انكشاف الطَّبيعة

تأمُّلات فلسفية

 

علاء الدين كاتبة

 

1

يحمل الاعتقادُ بإنسانية الإنسان، المتشكِّلة عِبْر تاريخ المعرفة حتى اكتشاف الخارطة الوراثية genome (أو اللحظة الآنية التي تعيشها المعرفة)، نظرةً قبْلية a priori، مازالت تنظر إلى وجوده على الأرض نظرةً ملأى بالسر. وقد حمله هذا "السر" على الخروج على نظام الطبيعة، التي يتم تصويرها بوصفها حافظةً لسرِّ الحياة نفسها. بينما، كاحتمال آخر في نشوء التاريخ، لم تكن نظرةُ الإنسان السرَّانية إلى نفسه ضرورةً واجبةً إذا توفَّر لديه شرطُ النظر إلى نفسه مباشرة – دون وسيط برَّاني – كي يدخل إلى جَوَّانيته: أي تلك اللحظة – بالشرط ذاته – التي تتعرى بها النفسُ من سرِّيتها، أو تفرض عليها إرادةُ الإنسان التعري من أية قيود قبْلية ترسمها معرفتُه المكوَّنة؛ ومن ثمَّ تنكشف له حاجاتُه ورغائبُه جذرًا لوجوده الطبيعي، ليخرج بها من أسْر وعيه الأسطوري لذاته الإنسانية التي لم تسجل إلا تاريخ الخوف من الطبيعة، غير متصالحة معها ولا مع وجوده ككائن يركن، في قلب الوحشية المطمئنة، إلى الإرادة، متحققًا بها كفعل متصل بالوجود.

2

تمتلك الكائناتُ الحية إرادتَها الطبيعية على البقاء (أو ما يطلق عليه العلماءُ تسميةَ "الغريزة")، بدءًا من الكائنات البسيطة حتى أعقدها، مواجِهةً مشكلةَ التكيف مع الطبيعة خارجها مواجهةً دائمة. أما الإنسان، فقد جهد منذ خروجه عما يصفه بـ"التوحش" – أو الوحشية الملصقة بنظام الطبيعة – في سرقة نار الإرادة من الطبيعة ذاتها، ومن ثمَّ موجِّهًا صراعَه من أجل البقاء في اتجاه السيطرة عليها، منتِجًا المعرفة كأداة للسيطرة، كي تمنحه الطمأنينة الخادعة للنظام، ليقع وعيه المتشكِّل – هذه المرة – تحت سيطرة نظامه الخاص، على اختلاف أشكاله عِبْر التاريخ.

ولعل استخدام الإنسان للنار جاء معبِّرًا في التاريخ عن أولى محاولاته الناجحة لاستعمال قدرات الطبيعة على خلق ظواهرها المنتَجة كفعلِ ديمومةٍ خالص وعِبْر نظام من الفوضى. ومن ثمَّ فقد بات الإنسان مكتويًا بقدرته المتكئة على العقل كأداة، متجهًا بالسؤال عنه وعِبْره، حائرًا بفَرادته المميزة – كما يظن – عن غيره من الكائنات أو عن نظام الطبيعة ذاتها.

لقد زودت الطبيعةُ الجنسَ البشري بميزة بيولوجية تختلف عما عند غيره من ميزات، تتمثل في انتصابه على قدمين، مما حرر يديه من وظيفتهما لدى الثدييات، ممهدةً بذلك لاكتشافه قدراته التقنية كصانع homo faber في الطبيعة أو مستخدمًا لها بآلية مختلفة عن سواه، مدفوعًا بها من أجل الحفاظ على البقاء. إلا أن هذا الاختلاف الطبيعي كان من شأنه أن أوقع الإنسانَ في حالة ارتباك مباشر أمام وجوده الخاص: فبقدر ما منحه شعورًا بالتفرُّد أو التمايز، جعله كذلك ينظر إلى ذاته نظرةً مضادة للطبيعة. فإذا كان استخدامُه للنار والطاقة يكشف له عن قدراته التقنية على التعامل مع الظواهر الطبيعية، متجاوزًا بالضرورة حاجز الخوف منها، فإن تاريخه التقني يفضح بُعدَ الخوف المتنامي فيه من الطبيعة ذاتها وافتقاده لاتصاله المباشر معها، محققًا اغترابه عنها، وعاجزًا في الآن نفسه عن الانفصال.

إن تمايُز الإنسان بقدراته التقنية كشرطٍ لوجوده الطبيعي، أو كخاصية من خاصيات قدرته على البقاء، لا ينفي على الإطلاق، من منظور غيره من الكائنات ربما، امتلاكَها الفعلي لتقنياتها الخاصة، الموروثة كفعلٍ غريزي، أو لمهاراتها وقدراتها على التأقلم عبر تعديل السلوك. لذا يظهر الخوف لديها كشعور طبيعي في الدفاع عن نفسها تجاه المخاطر، ينتهي بانتهاء الخطر الماثل.

أما ما يدَّعيه الإنسان الحديث من تمايُز عن الطبيعة ذاتها أو تفرد عنها فليس، من وجهة نظر محايدة، إلا وجودًا خاصًّا له في الطبيعة القائمة على فعل التنوع والاختلاف. وهو، وإن حاز في شعوره على صفة التفرد، فقد جاء تفرُّده بفعل الطبيعة ذاتها، وليس من خارجها. فلا أحد في وسعه أن يجزم ماذا هناك خارج الطبيعة! أي أنه – كشعور ملازم له، وقد تجسَّد من خلال فعله في الطبيعة – تأتَّى من إرادة الحياة الموروثة كفعل غريزي، تُحصِّن به الطبيعةُ الكائنَ الحيَّ من أجل حفاظه على البقاء. فلا أحد يستطيع الجزم أيضًا بأيِّ "تفرد" تنظر الفيروسات إلى نفسها، خاصةً أمام قدرتها على السلوك المزدوج ككائن حي أو كجماد، أو بما تمتلكه من قدرة هائلة على الحفاظ على نفسها في وسط معادٍ لها، ربما لملايين السنوات – وهي بلا شك قدرة تثير غيرة الإنسان حتى لحظتنا الراهنة!

3

لكن المفارقة التي يسجِّلها الإنسانُ الحديث، على الرغم من إدراكنا له ككائنٍ أنتجتْه الطبيعة، هو انتهاؤه إلى الوقوف على الطرف المقابل كنتاج موازٍ ومنافس لها في القدرة على الهدم والبناء، أو في القدرة على إعادة بناء الطبيعة ذاتها، متوِّجًا هذه القدرة باكتشافه للخارطة الجينية، بما تفتحه هذه من آفاق هائلة في عالم الهندسة الوراثية، بدءًا من الاستنساخ وتخليق الأعضاء حتى القدرة على تعديل الخصائص الوراثية؛ ما قد يمكِّن الإنسان–العالِم من الوقوف في مجمع آلهة الأولمپ مطالِبًا بعضويته فيه كنصف إله قادر على إعادة تصنيع الحياة. أما عن شرط العضوية الكامل، فإن ثورة التكنولوجيا والمعلومات، بتضافرها مع الثورة البيولوجية، بدءًا من الجهود المبذولة لدمج الخلايا الحية في صناعة الكمبيوتر، قد تكون قادرةً في المستقبل على حفظ الشيفرات الدماغية للإنسان داخل علبة صغيرة أو على قرص مضغوط CD-ROM. حقًّا، من يدري ما سيؤول إليه الإنسان بعد نصف قرن أو أكثر من التسارع الهائل في تراكم المعرفة؟

عِبْر هذا المتخيَّل الأسطوري الذي تصنع ملامحَه توجهاتُ العلم اليوم، والذي يتطلب تحقيقُه بالضرورة عجلةً رأسماليةً ضخمة، سوف يؤول – بفضلها – رجلُ الأعمال الممتلك للمال والمعرفة إلى تجسيد خوف الإنسانية المتوارث من الطبيعة في أعلى صورةٍ ممكنة، محققًا ألوهية السيطرة على مقدَّراتها الكونية.

لكنْ إذا نظرنا إلى المسألة من زاوية ثانية، فإن السيطرة على مقدَّرات الطبيعة لم تكن بالمستطاع لولا القدرة الكامنة في الطبيعة على الانكشاف، أي قدرتها على الكشف عن خصائصها المادية وإمكاناتها غير المتناهية من الناحية النظرية. وهي تنكشف بقَدْر قصدية الكائن نحوها: فانكشافها لطائفة من النحل يختلف بالضرورة عن انكشافها لإنسان المدينة الحديثة. وإذا كانت الكائنات الحية كافة تتعالق بالطبيعة عِبْر احتياجاتها وخصائصها، فإن الإنسان قد يتمايز بقدرته على أن يقصد الطبيعة مباشرةً من أجل ذاتها، أي في معزل عن احتياجاته منها. وبالتالي، فإن الباحث في الطبيعة لا بدَّ له أن يتخلَّى عن ذاته الباحثة من أجلها – أي الطبيعة – كأيِّ عاشق يصبو إلى الفناء فيمن يحب!

على الرغم من هذا، فإن مثل هذه القصدية وحدها لا تكفي لبلوغ الكشف إنْ لم يتخلَّ الإنسان عن وعيه الأسطوري، أي عن وعيه الجامح إلى الصورة، حيث الصورة هي نتاج للعقل أو من مفرزاته، وليست العقلَ ذاته حُكْمًا. بينما قد يدرك العقل الحامل للوعي أن الوعي هو طريقته أو أسلوبه في الوجود – وهو وجود يعبر عن نفسه في عالم موازٍ أو في فراغ – وأن النفاذ إلى طبيعته أولاً يقتضي منه الإصغاء إلى الشعور، أي الشعور بطبيعته الفارغة من المعرفة، أو بمعنى آخر، شعوره الأكيد بالجهل أو بالعجز الذي ينطلق منه بالسؤال: "لماذا؟" وفي هذه المرة، سوف يسلك العقل طريقًا آخر، طريقًا محايثًا للسؤال، ينكشف به على الطبيعة كشعور، ليطلق وعيَه ممتدًا بمعرفته المباشرة التي يمتحها منها، متشكِّلاً في فراغ. إنه طريق المخيلة الذي بدأ يتسرب إلى العلم من أكثر أبوابه دقة: الفيزياء.

وهكذا يبدو أن المفازات الفاصلة بين العلم والشعر والفلسفة مجرد مسافاتٍ صنعتْها أوهام المعرفة، وأن الطبيعة لا تحتمل إلا أن تكون كلاًّ واحدًا، وأن انكشافها لا يتأتى إلا بالكلِّية الماثلة في الشعور.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود