الجذور السياسية والاجتماعية والإيديولوجية للإرهاب

إصلاح ديني يحرِّر الدين والدولة

 

كريم مروة

 

الحديث في موضوع الإرهاب هذه الأيام يشغل العالم ويشغلنا. إلا أن ثمة فارقًا واضحًا يميِّز بين انشغال العالم بالإرهاب وانشغالنا نحن به. والمصدر الأساسي لهذا التمايُز هو، أولاً، تعريف هذه الظاهرة، الذي تقوم بتعميمه عالميًّا الإدارةُ الأمريكية على وجه التحديد؛ وهو، ثانيًا، التمويه المتعمد لجذور هذه الظاهرة، وللأسباب التي ولَّدتْها في السابق والتي تولِّدها اليوم.

والعلاقة واضحة بين التعريف والتمويه: فالتعريف هو تعريف إيديولوجي بامتياز؛ ووظيفته ووظيفة التمويه لجذور الإرهاب هي وظيفة سياسية وإيديولوجية محددة الأهداف. الأمر الذي يستدعي من الباحثين، الذين ينتمون إلى معسكر الحرية والديموقراطية والتقدم الإنساني، في بلداننا خصوصًا، الحَذَرَ والدقة، وأعلى قدرة من الموضوعية، وأعلى قدر من الجرأة والمسؤولية، في قول ما يرونه أقرب إلى الحقيقة والواقع، من دون مراعاة لأيِّ اعتبار.

والمقصود بالاعتبارات، هنا، ما يتصل ببلداننا وبأوضاعها وبتفاقم ظاهرات التخلف والفساد والاستبداد فيها المولِّدة للعنف، بأشكاله المتعددة. وهي أشكال بعضها قابل للتفسير أو للتبرير، وبعضه يدخل مباشرة في باب الإرهاب بمعناه الدقيق. والتحفظ هنا في الحديث عن الإرهاب يدعوني إلى استباق بحثي هذا بطرح جملة من الأسئلة، بهدف إثارة التفكير والجدل وما يتصل بهما من دعوة إلى تسديد رؤيتنا للأشياء وللأحداث. وهي أسئلة لا تنبع من رغبة ذاتية، ولا من شعور ذاتي؛ بل هي تنبع من واقع محلِّي وإقليمي وعالمي، تعاني شعوبُنا من نتائجه في حياتها اليومية، وتخشى من مخاطره على حاضر بلداننا ومستقبلها، وعلى حاضر البشرية ومستقبلها في الوقت عينه.

***

لقد تكوَّنتْ هذه الأسئلة عندي بفعل ما قرأتُه من أبحاث حول الإرهاب، ومن جراء ما سمعتُه من أحاديث ونقاشات حول الموضوع، كان آخرها تلك التي حَفَلَ بها المؤتمرُ العالمي المناهض للإرهاب الذي نظَّمتْه الحكومةُ الجزائرية في العاصمة الجزائر في أواخر شهر تشرين الأول المنصرم [2002]. وقد شاركتُ في هذا المؤتمر، وساهمتُ في النقاشات الواسعة المتعددة الاتجاه التي ميَّزتْ جلساتِه الطويلة المتواصلة على امتداد ثلاثة أيام. وإذ ركَّز مجمل النقاشات على أن الإرهاب ظاهرة عالمية، وأن على العالم جميعًا أن يتصدى لمواجهتها، حرصتُ في مداخلتي على التأكيد بأن هذه الظاهرة ليست إلا جزءًا من قضية أكبر ذات امتدادات وتجلِّيات وخصوصيات محلِّية وإقليمية. إذ اعتبرتُ أن العنف، في أشكاله المختلفة – ومنها الإرهاب – ليس، في حقيقته، سوى فعل وردِّ فعل، ثم فعل وردِّ فعل، وهلمَّجرا. وهذان الفعل وردُّ الفعل، اللذان يشكِّل تكرارُهما ظاهرةً تاريخية تصل الأزمنة بعضها ببعض، إنما يثيران، بذاتهما، سؤالاً كبيرًا أحب أن أبدأ به أسئلتي المشار إليها.

***

يتمحور هذا السؤال حول طبيعة الحقبة التاريخية التي يمرُّ بها العالمُ اليوم في مطالع القرن الحادي والعشرين. ذلك أن البشرية، إذ تنتقل من قرن كان حافلاً بمشاريع كبرى للتغيير، تواجه اليوم، بعد انهيار تلك المشاريع، مصيرًا لا أبالغ إذا ما قلت إنه مصير مجهول. وأهمية التوقف عند تحديد طبيعة هذه الحقبة من تاريخ البشرية أنه يساعدنا، كلاً منَّا في بلده وجميعَنا على الصعيد العالمي، في إعادة صوغ مشاريعنا المنهارة، الصغيرة والكبيرة، المحلِّية والعالمية، في اتجاه تحقيق الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية لشعوبنا ولجميع الشعوب.

وهي عملية لا يمكن لها أن تعطي ثمارها إلا إذا قامت على قاعدة المراجعة النقدية، محليًّا وعلى النطاق العالمي، للتجارب السابقة كلِّها، وللمشاريع المرتبطة بها، التي طمحتْ إلى تحقيق التغيير في اتجاه الحرية والتقدم والمساواة لأبناء البشر قاطبة. يؤكد ذلك، في نظري، أن العالم المعاصر يسير، بخطى واسعة، نحو وحدته، موضوعيًّا وبالقَسْر، في الوقت عينه. وفي هذه الحقيقة التاريخية، بالذات، تكمن الإشكالية الكبرى التي تواجه البشرية كلَّها في هذه الحقبة من تاريخ العالم. وجوهر هذه الإشكالية يتحدد في السؤال المباشر الآتي: ما العمل لكي تكون وحدة العالم الموضوعية هذه وحدة إنسانية، أي غير قسرية وغير متوحشة، تتحقق فيها الحريةُ للشعوب، وتُصان فيها حقوقُ الإنسان، ويُحترَم التعددُ والاختلافُ في الثقافات، وتُصان القيمُ الإنسانية من التشويه، ويسود السلام؟

ما العمل لكي يكون بالإمكان منع قوى الظلم والاستبداد والاستغلال المهيمنة، باسم العولمة الرأسمالية وتوابعها، من أن تستمر في تحكُّمها بمصائر الشعوب، من طريق القهر والعدوان والتسلط، وأن تتمادى في تهديد الكوكب الأرضي بالاحتراق؟

من هذه الإشكالية التاريخية، بالذات، التي يعبِّر عنها هذا السؤال الكبير، ينبغي أن يبدأ البحث الحقيقي في موضوع الإرهاب. وعلينا، في هذا السياق ومنذ البداية، أن نجيب عن الأسئلة البسيطة الآتية:

-       كيف نواجه – نحن الشعوب التي يقهرها الرأسمالُ المُعَوْلَم وتوابعُه – التعريفَ السائد للإرهاب الذي تعمِّمه الإدارة الأمريكية بعد الحادي عشر من أيلول وقبله؟

-       وكيف نعيد صوغ هذا التعريف في شكل صحيح؟

-       وكيف نعمل لكي تتجنَّد شعوبُنا، بأدوات وأشكال صحيحة، للنضال ضد إرهاب الدولة الكبرى، أولاً، وضد كلِّ إرهاب ينتمي إلى الصيغة ذاتها لهذا الإرهاب؟

-       ما العمل لكي نتمكن من جعل إرهاب الدولة الإسرائيلية هدفًا لمقاومة عالمية واسعة تشمل الشعوب والدول؟

-       كيف نحدد الإرهاب بأشكاله وصيغه المتعددة، حتى ولو كان مصدرُه من عندنا، وباسم قضايانا الكبرى؟

-       كيف نفرِّق بين أشكال العنف: بين ما هو مشروع منها وما هو إرهاب حقيقي؟

-       ما العمل لكي يكون التمييز واضحًا بين الفعل وردِّ الفعل، في علاقة الصراع بين الظالم والمظلوم، في المسؤولية عن التدمير الذي يُحدِثه كلٌّ منهما؟

-       هل صحيح أن العنف، بصيغه وأشكاله المختلفة، في الأمكنة وفي الاتجاهات المختلفة، هو فعل مستقل؟ – أي أنه من دون جذور ينتسب إليها، ومن دون أسباب ولَّدتْه في السابق، وتولِّده اليوم.

-       أليس من الأصح أن نقرَّ بأن إرهاب الدولة هو الأصل، وهو الجذر في كلِّ عنف، وأن إرهاب الأفراد والجماعات، على الرغم من اختلاف الأهداف وتناقضها، هنا وهناك، هو شكل من أشكال ذلك الإرهاب وصيغة من صيغه ونتيجة حتمية من نتائجه؟

إنها أسئلة من جملة أسئلة كثيرة تصب في الاتجاه ذاته. وعلينا أن نمتلك الجرأة في الإجابة عنها بأعلى قدر من الدقة والمسؤولية، قبل أن نذهب بعيدًا في البحث في موضوع الإرهاب ذاته، كظاهرة مجردة، أي غير تاريخية.

***

مساهمتي في الإجابة عن هذه الأسئلة تبدأ بالتمييز العام بين إرهاب الدولة وإرهاب الجماعات والأفراد. والنماذج القديمة والحديثة لإرهاب الدولة، في تحديدي لها، تختلف في أشكالها وتلتقي وتتقاطع في جوهرها. فالدولة التي تحتل بلدًا آخر خارج حدودها وتقهر شعبه وتمنعه من حقِّه في تقرير مصيره إنما تشكل النموذج الأول والأبرز لإرهاب الدولة. والمثال الراهن البالغ التعبير عن هذا النوع من الإرهاب هو ما تقوم به دولة إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، اليوم ومنذ أكثر من نصف قرن. ولهذا النوع من الإرهاب شبيه في التاريخ الحديث، يتمثل في ما شهدتْه الجزائر وفييتنام، وفي ما شهدتْه بلدانٌ عديدة أخرى كانت تمارس حقَّها في النضال من أجل الحرية والاستقلال ضد دول كبرى كانت تستعمرها وتحاول تأبيد هذا الاستعمار بالتدخل العسكري الفظ.

النموذج الثاني لهذا الإرهاب يتمثل في النظام العنصري السابق في كلٍّ من جنوب أفريقيا وزيمبابوي. أما النموذج الثالث فيتمثل في أنظمة الاستبداد، على اختلافها وتمايزاتها، التي تقمع شعوبها، وتصادر حرياتها، وتنهب ثروات بلدانها، وتُبقيها في حالة متمادية من التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. إلا أن النموذج الأكثر فظاظة لإرهاب الدولة هو ما تمارسه الدول الكبرى من قمع وقهر وعدوان وضغط وحصار ضد الدول الصغيرة. ويتمثل هذا النموذج من إرهاب الدولة في ما تمارسه اليوم الولاياتُ المتحدة، منفردة، حيال البلدان الأخرى، بصفتها الدولة العظمى التي تعطي لنفسها صفة القائد الأوحد للعالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

وهي في ذلك تتجاوز في شكل فظ الأممَ المتحدة ودورَها المفترَض الذي من أجله أنشِئَتْ هذه المنظمة في أعقاب الحرب العالمية الثانية كضرورة تاريخية. والمثال الأبرز اليوم لهذا الدور الأمريكي هو الموقف من العراق. وهو موقف لا يرمي إلى تحرير شعب هذا البلد من نظام استبدادي مغامر استمر، منذ أكثر من ثلاثين عامًا، في قهر شعبه وإفقاره وإذلاله (وهي، على أية حال، مهمة لا تعود لغير الشعب العراقي وحده من دون سواه)، بل هو يرمي من وراء تدخله العسكري، إذا ما أتيح له ذلك، إلى الهيمنة على هذا البلد وعلى ثرواته وثروات المنطقة وامتداداتها، شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا.

***

من هنا ينبغي لنا أن نبدأ في الحديث عن الإرهاب وجذوره، وعن أشكال العنف كافة، التي يشهدها عالمنا المعاصر والتي شهدها العالم في عصور سابقة. ويهمني، قبل البدء في تقديم قراءتي لأشكال العنف السائدة من قبل الأفراد والجماعات – ما هو مشروع منها، تفسيرًا في الأساس وتبريرًا في بعض الحالات، وما هو إرهاب بالمعنى الدقيق للكلمة – يهمني أن أعلن موقفي من العنف بشكل عام. ففي اعتقادي أن العنف، كردِّ فعل للمظلومين والمقهورين على الظلم والاستبداد وعلى القهر القومي والاجتماعي، لم يعد، وفق ما أثبتتْه التجاربُ في التاريخ القديم والمعاصر، هو السبيل الصحيح والوحيد للانتصار على الظلم والظالمين، ولم يعد هو الطريق الصحيح والوحيد لتحقيق الحرية والتقدم والسعادة للشعوب.

كلامي هذا لا يعني، بالطبع، أن الحرية للشعوب تأتي من تلقاء ذاتها، أو تأتي منحة من المستبدين. كلا. فالنضال من أجل الحرية والعدالة والتقدم هو الشرط الأساسي لتحقيق هذه الأهداف الكبيرة. لكن النضال لا ينحصر في شكل واحد ووحيد. بل هو يتخذ دائمًا أشكالاً وأساليب وأدوات لا حصر لها، تبتدعها الشعوبُ وفق شروط تاريخية معينة تحدِّدها طبيعةُ المرحلة في البلد المعين. وإذ أدعو إلى تحرير النضال من أجل الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية من أشكال العنف التي سادت قديمًا، وتسود حديثًا، فلأنني أعيد قراءتي للمفهوم المعمَّم والسائد للثورة. فالثورة هي، في نظري، عملية تاريخية لها زمنها الضروري ولها شروطها. ويتصل كلُّ من الزمن والشرط ويتحدَّد بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقانوني القائم في البلد المعيَّن. ويتصل كلٌّ منهما ويتحدَّد بمستوى الوعي الذي تمتلكه القوى المعنيةُ بالتغيير الديموقراطي، في ميادينه كلِّها، في الاتجاه الأفضل والأرقى، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وقانونيًّا. وهو ما يتمثل في تحقيق الحرية والتقدم الإنساني للأفراد والجماعات على مستوى كلٍّ من الدولة ومؤسَّساتها والمجتمع ومؤسَّساته.

ولذلك فالثورة، بهذا التحديد لها، ليست قفزة؛ ولا يمكن، موضوعيًّا، أن تحقق الهدف المطلوب منها بقفزة. وأرمي بهذا التحديد للمفاهيم إلى التمييز بين مَن يقوده الإيمانُ بالتغيير عن طريق الثورة ومَن يقوده اليأسُ إلى أعمال عنف، كردِّ فعل على الظلم المتمادي، من ناحية، وبين مَن يمسي العنفُ عنده مهنةً للقتل والإجرام تتخذ صفة الإرهاب من دون التباس، من ناحية ثانية. ولا يقلِّل من هذا التوصيف لهذا النوع من العنف بأنه إرهاب احتماءُ القائمين به، هنا وهناك، بمرجعيات إيديولوجية وعقائدية دينية، إسلامية على وجه الخصوص، وعلمانية شيوعية، من مثل ما فعله بول بوت في كمبوديا. كلاهما يعلنان انتسابهما إلى مرجعية إيديولوجية، حتى وهما يناقضان الأسُس الجوهرية لمرجعيَّتيهما.

***

الأمثلة على النموذج الأول من العنف في بلداننا تتمثل في ما نشهده في فلسطين من عمليات استشهادية، خاطئة من وجهة نظري، في المبدأ والسياسة والجدوى، يقوم بها أبطالٌ حقيقيون لا يترددون في تقديم حياتهم من أجل وطنهم، كتعبير عن اليأس المتراكم والكفاحية المتواصلة، في آن واحد. والمشكلة هنا بخصوص هذه العمليات إنما تكمن في موقف الجهات التي تدفع هؤلاء الأبطال إلى القيام بهذا النوع من العمل الانتحاري بديلاً من النضال الشعبي، الذي هو أساس كلِّ نضال، بأشكاله المعروفة كافة.

أما الأمثلة عن النموذج الثاني من العنف المشار إليه فتتمثل في ما قام به بن لادن وأمثاله من العرب الأفغان، في أفغانستان وفي الجزائر وفي مصر وفي اليمن وفي أماكن أخرى. وأحداث الحادي عشر من أيلول في أمريكا هي الصورة البشعة لهذا النموذج، تكمِّلها في الجزائر جرائمُ القتل المتمادية التي يرتكبها أولئك السفاحون الذين يمارسون مهنة القتل ضد المدنيين الأبرياء بوحشية وبدم بارد، من دون أيِّ رادع إنساني أو أخلاقي.

وأخطر ما يمثله هذا النوع من الإرهاب الفردي والجماعي هو أن أصحابه يمارسونه باسم الإسلام – والإسلام، قطعًا، بريء منهم ومنه، وبريئةٌ منه ومنهم القيمُ الإنسانية الكبرى للدين الإسلامي والإنجازاتُ الكبرى للحضارة العربية الإسلامية، التي امتد ويمتد إشعاعُها في كلِّ أرجاء المعمورة. إلا أن المشكلة الحقيقية في ما يتعلق بهذا النوع من العنف، بشقَّيه، الذي يعلن أصحابُه انتماءهم إلى الإسلام، هي أن بعض المؤسَّسات والمرجعيات والحركات والأحزاب الإسلامية لا تزال تتبنَّى جزءًا منه ولا تتبرأ من الجزء البشع فيه. الأمر الذي يعطي للعنف، بعامة – وحتى للعنف الذي يحمل صفة الإرهاب، كذلك – مشروعيةً وشعبيةً من قبل الجماهير العربية المقهورة، وفي الوقت ذاته، من قبل أنظمة الاستبداد القائمة في بلداننا، ومن قبل إرهاب الدولة الكبرى المتمثل بالولايات المتحدة.

وهي مشكلة لن نجد حلاً صحيحًا لها، في نظري، إلا عندما يتحقق، من داخل الدين الإسلامي ومن داخل مؤسَّساته، إصلاحٌ ديني، جوهره الإقرار بفصل الدين عن الدولة. وهو فصل يرمي إلى تحرير الدين من التباسات الدولة وسلطاتها، وتحرير الدولة من إسقاطاتٍ ذات طابع إيديولوجي ديني هدفُها خدمة المصالح الخاصة، التي تحاول الحكوماتُ الدينية، من موقعها في السلطة، فَرْضَها على الدولة والمجتمع. وهي مهمة تاريخية لا ينحصر تحقيقُها في المؤسَّسات الدينية وحدها، بل ينبغي أن تتكثف الجهودُ من كلِّ الجهات لتأمين شروط تحقيقها.

***

أريد أن أخلص مما طرحتُه من أسئلة ومن مساهمة أولية في الإجابة عنها إلى أن المسألة الحقيقية التي ينبغي أن تشغلنا في بلداننا العربية، خصوصًا، وفي العالم، عمومًا، إنما تتمثل في أن جميع الشعوب هي في حاجة إلى الديموقراطية، كشرط أساسي للحفاظ على الحرية، ولتأمين وضمان حقوق الإنسان، ولتحقيق التقدم والعدالة الاجتماعية. ذلك أن الديموقراطية، كقيمة اجتماعية وإنسانية مطلقة في حدِّ ذاتها، هي الأساس الذي يحول دون حصول العنف، كفعل وكردِّ فعل. وهي حاجة تبرز بشدة وبإلحاح في بلداننا العربية اليوم ومنذ عقود. ذلك أن الطابع المميِّز للحالة السائدة في بلداننا هو النزعة المتمادية نحو الاستبداد، وتقليص الديموقراطية، والحدُّ من الحرية الفردية، وإلغاء التعدد، والسعي إلى التوحيد القسري للمجتمعات – وهي أمور تتعارض، في شكلها وفي جوهرها، مع طبيعة الحياة.

إن بدعة الحزب الواحد التي تسود في معظم بلداننا منذ زمن طويل، والسلطة الواحدة التي لا تتبدل ولا تتغير، والعقائد والإيديولوجيات الدينية والعلمانية التي تدَّعي احتكار الحقيقة وترفض الاعتراف بالآخر – جميعها تتحمل المسؤولية عن الظاهرات المَرَضية التي تعج بها مجتمعاتُنا العربية اليوم والتي تشكِّل عائقًا حقيقيًّا أمام تحرُّر بلداننا وتقدمها. ومن دون الإقرار بذلك، بأقصى الجرأة وبأعلى قدر من المسؤولية، وعلى قاعدة المراجعة النقدية العميقة للتجارب السابقة، لن يكون بإمكان بلداننا أن تشقَّ طريقها إلى مستقبلها وأن تتحرر من أزماتها المزمنة. فذلك هو الشرط الضروري لكي تدخل هذه البلدان في العالم المعاصر وتصبح جزءًا منه. وهو الشرط الضروري لكي تكون قادرة على المساهمة في العملية التاريخية الشاقة: عملية صياغة مستقبل أفضل للبشرية.

أقول، بكلام آخر، إنه من دون الإقرار بالواقع القائم، ومعرفته بدقة، وتحليله بعمق، ومن دون الإقرار بضرورة الخروج منه على النحو الذي أشرت إليه، ستتفاقم الأزماتُ القائمة والمتمادية، المنتقلة من مرحلة إلى مرحلة ومن جيل من السلطات إلى جيل آخر. ستتفاقم هذه الأزمات، وما يترافق معها وينتج عنها من وقائع وظاهرات، اتخذتْ أشكالَها المتفاقمة هذه بفعل الانهيارات التي أصابت مشاريع التغيير القديمة والحديثة. وقد تمادت هذه الأزمات وتفاقمت بفعل انصراف أصحاب هذه المشاريع عن مهمة إعادة صوغ مشاريعهم، في ضوء تجارب الماضي وتحولات العصر، وبقائهم في حالة الترهل والتراجع، واجترار أفكار الماضي، وانتظار المستحيل الذي لن يأتي.

***

المهمة الملحة، إذن، إنما تتلخَّص في أن تتصدى القوى الجديدة – قوى المستقبل، الشباب والمثقفون خصوصًا – لصياغة مشاريع جديدة للنهضة، مشاريع ديموقراطية حقيقية للتغيير، مختلفة نوعيًّا، بسبب اختلاف الشروط التاريخية، عن المشاريع السابقة كلِّها، حتى وهي تستمد منها بعض أفكارها وتغتني من تجاربها. وعندما تقوم هذه القوى الجديدة بصياغة هذه المشاريع، ستتوافر الشروط التي تؤدي إلى ولادة كتلة تاريخية من نوع مختلف، قادرة على شقِّ الطريق إلى المستقبل. وفي مثل هذه الحالة فقط يمكن أن تتحرر بلدانُنا من الظاهرة المَرَضية التي تتمثل في ما نشهده من عنف مدمِّر، سواء منه ذلك النوع الذي يحمل معه مشروعيتَه، تفسيرًا أو تبريرًا – حتى ولو كان خاطئًا – أم ذلك النوع الذي يدخل في باب الإرهاب بالمعنى الدقيق للكلمة.

إلا أن هذه الكتلة التاريخية الجديدة، التي لا بدَّ من توفير شروط قيامها في بلداننا، بالمفرد وبالجمع، ستشكِّل، عندما تنشأ، جزءًا من تراكُم عالمي في الاتجاه الذي يساعد على خلق كتلة تاريخية عالمية جديدة. وهي الكتلة التاريخية التي ستوكَل إليها مهمةُ قيام عولمة بديلة، عولمة توحِّد العالم على أساس إنساني، نقيض لعولمة الرأسمال المتوحش الذي ولَّد – ويولِّد على الدوام – كلَّ تلك الظاهرات التي تهدد البشرية بالفناء وتهدد كوكب الأرض بالاحتراق.

***

تلك هي قراءتي لموضوع الإرهاب، تحديدًا وتمييزًا، أسبابًا ونتائج – وخصوصًا للمستقبل. ووظيفة هذا التحديد للظاهرة، ووظيفة هذه الخطط لمواجهتها، تتمثلان في تحرير بلداننا، وتحرير العالم، من كلِّ عنف يقود إلى التمييز.

*** *** ***

عن النهار، الأربعاء 13 تشرين الثاني 2002

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود