مدخل إلى التنويرالأوروبي

المرجع الناصح للفكر "الصالح"

 

وضاح يوسف الحلو

 

من ستة فصول ومائتين وتسع وخمسين صفحة يتألف كتاب هاشم صالح مدخل إلى التنوير الأوروبي[*]، متضمنًا انتفاضة نقدية–جمالية على الفكر الأصولي من ثلاث حلقات: العصور الوسطى، فعصر النهضة، ثم عصر الاستنارة أو التنوير الكبير les Lumières، الذي حقق قطيعة حاسمة مع الفكر السلفي الذي مازال يعيث فسادًا في العالم العربي والإسلامي. يقول هاشم صالح في هذا الصدد:

إذا كانت العصور الوسطى قد انتهت نهائيًّا في أوروبا الغربية وأصبحت نسيًا منسيًّا، فإنها لا تزال مستمرة أو متطاولة عندنا حتى الآن. وما انتشار الحركات الأصولية الحالية بمثل هذه السرعة والنجاح إلا دليل واضح على استمرارية العصور الوسطى.

بُنِيَتِ الآراءُ الجمالية في أوروبا القديمة على أساس من المعاناة الجمالية وتقديس الطبيعة، وتجسدت في الإنتاج الشعري والزجلي للشعراء الجوالين (تروبادور Troubadours). كما كانت حضارة أوروبا القرون الوسطى العريقة منهلاً غزيرًا لعملية تطوير المفاهيم الجمالية، ناهيك عن الآداب المترجَمة، وخصوصًا البيزنطية، التي تسلَّلت من خلالها الأفكارُ الجمالية ذات الطابع الديني والصوفي. وبعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، ظهرت في غرب أوروبا مجتمعاتٌ إقطاعية، عمادها الطبقي الإقطاعيون والفلاحون، علمًا بأن المجتمع الفلاحي يكتنز الروحانيات.

وفي الفترة الأولى، بعد انهيار الأسلوب القديم في الإنتاج، لوحظت انهياراتٌ في الاقتصاد، تبعتْها تكسرات ثقافية في عصر وسطي يقوم على أساس بدائي جدًّا، حيث كانت الثقافة وقفًا على رجال الكهنوت، فاقتصرت على ما يتصل بالدين واصطبغت بالصبغة الدينية.

الباحثون في الجمال

نتيجة لظروف الانهيار السياسي (ما بين القرنين الخامس والحادي عشر)، سيطرت المفاهيم الكهنوتية للثقافة على الحياة الروحية في القرون الوسطى سيطرة قوية، وظهر الأدب الكنسي في أناشيد وأشعار روحية وتفاسير الكتاب المقدس والدراما الكنسية. وَقَعَ الفن في تلك المرحلة تحت تأثير ديكتاتورية السلطة، منتظرًا المكافأة في الآخرة، وظهر الاستخفاف بالعالم المحسوس. لذلك رأينا الفن مصطبغًا بالرمزية والمجاز. وإلى الفن الرسمي، كان هناك الفن الشعبي؛ إلا أنه لم يحصل على كيانه الخاص ونظريته المميزة.

الآباء ومعلِّمو الكنيسة كانوا أول الباحثين في الجمال في العصور الوسطى، ومنهم: باسيليوس الكبير (329-379)، يوحنا فم الذهب (344-407)، توما الأكويني (1225-1274)؛ وهؤلاء وضعوا أهم الأسُس الجمالية التي أصبحت نقطة تحول في التفكير الجمالي.

انعكست الملامح الجديدة للمفاهيم الجمالية على آراء توما الأكويني الذي كان هدفه الرئيسي تكييف تعاليم أرسطو مع الفلسفة المسيحية. وفي الجدال بين الواقعيين والإسميين، لزم الأكويني جانب الواقعيين. ونحن عندما نبحث في آراء الأكويني الجمالية، يجب أن نلحظ أنه خطا خطوة إلى الأمام بالمقارنة مع أغسطينوس (354-430) وغيره من ممثلي الأفكار الجمالية في الفترة الأولى من الإقطاعية. عاش الأكويني في فترة عانت رمزيةُ القرون الوسطى إبانها من الانهيار التدريجي. أما دانتي ألِجييري (1265-1321) فقد اتجه نحو الرمزية الصوفية الجميلة. لذا حاول الأكويني أن يبرِّر جمال العالم المحسوس وأن يجد الأساس الموضوعي للرائع السامي.

تُعرَف حضارة العهد الذي تشكَّلتْ عِبْره العلاقات الرأسمالية في أوروبا باسم "عصر النهضة" Renaissance؛ وقد استُعمِلَ مصطلح "نهضة" في بعض المؤلِّفات ليعبِّر عن الفنون الجميلة. ووفاءً للحقيقة، نقسِّم عصر النهضة إلى قسمين: الأول مع بوكاتشيو (1313-1375)، پتراركا (1304-1374)، ليون باتيستا ألبرتي (1404-1472)، ولورنزو؛ والثاني مع شكسپير (1564-1616) وثربانتس (1547-1616). وبين هذين العصرين، تنبسط المرحلة المسماة بـ"النهضة العظيمة"، أي زمن ليوناردو دافنتشي (1452-1519)، رافائيلو (1483-1520)، وإرازموس روتردامسكي (1469-1536). وفي جميع المراحل المختلفة لعصر النهضة، في أثناء مسيرة الحضارات عِبْر هذه المراحل، ظل العصر يُعتبَر من الناحية النوعية "ظاهرة متكاملة". فقد أوجد عمالقةً في قوة التفكير والأهداف والصفات. وأناس تلك الفترة تميزوا باهتماماتهم المتنوعة، لأنهم ما كانوا بعدُ عبيدًا لتقسيم العمل.

بدأ تطور نظام الإنتاج الرأسمالي في إيطاليا، ثم انتشر في أنحاء أوروبا. والمقصود بذلك حضارة عصر النهضة التي أوجدت حضارةً عَلْمانية جديدة تقف في وجه الحضارة الإقطاعية. الإنسان في تصور الإنسانيين ليس "غرسة ضعيفة" ولا "شمعة في مهب الريح"، بل بطلٌ جاء إلى الحياة ليحقق إنجازات عظيمة. لقد آمن الإنسانيون بطبيعة الإنسان الخيرة؛ وهم يؤكدون أن الإنسان لا ينتهز الحرية المعطاة له للقيام بأعمال شريرة. يقول النهضوي فرنسوا رافيل: "اكتسب الإنسان الحر من الطبيعة مناعةً ضد كل ما هو شر وسلبي ومعيب." ويعتقد الإنسانيون أن الإنسان لا يحتاج إلى تقييد من الخارج، ويقفون موقفا سلبيًّا من الشرائع، لأنهم يعتقدون أن الإنسان يتمتع بتوازن داخلي يعصمه مبدئيًّا من الزلل. وقد أوجد النهضويون مفهومًا جديدًا للنبل لا يتبلور بانتماء الإنسان إلى عائلة مشهورة أو بلون الدم، لأن الدم، كما يقول پتراركا، "ذو لون واحد دائمًا". وهناك ميزة خاصة للنهضويين هي نضالهم ضد مفهوم التسلط الفكري: "العقل ذو قوة لا تُحَد"، كما قال لورنزو.

وفي نهاية القرن الخامس عشر، ظهرت تغييرات جذرية، وبدأت تظهر في الأدب اتجاهاتٌ تطالب بالانغماس في اللذة ومباهج الحياة. كما ظهرت تغييرات جديدة في الوسائل والأسلوب أدت إلى ظهور الروح الخلاقة في الفن الفرنسي (عصر التنوير أو الاستنارة) الذي ولد في فترة تكوُّن الحكومات المطلقة في أوروبا، وتاليًا، في فترة تركيز الحكم المطلق في فرنسا نفسها.

سيِّد الفكر

في هذا السياق يقول هاشم صالح:

إنه أول عصر يبلور لنفسه برنامج عمل واضح المعالم من خلال كتابات الفلاسفة ومعاركهم الفكرية. ومصطلح "التنوير" يعود إلى هذا العصر بالذات؛ ولكي نفهمه ينبغي أن نقارن الأنوار بالظلمات، أو الواضح بالغامض.

وازنت الملكية المطلقة، التي بلغت ذروة سيطرتها في عهد لويس الرابع عشر، بين الإقطاعية والبرجوازية، وذلك بتمثيلها دور الوسيط بينهما. لكن ثقافة الحكم الاستبدادي المطلق بُنِيَتْ على أساس النهب الوحشي للشعب، وتقلَّصتْ القاعدةُ الاجتماعية لهذه الثقافة بالنسبة إلى ثقافة عصر النهضة.

كانت ثقافة الحكم المطلق ذات طابع مزدوج: إذ فيها اختلطت مصالح الأمراء والبرجوازيين؛ وكان لهذا تأثير على المفاهيم الجمالية. لذا ليس من قبيل المصادفة أن يصبح رونيه ديكارت (1596-1650)، واضع آراء حول الطريقة العقلانية، سيد الفكر. وقد تميزتْ تلك الفترة بانتصار البداية المحددة في الحياة السياسية والاقتصادية وبازدهار الثقافة، إلى جانب الإنتاج المانيفاكتوري والتقدم في مجال العلوم الدقيقة وتفتُّح براعم العقلانية Rationalisme في الفلسفة. وضع ديكارت أسُس فلسفته الجمالية–الكلاسيكية في رسائله الثلاث إلى جان لويس بلزاك وفي مؤلَّفات أخرى أوجب فيها أن يكون الفن تابعًا لنظام صارم يفرضه العقل وأن يطبِّق الوضوح والتحليل الدقيق على المسائل الجمالية. غير أن بوالو (1636-1711)، في كتابه المكوَّن من أربعة أجزاء، وضع أسُسًا واضحة لأفكاره الجمالية، مناقِشًا فلسفة الشك الديكارتية، وكذلك أعمال كورناي (1606-1684) وراسين (1639-1699) وموليير (1622-1673).

وما يميز عصر التنوير الأوروبي أنه اعتمد على الفن الروماني، لا الإغريقي القديم الذي كان أكثر حرية؛ وكان النموذج المثالي للتقليد هو إنياذة فرجيل (70-19 ق م). من هنا أعطى كورناي الأفضلية للموضوعات المستوحاة من ثقافة الإمبراطورية الرومانية وبيزنطة. وقد صبَّ التنويريون اهتمامهم الرئيسي على مسائل الجمال والتناغم والتناسب والتناسق التي هي الجوهر الحقيقي للعالم والإنسان.

ونستطيع القول إن الثورة البرجوازية في فرنسا وألمانيا إبان القرن الثامن عشر كانت لا تزال تلوح في الأفق، فيما الثورة في إنكلترا كانت قد حصلت. لذا، فإن مزايا الاعتدال والرغبة في المصلحة والواقعية في تحديد الموضوع الثقافي من صفات التنوير الإنكليزي. ولهذا تأثر التنوير الألماني بمفاهيم الجمال التي صاغها المتنوِّرون الإنكليز، مثل تحليل الإنسان تحليلاً واقعيًّا وتجريبيًّا، مع فتح معارك أدبية مع التيار الپيوريتاني المعادي للمسرح الذي يلهي عن الصلاة! في تلك الفترة ظهر فرنسيس بيكون (1561-1626)، مؤسِّس المادية، الموجَّهة ضد المثالية الدينية، بخصائص العقل الثلاث: الذاكرة، التخيل، الإدراك.

مع نهاية القرن الثامن عشر، ظهرت في أوروبا أرتال من الأدباء والمفكرين والشعراء والمسرحيين الكبار، من توماس هوبس (1588-1679) إلى فولتير (1694-1778)، الذي أعار جلَّ الاهتمام للعقل والعلم وبذل عبقريته كلَّها في النضال ضد النظام المطلق وضد الكنيسة والتعصب الديني وأفكار القرون الوسطى.

لقد سار الفكر التنويري في طريق وعرة، قال عنها الشاعر الألماني العظيم شيللر (1759-1805):

إن الإنسان يبتعد عن هدفه الأسمى بطريقتين: إما أن يصير ضحية العنف، وإما أن يصير وضيعًا ومنحلاً؛ ويجب على الجمال أن ينقذ الإنسان ويوصله إلى الطريق الصحيح، بعيدًا عن هذين الخطأين.

ترى، متى يكون لنا، نحن العرب، عصر تنويرنا؟!!!

*** *** ***

عن النهار، الخميس 17 تشرين الثاني 2005


 

[*] صدر عن دار الطليعة، بيروت، 2005.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود