|
قراءة في القاتل هيَّأ للمقتول وصيَّة النهايات المفتوحة منذ البداية
قال: سأفتح أقفاص اللغة وأطلق جلجلةَ حديدِ الأبوابِ وأنَّاتِ السَّرد لأجعل من ليلكَ أرقًا. قلت: تريَّثْ، لا تتوهمْ، لا تسقطْ في شَرَك اللغة فتقتل ما أنبتَهُ القصُّ على كفيَّ وقلبك. قال الراوي: ستعيش إذًا كوحوشٍ متعفِّنةٍ فيَّ وفيك. فدعنا نخطئ، نطلقها، نتركها تتكسَّر حتى الموت، فتعطي للقصص الآتية حياةً كي تولد فينا.
يشكِّل هذا المقطع، المأخوذ من نصِّ الغلاف الأخير للمجموعة القصصية القاتل هيَّأ للمقتول وصيَّة[*] لإياس محسن حسن، الثانية له بعد خرائط مدن محروقة، المدخلَ الأكثر مناسبة لعرض قصص هذه المجموعة المتميزة ببصمة كاتبها وشغفه اللغوي الشديد الخصوصية...
... هذا الشغف الذي يترك القارئ حائرًا بين القصيدة والقصة، دون أن ينتقص هذا "اللبس" من قيمة أحدهما في بعض القصص، بينما يكون عبئًا ثقيلاً على القصة في بعضها الآخر – هذا الشغف، نقول، وَجَدَ طريقَه إلى القارئ عِبْر مصالحة أقرَّها الكاتبُ في النصِّ السابق لتكون بوابةً لولوج عوالمه، أو للخروج منها بأكبر قدر ممكن من الحماية – حماية القارئ من الوقوع في "شَرَك اللغة" عبر وضعه على تماس مباشر مع أرَقِ الكاتب بها وبكيفية ترتيبها على جسد القصة، وأيضًا بإشراكه في نتاج هذه المصالحة وتكسُّر هذا النتاج "حتى الموت" على أبواب تجربة جديدة متميزة بحق. تتألف المجموعة القصصية من سبع قصص، تبدأ بـ"تتشح بأسوَد". وهي قصة تتناول موضوعًا يقترب في عمقه من أكثر الأسئلة غموضًا وإثارة للجدل حول المرأة وموقعها من الآخرين – الذكور تحديدًا: الموضوع هو تلك العلاقة المثيرة للجدل بين أرملة القرية ومجنون القرية، وسط مجتمع أسير ذكورته وحبِّه معًا. تروي القصة، بلغةٍ تناسبتْ مع مساحة الحدث القصصي، هواجس مجموعة من شباب القرية الذين يترقبون منزل الأرملة ويحلمون، كلٌّ في سرِّه، بنبش ذلك "السر–المرأة"، لكنْ بطُرُقهم الخاصة التي تسيطر أيضًا على طريقة تَعامُلهم مع مجنون القرية: يعرف كلٌّ منا أن الآخر يتسلل ليلاً، يقبع تحت النافذة ليسترق السمع إلى صوت امرأةٍ تشتعل وتحترق وتبكي حتى تغفو، لكنْ لا نفصح. لا نفصح، ونعود ونجتمع، كما كلِّ غروبٍ، تحت البلوطة فوق كراسي القش الواطئة أمام الدكان، وننتظر المنغولي لنضحك. (ص 10) إلى أن يُخلَق حدثٌ جديد يؤدي إلى توقف المنغولي عن ممارسة دور المهرج، تاركًا خلفه سؤالاً يمضغ عقولهم! تأتي القصة التالية – "نورا صلَّت" – لتلامس شفافية الطفولة عِبْرَ عهد أخذتْه طفلةٌ بترك عيديَّتها عند وليِّ الله كي يشفي لها الله عمَّها المحبوب الذي مات في المستشفى، تاركًا الطفلة وعهدَها حيَّين من بعده. تتدرَّج اللغة في هذا القصة من المبالغة التي تجعلها أقرب إلى قصيدة ركيكة بعض الشيء في بداية القصة، إلى التألق في استخدامها للتعبير عن شخصية الطفلة في حديثها مع الله أمام قبر وليِّه: وسأترك نصف العيديَّة عند وليِّك كي يعطيها لك. ساعِدْ عمِّي. ساعدْه ليشفى، يا ربِّي. أركع عندك كي تشفي لي عمِّي وأحبك، يا ربِّي. وأحبك جدًّا. أكثر من كلِّ الناس أحبك. [...] وأنا أعطيك العيديَّة كاملة، ليس النصف، بل العيديَّة كاملةً، أتركها عند وليِّ الله ليعطيها لك. أرجوك أحبك، يا ربي. أرجوك أحبك. (ص 18) "القاتل هيَّأ للمقتول وصيَّة" هو عنوان القصة الثالثة التي اختارها الكاتب عنوانًا لمجموعته، دون أن يكون لهذا الاختيار ما يبرِّره – إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار شغف الكاتب باللغة. فاللغة في هذه القصة تلتهم الحدث والمكان والزمان والشخصيات، بحيث تبدو فائضةً عن إمكانية القصة على استيعابها، مما يوقِع الكاتبَ في التكرار الذي لا يلعب دورًا أساسيًّا من الوجهة الجمالية أو من وجهة خدمته لهدف القصة، كما في القصة الأخيرة المعنونة بـ"المدينة في الإيحاء والاحتمال"، التي سأتناولها بعد هذه القصة بسبب من اشتراك القصتين ببعض السمات. تقوم قصة "القاتل هيَّأ للمقتول وصيَّة" على مفارقة إنسانية تبدأ من العنوان: القاتل هو المقتول ذاته، الهارب من أذرع أخطبوطية لعالَمٍ يسلب المرءَ إنسانيتَه لصالح نجاحات لا قيمة لها، وتستمر حتى بعد موته في انقسامه بين شخصيتين هما: المقتول، الذي لم يتمكن من حماية نفسه من مباضع طموحات محقِّقٍ يبحث عن قاتل "حقيقي"، والقاتل الذي هيَّأ وصيةً لم تُقرَأ إلا كدليل على وجوده في حيِّزٍ آخر عنوانه المؤامرة. فكلُّ ما قد خطَّه هذا القاتل/المقتول من احتجاج على انتهاك حلمه وروحه ضاع في رغبات المحقِّق وطموحاته وتشتُّته أيضًا. فالكاتب لم يعطِ لشخصية المحقِّق سماتِ الشخصية الواثقة بما تفعله أو العارفة ما تريد، بل ظهرت الشخصية كأداة أخرى تمَّ انتهاكُها سابقًا لتمارس انتهاكاتِها على الآخرين. تتساوى شخصية المحقِّق مع شخصية القاتل/المقتول في سلبيتها تجاه مسيرة هذه الحضارة وعدم قدرتها على استيعاب كيفية جريان الأمور في الفضاء المعلوماتي الضيق. يقول المحقِّق في مناجاته لنفسه: هذا الزمن ثقيل يلعنني ويوبِّخني ويجرِّدني من رتبي، يلقي بي للأسفل لألاحق نشالاً أو شحاذًا أو ولدًا يحمل مطواة. أين الإجرام وأين القتلة؟ أين السكين المسنون تَرَكَه المجهول المجنون العاشق في قلب امرأة عبثت بهواه؟ هذا الوقت غريبٌ. أسمع أن لصوص العالم باتوا جبناء بلا إقدام. أسمع أن اللصَّ المحترف تخلَّى عن مهنته ليسرق في إنترنت. لصٌّ محترفٌ يتسلَّل في أسلاك الحاسوب: فلا بصمات ولا خطوات ولا آثار ولا شعرة ذقنٍ سقطت سهوًا أو رائحةً يمسكها الكلب. سيمسي الكلب بلا عملٍ، وسأمسي مثل الكلب ألاحق نشَّال السوق وقارص ردف البنت. (ص 34-35) يراهن المحقِّق على حدسه في معرفة القاتل مقابل قدرة الكمبيوتر على ذلك. إلا أن هذا الحدس تمَّ تشويهُه سابقًا بحيث عَمِيَ عن رؤية القاتل الفعلي لكلا الشخصيتين. في هذه القصة عدة ثغرات: منها التكرار في وصية القاتل/المقتول، والخوض في أسئلة تبدو سطحية قياسًا إلى مستوى الطرح في القصة، بالإضافة إلى المبالغة في تشتُّت المحقِّق واستلابه لرغبته في معرفة القاتل، بحيث يلجأ إلى استجواب الجثة بعد أن وُضِعَتْ في المشرحة وإلى استجواب العابرين والشك فيهم جميعًا، مما أدى إلى وجود بعض الافتعال في النهاية. القصة الطويلة الأخرى في المجموعة هي "المدينة في الإيحاء والاحتمال"، وهي القصة التي تلعب فيها اللغةُ دورًا حاسمًا عبر التهامها لتسلسل الحدث، ولكن بما يسمح لنا بالقول إن هذه اللغة هي الطريقة المثلى لاستيعاب أحداث القصة كلِّها ولاحتمال كثافتها الشديدة. فالقصة أشبه ما تكون بنواة رواية متميزة تمَّ اختزالُها إلى قصة قصيرة، متميزة أيضًا. إنها قصة تتحدث عن الموت، أو عن الحياة الميتة، في مدينة لم يبقَ فيها شيء إلا الجدران وذاكرة مجنون يسرد قصصًا تبدو مفككة للوهلة الأولى. إذ لا مدينة هنا سوى مدينة القتلى الذين أُجهِزَ عليهم – في الواقع أو في الخيال، لا فرق؛ ولا مدينة هنا سوى منزل واحد يرجمه الكبت في قلبه الذي هو فتاة جميلة حية ينفث الماضي والحاضرُ سمومَهما في روحها. منزل واحد مستنسَخ وأيام مستنسَخة. إنها قصة ضياع يختفي فيها الأفق. "خمسة أيام أخرى" هي القصة الرابعة في المجموعة؛ وهي، مع قصة "وحليبها إسمنت"، تشكلان التآلف التام بين القصة والشعر. فالقصتان تقومان على فكرتين جديدتين، محورهما المرأة. والقصتان تسردان فكرتيهما بلغة شعرية، لا تسلب القصةَ أيًّا من خصائصها، وذلك بسبب عدم تشعُّب أحداثها، بما يتعارض أحيانًا مع هذا النوع من اللغة. "سُليمى أو يكبر كالعشب المتسلِّق" هي القصة الخامسة في المجموعة والأخيرة في هذا العرض. وهي قصة مكانها المدرسة، وأبطالها تلميذٌ مجتهد وتلميذٌ كسول ومعلِّمة، يسردها الشاب الذي كان تلميذًا صغيرًا مجتهدًا. وهذه القصة، على الرغم من موضوعها المألوف، إلا أنها تمكَّنت من طرح مستوى جديد للفكرة – وهو امتياز حقَّقه الكاتب في قصص المجموعة كلِّها، على الرغم من بعض الثغرات هنا وهناك. أختم ببضعة مقاطع مختارة من ثلاث من قصص المجموعة، كي يتسنى للقارئ الإطلاع على سوية السرد القصصي في هذا الكتاب. [...] قالت، واتركني لأعشق فيك ذاتي أو سبب الحياة، ودعك من قول التفاصيل الصغيرة، دعك من حمَّى الجدالات العميقة والعقيمة، دعك من همِّ الفلاسفة القدام، ودعك من أقوال مَن كتبوا عن الحبِّ الجميل وأوَّلوه. لا شيء مما قيل يعدو كونه قولاً وتأويلاً. أحبك: ينطوي فيَّ الزمان وقول الفيلسوف، وأنطوي في ثنية الجلد المجعَّد من سنواتك الستين. واتركني أحبك: لا يبقى من الأقوال من شيءٍ إلا أحبك. ساعدني لأمسك خيط عزيمتي الخرقاء. [...] ساعدني لأنقذ سور عزيمتي المنهار، ساعدني لأنجو من هجماتِ عقلانيةٍ تسطو على رأسي، وساعدني لأحمل كلَّ هذا الحب، قالت، بينما كانت تلملم روحها، وتلملم البيت الحميم مجددًا برهافة الأنثى المهذبة الرقيقة والرشيقة الخطوات، وتعدُّ شيئًا للعشاء العاطفيِّ وتحضر الأطباق مع قنِّينة العَرَق الضروريِّ الأثير. "خمسة أيام أخرى"، ص 71-73 صوت الكلب إذا نبح بعيدًا في جسد الجبل الأسود يتسلَّل كالشبح إلى أذني امرأةٍ عاهرة تنظر في الظلمة لتقاطيع الوجه المجهول وتعرف أن اللعبة لا تفترض المعرفة المسبقة، فتلقي بوشاحٍ أخضر للخلف وتبتلُّ بأنفاسٍ لاهثةٍ شائكةٍ تزحف فوق العنق الأسمر. [...] في الليل أريد امرأةً ضاريةً حين أريد وهادئةً حين أريد وساخنةً حين أريد وميْتةً حين أريد. أريد امرأةً بارعة تعرف أن تعرف حين أريد تمامًا كيف أريد تمامًا. لكنَّا لم نتقابل من قبل: أنا أدعى ميسون. وماذا يدعونكِ أيضًا؟ باردةٌ أنتِ قليلاً. هيَّا اقتربي، فكِّي بنطالي، فأنا أريد البدء بفكِّ البنطال، يقول وصوت الكلب كشبحٍ تحمله الريح انسلَّ هنا وهناك ليسري في جسد الجبل الأسود ويزيد من كثافةِ ليلٍ يجثم فوق السيارة ويغطِّي رجلاً وامرأةً عاهرةً تجلس في المقعد قربه تنظر للأضواء المتلألئة وتسمع أمرَ البدء فتبدأ. "وحليبها إسمنت"، ص 104-105 أعرف أن أنصت لشخير الموتى عند الفجر، أجبتُ القاضي حين سألني عن عملي. الشيخ يحشرج والمجرم ينصت باستمتاعٍ، قال محامي القتلى المتحذلق للقاضي. لم أقتل أحدًا، قلت. لكنك منذ قليلٍ أكَّدت على أنك كنت وراء الباب بُعيد أذان الفجر، وكان الفجر يجيء ويزحف فوق الأسطحة، وكانت قبضة سكِّين المطبخ بين أصابعك المشدودة حين رأيتَ الشيخ يغادر بيته. هجمتَ عليه ولم تترك له حتى فرصة إغلاق الباب، ورحت تغلغل نصلك بين ضلوعه وتحاول أن تغرس كفَّك أيضًا كي تنتزع رئته وقلبه. [...] لم أقتل أحدًا، لكنْ كان الوقت صباحًا حين رأيت البنتَ تغادر غرفتها بثياب النوم وتذهب نحو الباب الأزرق في شرفة طابق غرف النوم المشرفة على الباحة. أنت تكرِّر هذا منذ مثولك في المحكمة أمامي، قال القاضي مستاءً. أخبرني بتفاصيل جريمتك ولا تسرد لي تلك القصة ثانيةً. لا أسرد إلا ما حصل تمامًا، لا أسردها ثانيةً أو رابعةً، بل أحكي عن يومٍ آخر. "المدينة في الإيحاء والاحتمال"، ص 118-119 *** *** *** [*] إياس محسن حسن، القاتل هيأ للمقتول وصية، قصص، دار الحوار، اللاذقية، 2002.
|
|
|