؤية منسجمة إلى العالم، مدينٌ في أصله إلى اللاهوت أكثر منه إلى العلم. تقترح المنقولات اليهودية والإسلامية والمسيحية كلها إلهًا عقليًّا، هو خالق الكون المادي، ولكنه يختلف عنه؛ ويتسم هذا الكون بِسِمَةَ تخطيط عقلي في تفصيلات عمله. ولقد كان هذا الاعتقاد ضمنيًّا في أعمال إسحق نيوتن ومعاصريه إبان نهضة العلم الحديث في القرن السابع عشر. وعلى الرغم من أن البُعد الديني قد ذوى منذ أمد بعيد، فإن نتائجه المترتبة على النظام الطبيعي للعالم المادي لم تتبدل إلا قليلاً. وفي حقل الفيزياء الأساسية، تلفت هذه الانتظاماتُ النظرَ أكثر ما تلفت؛ إذ تغلِّف قوانينُ الفيزياء معظم السمات التنظيمية العامة التي تُظهِرها الطبيعة. ويتم الافتراض بأن القوانين الأساسية بحق، مثل قانون مقلوب التربيع في الجاذبية، هي قوانين كونية، مطلقة، وخالدة[1]. كذا فهي تتصف ببعض الصفات التي تفرَّدت الآلهةُ بالاتصاف بها سابقًا. علاوة على ذلك، يمكن صياغة هذه القوانين كلها على شكل معادلات أو تصريحات رياضية بسيطة نسبيًّا. ويبدو أن التعقيد المذهل للعالم الطبيعي تؤيده، على مستوى الفيزياء الأساسية، بعضُ المبادئ الرياضية الأنيقة والبسيطة. قلة من العلماء فقط تسأل: لماذا يتصف العالم المادي بتلك الانتظامات التي ينهمكون في دراستها واكتشافها؟ وفي الواقع، لا تنظر غالبيتُهم في هذا السؤال بصفته سؤالاً علميًّا. ومع ذلك، نشهد في السنوات الأخيرة اهتمامًا متزايدًا بطبيعة قوانين الفيزياء لدى بعض الفيزيائيين وعلماء الفلك. فمن أين أتت هذه القوانين؟ وهل يجب أن تكون كما هي الآن؟ أم أنه يمكن لقوانين أخرى أن توجد؟ وإلى أيِّ حدٍّ يتقيد وجودُنا، كراصدين عاقلين للعالم المادي، بالمحتوى التفصيلي لهذه القوانين؟ غدت مناقشةُ هذه المسائل وثيقةَ الصلة بالموضوع منذ الاقتراح الذي جاء به منذ بضعة عقود كلٌّ من جيمس هارتل J. Hartle (جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا) وستيفن هوكنغ S. Hawking (جامعة كمبريدج) عن "قانون كوني للشروط الأولية [أو الابتدائية]". فحتى نشرح هذا الاقتراح، لا بدَّ أولاً من تلخيص ماذا نعني بـ"قانون فيزياء عادي". إنه لَقانون بسيط، ولو كان غير محبَّب، مثل القانون الذي يحمِل كلَّ كرة قاعدة baseball مقذوفة على اتِّباع مسارٍ شكله شكل قطع مكافئ (مع إهمال مقاومة الهواء وتحدب الأرض). إنه لَقانون عام، لكنه غير كافٍ لتحديد شكل مسار كلِّ كرة قاعدة تحديدًا دقيقًا. فعلى الرغم من أن كلَّ مسار هو قطع مكافئ، إلا أنه قد يكون منخفضًا قليل الارتفاع أو مرتفعًا ومقوسًا. يحدِّد القانون نوع المنحني، لكن المنحني، في حدِّ ذاته، يتعلق في كلِّ حالة بالشروط الابتدائية. وهذه الشروط هي في حالة كرة القاعدة: موضع الرامي وزاوية الرمي وسرعته. وبذلك يمكن تحديد مسار أوحد من جملة مسارات ممكنة. القوانين، بطبيعتها، تحيل إلى أصناف من السيرورات؛ وهي محددة مرة وإلى الأبد. على النقيض من ذلك، يتم تحديد الشروط الابتدائية بواسطة مقاييس إضافية، وفي حالة كرة القاعدة، من خلال الرجوع إلى فسيولوجيا الرامي (وفي نهاية الأمر إلى پسيكولوجيته). يعلِّل الفيزيائيون استخدامَهم لشروط ابتدائية معينة من خلال البحث في وسط مادي أشمل. وعلى الرغم من ذلك، هنالك معضلة أساسية في حالة الكوسمولوجيا – دراسة الكون ككل –؛ إذ لا وجود هنا لـ"وسط أشمل" ندرسه، ويجب، على ما يبدو، أن نقبل بالشروط الابتدائية التي واكبت ولادة الكون خلال الانفجار الكبير Big Bang على أنها مُعطاة، ولا يمكن لنا تفسيرها بواسطة سيرورات سابقة. فالانفجار الكبير يمثل بداية الزمن؛ ولم يكن ثمة سيرورات سابقة. فمنذ أن نتعامل مع الشروط الابتدائية على أنها معطاة فإنها تتساوى مع قوانين الفيزياء. إذًا، عوضًا عن معاملتها بوصفها خارجة عن منظور العلم (كما تجري العادة اليوم)، يمكن لنا أن ننظر في بعض التصريحات الرياضية البسيطة التي تهدف إلى توصيف هذه الشروط الابتدائية. ويعني ذلك أنه، عوضًا عن التقليل من أهميتها باعتبارها عشوائية أو اختيارية أو باعتبار أن عاملاً خارقًا يحددها، يمكن لنا (كما في خصوص قوانين الفيزياء) اعتبارُها تجليًا لنظام رياضي محدَّد وجميل. وكما هو الأمر مع قوانين الفيزياء، لا يمكن أن يبرهَن مسبقًا أن نظامًا ما هو الصحيح، بل يجب الحكم على صلاحية كلِّ اقتراح وفائدته من خلال التجربة.
ستيفن هوكنغ، صاحب كرسي إسحق نيوتن في جامعة كمبريدج اقترح كلٌّ من هارتل وهوكنغ "قانون شروط ابتدائية" خاص، وقاما بصياغة القانون في إطار النظرية الكوانتية الكوسمولوجية. وهكذا يتم التعبير عنه بواسطة تابع موجة الكون. والتفاصيل لا تعود مهمة هنا؛ فالنقطة الجوهرية هي أن أيَّ قانون كهذا للشروط الابتدائية يُضاف إلى قوانين الفيزياء لا بدَّ أن يتضمن خاصيتها المتعالية[2]. إنه إرث آخر من اللاهوت: فالإله "المتعالي" إلهٌ وجوده مستقل منطقيًّا عن الكون. القوانين المتعالية transcendent هي قوانين تتصف بوجود مستقل: إنها هناك "في الخارج"، في حقل مجرد ما، وهي ترتبط بوجود الكون المادي حتى تتجلَّى، لكنْ ليس لكي توجد. ولغز "أين" تقع أو تقيم هذه القوانين لَمربك! فباستخدام التعبيرات الرياضية، تُرجَع مسألةُ تعيين "موضع" قوانين الفيزياء إلى مسألة تعيين حقل الرياضيات. لقد اعتقد أفلاطون أن تصريحًا رياضيًّا من نحو: "يوجد عدد لانهائي من الأعداد الأولية" هو حقيقة خالدة متعالية. ليس للأعداد الأولية (أو لخواصها) وجود في زمان أو مكان؛ ومع ذلك، يمكن لنا أن نؤكد أنها موجودة في شكل ما. يتشارك العديد من الرياضيين المعاصرين (أحيانًا في السر) في هذه الصورة الأفلاطونية للرياضيات. وفي المقابل، يحاجج آخرون بأن الرياضيات، في حدِّ ذاتها، غير موجودة؛ فالرياضيات، في رأي هؤلاء، لا تنكشف، بل تُخترَع. المنزلة الفلسفية لتصريح كذلك الذي يخصُّ الأعداد الأولية تماثل، بالتالي، منزلة التصريح بأن "روميو يحب جولييت": إنه صحيح، لكن فقط بفضل فكرة من أفكار شكسبير. قلة هي العلماء التي ستقبل الافتراض بأن قوانين الفيزياء ليست سوى اختراعات بشرية. فمن الأكيد أن الإنسان صاغها؛ لكن ما يدفع الفيزيائيَّ في بحثه هو الاعتقاد بأن قوانين الفيزياء تعكس مَعْلمًا من معالم الواقع. ومن دون هذا الارتباط بالواقع، يتحول العلم إلى مسرحية لا معنى لها. من جهة أخرى، نجد لدى غالبية الفيزيائيين كذلك تحفظًا حيال قبول أن لقوانين الفيزياء وجودًا مستقلاً. نجد تصويرًا جميلاً لهذه المعضلة في قانون أوهْم[3]: وهو تصريح عن العلاقة بين التيار والكمون والمقاومة في دارة كهربائية. فالتفكير بأن لقانون أوهْم كيانًا خالدًا متعاليًا وأنه كان كامنًا ينتظر "هناك في الخارج" منذ دهور مَن يصنع دارة كهربائية هو أمر من السذاجة بمكان؛ ومع ذلك، من الصعب أيضًا أن نعتقد أن قانون أوهْم ظهر إلى الوجود عندما تمَّ صنع أول دارة! قد تكمن الحقيقة في أن قانون أوهْم يمثل قانونًا ثانويًّا بالمقارنة مع القوانين الأساسية – تلك القوانين التي يدعي بعضهم أنه يمكن رد قانون أوهْم إليها (كقانون الإلكتروديناميكا مثلاً) وأنها في الواقع هي الخالدة والمتعالية. لكن، مع ذلك، ثمة صعوبات تكتنف هذا الموقف؛ إذ لا يعتقد الفيزيائيون كلهم أن القوانين المشابهة لقانون أوهْم، التي تشير إلى خواص جماعية لمجموعات واسعة من القُسَيْمات، يمكن ردها كليًّا إلى قوانين أكثر أساسية من دون القيام بافتراضات إضافية على الأقل. ولندلِّل على ذلك من خلال مثال متطرف: قوانين مندِل[4] في الوراثة؛ هنا يسود الانطباع بأنه ليس من الممكن – حتى من حيث المبدأ – أن تُشتَق هذه القوانين من قوانين الفيزياء الأساسية. يمكن لي أن أقول من تجربتي إن الفيزيائيين الذين يبحثون في المسائل الأساسية يقبلون عادة بأن قوانين الفيزياء الأساسية قوانين متعالية. على وجه الخصوص، نجد أن الكوسمولوجيين الكوانتيين، الذين وضعوا نصب أعينهم هدف تعليل كيفية خروج الكون إلى الوجود من العدم، مُلزَمون على القيام بهذا الافتراض. فلا يمكن لقانون فيزيائي أن يعلِّل كيف جاء الكون إلى الوجود إن لم يكن هو موجودًا من قبل. ولو أن قوانين الفيزياء خرجت إلى الوجود مع الكون لَما أمكن لها أن تعلِّل كيف جاء الكون إلى الوجود. فلا يمكن لقانون الشروط الابتدائية، بالتعريف، أن يظهر إلى الوجود بعد بداية الكون. من الأكيد أن اللغة التي يستخدمها العلماءُ العاملون على دراسة المسائل الأساسية تقبل ضمنيًّا وجود قوانين فيزياء متعالية. وغالبًا ما يشير الفيزيائيون إلى القوانين الصحيحة التي يعملون على اكتشافها. وتعطي برامج التوحيد التي يهدف المُنظِّرون عِبْرها إلى تقديم صورة رياضية وحيدة، تشتمل على القُسَيْمات الأساسية والقوى كافة، انطباعًا مفاده أن النماذج الحالية، كنموذج الأوتار الفائقة Superstrings، تشكل خطوة على الطرق الطويل نحو تعيين صحيح لمجموعة من القوانين الموجودة حاليًّا في الطبيعة. وهكذا يتم النظر إلى البحث العلمي على أنه يُفضي إلى سلسلة من التقريبات تقترب أكثر فأكثر من الحقيقة، أي من قوانين الكون الحقيقية. ويُفترَض أن هذه القوانين موجودة، تنتظر مَن يكتشفها، وأنها ليست مجرد اختراعٍ بشريٍّ هدفه مساعدتنا على تنظيم معطيات التجربة. هنالك في هذه الرؤيا للعالم قَلْبٌ غريب للمنظور الاعتيادي الخاص عن مستويات الواقع. ففي الفيزياء التقليدية، نبحث عن الواقع من خلال وضع الكون الحالي وفي كلِّ لحظة؛ وتصير القوانين التي تصف كيفية ارتباط الحالات المتتالية ذات وجود "شبحي". أما في الفيزياء الحديثة الأساسية، فيُبنى الواقعُ على القوانين وعلى الصروح النظرية المواكبة لها، كقوانين لاغرانج[5] وفضاءات هيلبرت[6]. والوضع الحالي للكون هو هنا كيان ملتبس، وذلك لسببين: فقد جعلت نظرية النسبية، أولاً، من عديم المعنى أن نتحدث عن "حالة آنية" معيَّنة للعالم؛ فيما تفضي الميكانيكا الكوانتية، ثانيًا، إلى أنه لا يمكن رصد تلك الحالة على كلِّ حال، بل يمكن بالأصح حساب "احتمالات" مختلف الحقائق المتضاربة. وهكذا تجد صورةُ الفيزيائي عن الواقع جذورَها في شبه ميتاكون meta-universe من الكائنات الرياضية والعلاقات الوضعية، الخالدة والمترابطة كليًّا، في حين أن الكون سديمي، غير واضح، متبدل وغير قابل للتوقُّع. سيخالج العديدَ من الفيزيائيين شعورٌ بعدم الارتياح حيال هذا الوصف الصريح لفلسفتهم. إلا أنه يجب عليَّ القيام بهذا العرض كي أُظهِر الافتراضاتِ القويةَ التي تشكل تحتية [قاعدة] عدد كبير من الأبحاث المعاصرة. ويمكن بالطبع مناقشة هذه الافتراضات. وهكذا نجد جون أ. ويلر J.A. Wheeler، على سبيل المثال، ينفي الوجود المستقل للقوانين الفيزيقية ويفضل أن يرى فيما نسمِّيه "قوانين" نزعاتٍ تظهر، في صورة ما، مع الزمن عند تطور الكون في أشواطه الباكرة؛ بينما يفضل بعض الفلاسفة والبيولوجيين فكرةَ وجود تطور على غرار التطور الداروِني على مستوى القوانين "المتنافسة". يمكن لنا كذلك أن نشكك في الأساس التصوري لهذه النقاشات كلِّها، حيث نفصل مميِّزين بين القوانين الخالدة والحالات المتبدلة. إن فهمنا للظاهرة الفيزيقية برمَّته مبني على هذا التقسيم. فهل هو مشروع دائمًا؟ هل أن القوانين موجودة "حرَّة تطفو"، بكلِّ ما في الكلمة من معنى، متناسيةً ماذا يجري في الكون؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن وصفنا الرياضي للظاهرة المادية مقيَّد إلى حدٍّ بعيد. هذه الطريقة، على سبيل المثال، تسمح فقط بنوع خاص من المعادلات التفاضلية. ولهذا مبرِّره في حالة المنظومات البسيطة التي تدرسها عادة الفيزياءُ الأساسية، لكنْ يتبيَّن لنا أن ذلك يحدُّنا ويقيدنا لدى دراسة منظومات معقدة. والواقع أن المحاولات المعاصرة لتمثيل التعقيد complexity والانتظام الذاتي auto-organization في الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا توحي منذ الآن بعدم صلاحية التقنيات التقليدية للفيزياء الأساسية. وتحتد المعضلة جدًّا عندما نأخذ في عين الاعتبار، على وجه الخصوص، وجود قوانين "بارزة"؛ وأقصد بهذا تلك القوانين التي تصير ملائمة في وقت ما من تاريخ الكون، لدى ظهور المنظومات التي ترتد إليها وحسب. كذا هي الحال مع سائر قوانين البيولوجيا: فهذه القوانين هي في بساطة عديمة المعنى، إلا إذا أظهر العالمُ المادي حالاتٍ معينة، كتلك التي تحتوي على كائنات حية مثلاً. ولا يمكن لنا كشفُ قوانين كهذه أو تفسيرُ طبيعتها بدءًا من طبيعة المنظومات التي ترتد إليها. فلربما أن التشابك بين "القانون–الحالة" هو تشابك أكثر صميمية مما كنَّا نتوقع في المنظومات المعقدة. أشك في أن غالبية الفيزيائيين سيعتبرون "خالدةً" فقط تلك القوانين التي تتصف بوجود خالد متعالٍ، أما ما تبقى منها فتتدنَّى مرتبتُه إلى مرتبة ثانوية أو مشتقة. يُبقي ذلك على السؤال الصعب المتمثل في معرفة من أين أتت هذه القوانين الخالدة. وقد أشار العديد من الفيزيائيين إلى الفاعلية "غير المعقولة" للرياضيات في وصف العالم المادي. فلماذا يبدو دائمًا أن قوانين الكون الأساسية تقبل التعبير عنها في صيغ رياضية بسيطة وأنيقة؟ هل أن هذه القوانين خاصة؟ أم أن ثمة سببًا منطقيًّا يعلِّل لماذا على الكون أن يتشكل على هذه الصورة بعينها؟ وإن كان لا بدَّ له من أن يستند إلى رياضيات بسيطة، فلماذا عليه أن يستخدم تلك العلاقات الرياضية الخاصة؟ فكما تساءل أينشتاين ذات مرة: هل كان لله خيارٌ ثمة في هذا الموضوع؟ لفت بعضُ العلماء الأنظارَ إلى حقيقة أن وجود بُنى معقدة، في صورة عامة، وعاقلة، في صورة خاصة، يرتبط ارتباطًا حساسًا جدًّا بالشكل الرياضي الدقيق لقوانين الفيزياء. فإذا كان على العالَم أن يكون على الصورة التي هو عليها، يعني ذلك أن وجودنا لا مفرَّ منه، أي أنه "مكتوب" في قوانين الفيزياء. لكن لو أمكن للقوانين أن تكون مختلفة، تبقى قضية ملحَّة تخص كيفية اختيار هذه القوانين. أحد الاحتمالات، الذي يُعرَف باسم "المبدأ الأنثروپي"[7]، يقول بأنه توجد لانهاية من الحقائق المتوازية، لكلٍّ منها نسخته الخاصة من القوانين الفيزيائية، ويمكن لجزء صغير فقط من هذه الأكوان المتواجدة معًا أن يسمح للحياة بالتشكُّل. وسيظهر راصدون فقط في مثل هذه العوالم الخاصة ليعلِّقوا على التدبير الرائع لعالمهم وليتعجبوا منه. نحن، إذن، الذين نختار وفقًا لهذه النظرية. بعبارة أخرى، هنالك ربما كون واحد، مع مستوى واقع أعمق من وراء القوانين، لعله نوع من الميتاقانون meta-law أو "قانون القوانين": مبدأ اصطفاء أوجَد قوانين تُناسِب خصوصًا ولادة الحياة والوعي. أما في شأن وقوع هذا الانتخاب/الاصطفاء عن طريق المصادفة أو عن تخطيط مقصود، فيبقى مسألة قناعة شخصية؛ إذ من الصعب أن نتصور كيف يمكن للعلم أن يجيب يومًا على هذا السؤال الجوهري والنهائي. *** *** *** ترجمة: سمير كوسا [1] يُقصَد بكلمة "خالدة" أنها قوانين لا تتبدل مع الزمن. [2] كلمة "تعالي" هنا مشابهة لكلمة "خلود": القوانين تتجاوز تبدلات المادة والكون، وإذن الزمن. [3] نسبة إلى غيورغ سيمون أوهْم (1789-1854): فيزيائي ألماني اكتشف في العام 1827 القوانين الأساسية للتيار الكهربائي وأدخل مفهومَي "كمية الكهرباء" و"القوة المحركة الكهربائية". (المحرِّر) [4] هو يوهان غريغور مندل (1822-1884): رجل دين وعالم نبات نمساوي قام بتجارب على تهجين النباتات ودرس آليات الوراثة في النبات، مستخرجًا القوانين التي تحمل اسمه. (المحرِّر) [5] هو الكونت لويس دُه لاغرانج (1736-1813): عالم رياضيات فرنسي اجتهد في تأسيس حساب التفاضل والتكامل في معزل عن كلِّ رجوع إلى اللامتناهيات في الصغر وباستعمال متواليات تيلور. (المحرِّر) [6] هو دافيد هيلبرت (1862-1943): عالم رياضيات ألماني، رئيس المدرسة الصورية وواحد من مؤسِّسي المنهج الأكسيوماتي؛ وجَّه أبحاث القرن العشرين حين طرح في العام 1900 قائمة بـ23 مسألة رياضية تتطلب الحل. (المحرِّر) [7] "أنثروپي" anthropic من أنثروپوس Anthropos، "الإنسان" باليونانية.
|
|
|