العاثر أمام النهر

قصيدة بلا ذاكرة

 

محمد علي شمس الدين

 

في بحثنا عن جديد شعريٍّ راهن، نعثر على ديوان بعنوان العاثر أمام النهر[*] للشاعرة السورية المقيمة في نيوجرسي من الولايات المتحدة الأمريكية جانسيت علي. والراجح أنه الديوان الأول للشاعرة؛ فاسمها لا يشكِّل جزءًا من ذاكرة شعرية سابقة[†]، فضلاً عن أنه ليس على صفحة من الديوان ما يشير إلى إصدارات سابقة للشاعرة، وليس ثمة من تعريف موجز بها سوى أنها «مؤلِّفة من سوريا».

لا يهمنا عدد إصدارات الشاعر أو السيرة الشعرية له، بمقدار ما يهمنا الكتابُ الراهن بين يدينا بذاته. وإذا كان ثمة من سجلٍّ شعريٍّ لشاعر ما، فإن رصد تطوره الشعري ممكن ومفيد. لكن الإصدار الأول لكاتب ما، أو شاعر، لا يثير اهتمامنا عادةً إلا إذا كان لافتًا للانتباه بذاته وينطوي على قيمة إبداعية تستدعي الوقوفَ عندها وقفةً تأملية ونقدية. وفي جميع الأحوال، فإن الإصدار الأول لا يعني بالضرورة الكتابات الأولى. ومن خلال تجربة جانسيت علي في نصوص العاثر أمام النهر تظهر دُرْبةٌ طويلةُ الأمد في قراءة «قصيدة النثر» وكتابتها، كما تظهر خلفيةٌ ثقافية دينية، من خلال استدعاء خاص وإبداعي لرموز وعبارات إسلامية ومسيحية، من مثل «اليوم عُلِّقَ على خشبة» في آخر قصيدة من الديوان (وهي بعنوان «اليوم عُلِّق»)، أو «البحر ينشقُّ من أمامي»، كإشارة إلى انشقاق البحر بالعصا التي ضَرَبَه بها موسى، أو قولها في قصيدة «حفلة نكون»: «هزِّي إليك بالبحر»، ذهابًا إلى الخطاب القرآني لمريم: «هزِّي إليكِ بجذع النخلة»، أو باسترجاع أصول غامضة لِلُغة قرآنية، كقولها في نهاية قصيدة «علامات ماء النهر»:

في غارٍ مرسَل

دثِّروني

دثِّروني

الوحي شقَّ قميصي.

فضلاً عن عبارات أخرى مبعثرة في النصوص، غير غالبة عليها، ومستلَّة من إرث توراتي أو إنجيلي، من مثل «أجمع شفعائي» و«أقود خرافي» و«الخراف الضالة» إلخ – بمعنى أن ما يسيطر على النصوص ليس هذه النكهة الثيولوجية، على الرغم من وجود إشارات متباعدة ومتنوعة منها، بل يسيطر عليها الغموضُ الصوري والسريالي الواصل إلى حدود المعاضلة والإشكالية.

نصوص جانسيت علي مكتوبة بين مكانين: دمشق ونيوجرسي، وغير مؤرَّخة. ونيوجرسي قد تعني وطأةَ مكانٍ ونَسَقٍ كتابي غير غنائي، نثري صوري معقد يميل إلى العماء. فالقصائد تظهر لي على مثال طائر أعمى يحوم حول حديقة في الظلام. والشاعرة تلح، في كلِّ حال، على الطائر الأعمى، أو ما يميل إلى العتمة والليل والعماء، سواء في عناوين قصائدها أو في بعض الصور المستعمَلة في النصوص. فالقصيدة الأولى بعنوان «ورود عائمة»، وجملتها الأولى هي: «رقد متلمسًا عنق عصفور أعمى»؛ وهناك قصيدة أخرى بعنوان «رقصة البجعات الكفيفات»، وعبارات من مثل: «عصفور في سريره»، «موت هوائي»، «ظل»، «تبحث عن الله في نقطة الصبح فيلوح في خفِّ عصفور أعمى» (من قصيدة «مريم»، والمقصود مريم البصْرية، تابعة رابعة العدوية). فلنقرأ:

هذه الكتابة العمياء جعلتْني أتأمل في الجانب الليلي والمعتم من الحياة.

راقبت طيران الخفاش عند أول هبوط الليل وتلاشي آخر أشعة الشمس.

كان يحوم ويطير بطلاقة وهندسة دقيقتين أو مبصرتين، ويدور في فضاء الحديقة.

كنت على الشرفة أتابع بنظري حركات ومناورات هذا الخفاش الأعمى... وأخاف أن يرتطم بشجرة أو سياج... ولكنه في اندفاعه، وكرِّه وفرِّه، كان يميل عن ذلك ويواصل حومانه الجميل.

هذا الطائر الأعمى مزوَّد بأجنحته، وبرأسه، وربما بأذنيه، برادارات إلهية تهديه في حركته.

طائر أعمى

طيران جانسيت علي، في قصائدها المختصرة والقلقة، طيرانُ طائر أعمى، مختصر وقلق. ولعلنا أيضًا نستطيع الوصول معها أحيانًا إلى اختصار الاختصار، من خلال ضربة جناح (قلم)، أو صورة أو جملة واحدة تؤلِّف نصًّا أو قصيدة، مثل قصيدة بعنوان «كثرة»:

أخشى عليك إن نطقتَ

أن تحطَّ الطيورُ عليك لكثرتك.

وقصيدة «لقمة الريح»:

الجثة المعلَّقة بجواد

لم تفهم لقمة الريح.

وقصيدة «أوراق»:

كفُّك أوراق عنب ممددة

في سوق الطير...

وهكذا، وهكذا، على غرار هذه النصوص المختزلة لفكرة واحدة، أو صورة واحدة، أو عبارة واحدة، أو عنوانٍ غالبًا ما يجسِّد صورة.

والصورة لدى جانسيت علي أساسيةٌ في تركيب النصِّ الشعري وتأليفه؛ وهي ليست، في كلِّ حال، صورة جامدة، طبيعة صامتة nature morte أو محايدة، بل هي تتدرج من التعبيرية Expressionnisme إلى إثارة تأملات وأحاسيس تجريدية لا تخلو من المعاضلة والبرود، كما في قصيدة بعنوان «تجريد»:

ولأن له ضابية بلا عنق

وفي بلاد الفرس أرملة

أرسل قلائدَه على ظهر عظاية

إلى لقالق محبوسةٍ في عين الظهيرة.

فما هذه الصور الغرائبية؟! وما هذه المعاضلة التجريدية والتجريبية؟! وما هذه الفانتازيا الصورية؟! – كما في قولها في نصٍّ مختصر بعنوان «خيول مكشوفة»:

أما القلبُ

فوَقْع خيل مكشوفة الصدر

ترعى في مقصِّ العاصفة.

وغالبًا ما تكتفي الشاعرة بالمشهد الصوري بلا تعليق.

على كلِّ حال، فإن نصوص جانسيت علي، لجهة التركيب الصوري واللغوي، ولجهة الأسلوب، تطرح سؤالاً حول المرجعية الشعرية لهذه الشاعرة، أو حول السلالة الشعرية التي تنتمي إليها أو تقترب منها. فأحيانًا، نراها تقترب، في مسألة شفافية استبطان الأشياء والتماهي معها في أسرارها، من يانيس ريتسوس، في مائياته الشعرية الشبيهة بمياه تغمر الصخور أو القاع، كما في «كنارُ الشفق»:

كم مرَّة سنؤاخي النافذة القديمة.

 

نتأمل المياه التي لم تكشف بصرها

ولا رعاة سرِّها.

 

كأنه تواقيع النائمين في ورشة الماء.

 

لنا يدٌ

ولا نلمس بها أحدًا.

وفي أحيان أخرى، نراها تقترب من إيتل عدنان. ولكنها بالتأكيد ذات جديد شعريٍّ في قصيدة النثر العربية. هي أكثر غموضًا واختزالاً وأقل معاقرةً للمعنى من رموز قصيدة النثر. هي صاحبة أحوال شديدة الغموض والارتباك، وغالبًا ما تخرج من اضطراباتها وأخيلتها وصورها المؤلَّفة دونما رابط عقلي أو سببي، أو حتى تأليفي، يشكِّل ما أطلق عليه السرياليون «الوحدة العضوية». تخرج، بضربة ما، بصورة كأنها منحوتة نحتًا («غزالة تحت قبة الكهرمان»، مثلاً)، بعبارة، بانخطاف، بمفارقة: «تصالب الذئب والموسيقى»، مثلاً، أو «لم يبقَ من عطره الأزرق سوى كاتدرائية صغيرة»، أو «الرعشة المسحوبة من أعناق الخيل/ وتلك النظرة المطروقة في العنق»، أو «جرَّت تماثيلها الضريرة إلى الغابة»، أو «ورداؤها ملقى على ظهور الخيل المقعدة»، أو «أرقب كأيِّل زجاجيٍّ النظرة المطروقة في العنق»، أو «تفلق الفجر من فخذيه العاريتين، وتعاشر الأثر»، أو «بك أجهل لكثرة ما تعلِّمني»، أو «أسير كوثبة أيِّل على ظهري بذورُ ظلمة وأحذيةُ ريح»، أو «روحي المتوازنة كعمود الضوء أقدِّمها كحذاء ملكيٍّ لقدمك المعبودة»، أو «لا فرق بين ابن آوى وآدم»، أو «النمور مخمورة»، أو «عطرنا سمكة لا تحصى، صارت ريحًا جمًّا»، أو... أو...

بلا ذاكرة

صحيح أننا هنا أمام كاتبة غير مبتدئة، – ولنقل إنها متمرسة بالكتابة، وذات قراءات أكيدة، وتجارب كتابية سابقة، – لكن شعرها يترك انطباعات، لا يترك مفاهيم. وإذا كان ثمة من ذاكرة تتركها النصوص، فهي ذاكرة صورية وغامضة: فقط بعض صور وعناوين، كضربات مؤثرة في فراغ غامض، أو كشيء ما ناتئ في كومة مُصمَتة.

لننظر مثلا العنوان التالي: «نمور مخمورة»، أو «أيِّل زجاجي»، أو «عصفور في سريره»، أو «Ring Wood»، أو «قبة الكهرمان»، أو «راعيات النار» – فهي صور ربما تكتفي بذاتها لصنع مناخاتها.

وعلى الرغم من الاختزال المدرَّب الذي تتمتع به نصوصُ جانسيت علي، إلا أن صورها وتركيبها الصوري ربما ينتمي إلى عالم السريالية المبعثرة، حيث ثمة جمعٌ لصور وجُمَل بلا بناء، مثل قولها في «مجمع الشموع»:

الحجر له ركب مائية وقلائد

الأجنة تراسل صحف المساء.

فهي تتوه وتُتيه، في غموض مركَّب، لا مجال فيه لألفة بين النصِّ وصوره المبعثرة والمتباعدة. وأحيانًا، من خلال عنوان ذي إيحاء هو «راعيات النار»، تندرج سرياليةٌ غرَّة، كالتالي:

تشبهين نميمةً مسلوقة بالعطر

على غنة الليل...

 

كيف تنزعين عن العدم

ركبتيه النيئتين؟

 

الضراعة ثدي محلوب...

 

لا تأوي إليه أوراقُ النهر

ولا تلك الحارسةُ بيوضَ الخبل الإلهي.

ففي مثل هذا التوهان الصوري السريالي، يخبط أحيانًا نصُّ الشاعرة خبطًا بين التداعي الصوري الآلي وبين التداعي اللغوي، لكنْ، غالبًا، بفانتازيا إبداعية، لا تولي ذاكرةَ قصيدة النثر كبيرَ اهتمام.

*** *** ***

عن السفير، 28/10/2005


 

[*] جانسيت علي، العاثر أمام النهر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، طب 1، 2005.

[†] على الأقل بالنسبة لي شخصيًّا، في حدود اطلاعي على الحركة الشعرية المتطورة حتى هذه الأيام.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود