|
قراءة
في أعمال هِرْمَن هِسِّه الإبداعية ومواقفه
الفنِّية لعبة
الكريَّات الزجاجية هيكلُها
الموسيقى وأساسُها التأمُّل اهتم
هِرْمَن هسِّه بالقراءة، وعمل على تثقيف نفسه
وتطوير أسلوبه ومفاهيمه الفلسفية والجمالية؛
وكان يبدي اهتمامًا كبيرًا بغوته. بدأ بنشر
الشعر في العام 1899 بديوان صغير بعنوان أغانٍ
رومانتيكية، واهتم بالأدباء
الرومانتيكيين، مثله كمثل الموسيقي الكبير
براهمز. ولا شك بأن روايته لعبة
الكريات الزجاجية، التي حازت على جائزة
نوبل للعام 1946، تُبرِز اهتمامَه الفائق
بالطبيعة، وتمجيد البساطة والفطرة، ونقد
المجتمع، والسعي إلى إيجاد الانسجام مع
الطبيعة، والاهتمام البالغ بالموسيقى ووضعها
في أعلى مكانة من سلَّم الثقافة. وتشهد حياة هِرْمَن هِسِّه
اتصالات كثيرة مع أدباء وفنانين مشهورين في
عصره، منهم شتيفان تسفايغ، صاحب رسالة من
امرأة مجهولة (أربعة وعشرون ساعة من حياة
امرأة). وقد اتصل هِسِّه بالموسيقيين
والمصورين، مثل أوتمار شوك، ملحِّن أوبرا الهاربون،
التي وضع هِسِّه كلماتها ولحَّن بعض قصائده،
وكذلك فولكمار أندريه وفيرتِس براون وإدفِن
فيشر، الذين لحَّنوا الكثير من قصائده. وكان
هِرْمَن هِسِّه يتقن العزف على الكمان منذ
نعومة أظفاره؛ كذلك كانت زوجته تتقن العزف
على البيانو في مهارة عالية، وكادت أن تكون من
المحترفين. كان نشاط هِسِّه الأدبي
يتجه إلى نشر مؤلَّفات الشعراء
الرومانتيكيين الألمان، وأعمال تاريخية
وأدبية من العصر الوسيط، ومجموعة من قصائد
غوته بمناسبة مرور 100 سنة على وفاته. وقد أعدَّ
دراسة عن الرومانتيكية الألمانية التي
تعلَّق بها تعلقًا شديدًا، واعترف بفضلها
عليه في الولوج إلى عالم أسرار الطبيعة وعالم
الفكرين الهندي والصيني. كتب هِسِّه رواية الرحلة
إلى الشرق في العام 1930. تدور هذه القصة حول
"رابطة" من اختراعه، تضم جماعة من الناس
يسمون أنفسهم "رحَّالة الشرق". هؤلاء
الناس بعضهم من أهل الماضي، وبعضهم من أهل
الحاضر، يجتمعون على رحلة في طلب العلم،
تجوالاً من أجل المعرفة. وهِسِّه يضع نفسه في
داخل الإطار الروائي، كعادته في أعماله
السابقة والتالية كلِّها – وهو هنا
الموسيقار هـ.هـ.، عضو رابطة "رحَّالة
الشرق" الذي يسعى إلى المُثُل التي تتخذ
منها الطائفة أهدافًا لها؛ ولكنه يتعرض للشك
واليأس، ويعتقد أن "الرابطة" قد تدهورت،
أو أنها تقوم على غير أساس – وإلا فما معنى
فشله؟ ويحتاج الأمر إلى محكمة تقول كلمة
العدل في قضية الموسيقار هـ.هـ. الذي سعى إلى
المُثُل العليا على طريق الرابطة الفكرية،
فلم يصل إلا إلى اليأس. وهكذا يقف هِسِّه (الموسيقار)
أمام المحكمة، ويأتي حكم المحكمة على هيئة
حكمة إنسانية عميقة: اليأس
شيء يعتري المفكر الذي يحاول جادًّا أن يفهم
الحياة الإنسانية وأن يجد لها ما يبررها.
واليأس شيء ينتهي إليه المفكر الذي يحاول
جادًّا أن يعيش الحياة على أساس العدل
والفضيلة. واليأس خط يقسم الإنسانية إلى
حزبين: إلى هذه الناحية منه التلاميذ، وإلى
تلك الناحية منه الكبار. اشتغل هِسِّه بدأب لا مثيل
له في كتابه لعبة الكريات الزجاجية.
واحتاج لتأليف هذه الرواية إلى القيام
بدراسات عميقة في ثقافة القرن الثامن عشر في
أوروبا، وإلى دراسة الحركة التَّقَوية في
شفاين، وإلى دراسة الموسيقى. وفي روايته بيتر
كامِنتسند نجد أن الموسيقى هي نواة الثقافة
والتأمل، ونقرأ عن نيتشه وفاغنر؛ وإلى
الاثنين يرجع الجهد المجدِّد في ردِّ الثقافة
الإغريقية – أمِّ الثقافة الأوروبية – إلى
نواة التراجيديا، وردِّ هذه النواة إلى نواة
أعمق وأصفى وأقدم هي الموسيقى. وهنا نشير إلى كتاب نيتشه مولد
التراجيديا من روح الموسيقى، وإلى كتابات
فاغنر النظرية جميعًا. ونحن عندما نقرأ رسائل
هِسِّه إلى أسرته في شبابه، نلاحظ اهتمامه
بنيتشه وفاغنر، ونجده يقول: "فعلاً إن
موسيقى شوبان تملك عليه نفسَه وفكَره، وإنها
بالنسبة إليه كموسيقى فاغنر بالنسبة لنيتشه."
وأما التأمل فهو أعظم ما أتى به من الهند
والصين واستخلصه من الرومانتيكية الألمانية.
يقول هِسِّه عن رائعته لعبة الكريات
الزجاجية (من قصيدة كتبها العام 1936): وتبدأ
في وجداني لعبةُ
أفكار، اهتممت بها منذ سنين. اسمُها
"لعبة الكريات الزجاجية": هيكلها
الموسيقى، وأساسها التأمل. وكان هِسِّه يقدِّر القرن
الثامن عشر تقديرًا خاصًّا. فهو عصر التنوير
الفلسفي والتنوير الصوفي معًا: عصر باخ، الذي
ارتقى بالموسيقى إلى قمة توشك أن تكون
أسطورية. وهذه وحدها حقيقة تكفي، بحسب حكمة
الصينيين، للقول بأن العصر كان عصر ازدهار
للناس. فالصينيون كانوا يبنون أحكامهم في
ازدهار الدولة أو تدهورها، بكلِّ نواحيها،
على الموسيقى: الموسيقى المنسجمة علامة العصر
المزدهر؛ والموسيقى النافرة علامة العصر
المتدهور. وكانت فكرة اللعبة – لعبة
الكريات الزجاجية – قد تملَّكتْ
المؤلِّفين الموسيقيين والعلماء في القرن
السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، ممَّن
بنوا مؤلَّفاتهم الموسيقية على أساس من
التأملات الرياضية. وكثيرًا ما نصادف في
الآداب القديمة أساطير عن ألعاب، فيها السحر
والحكمة، ابتكرها علماء أو رهبان أو مفكرون،
وراحوا يلعبونها (مثل لعبة الشطرنج التي كانت
قطعُها وتقسيمات رقعتها تحمل معاني
سرَّانية، إلى جانب المعاني العادية).
والجميع يعلم بأن الروايات والحكايات
والأساطير التي وصلت إلينا منذ فجر الثقافات
كلِّها تضفي على الموسيقى، علاوة على كيانها
الفني، قوة تتسلَّط على الأرواح والأقوام
وتسيِّرها، كأنها وزير آمر أو قانون ينضوي
الناسُ ودولُهم تحته. فمنذ أقدم العصور، كان
الصينيون يؤمنون بحياة مثالية سماوية
للإنسان تسيطر عليها الموسيقى. وهذا التقديس
للموسيقى نجده عند نوفاليس: "إن سلطان
الموسيقى الخفي للنشيد يحيينا في الدنيا
بنغماته الخالدة." أما هِرْمَن هِسِّه
فيقول: كان
لتعمُّق علم الموسيقى، الذي بدأ بعد العام 1900
بقليل، أي وسط عصر ازدهار صحافة التسلية (صحافة
الاستهلاك)، أكبر أثر يمكن تصوُّره في أصول
اللعبة. ونحن، وارثي هذا العلم، نعتقد أننا
نفهم موسيقى القرون الخلاقة العظيمة،
وخصوصًا موسيقى القرنين السابع عشر والثامن
عشر؛ بل نعتقد أننا، على نحو ما، نفهم هذه
الموسيقى أحسن من فهم كلِّ العصور السابقة
لها (بما في ذلك عصور الموسيقى الكلاسيكية
ذاتها)، لأننا، بطبيعة الحال، وقد أتينا بعد
تلك العصور الخلاقة، نقف من موسيقاها موقفًا
آخر يختلف عن موقف الناس الذين عاشوا فيها.
وإن احترامنا الموسيقى هو ذلك الاحترام
الروحاني الذي يتحرَّر الآن من حزن التواكل؛
هو شيء آخر يختلف كلَّ الاختلاف عن الشغف
الساذج والظريف بالموسيقى الذي كانت تعرفه
تلك العصور، والتي نميل إلى حسدها على ما
ننسبه إليها من سعادة أكثر مما بين أيدينا،
كلما نسينا، في معرض اهتمامنا بموسيقاها،
الظروفَ والمِحَنَ التي نشأت تلك الموسيقى
فيها. ونحن، منذ أجيال وأجيال، مثلنا كمثل
القرن العشرين كلِّه تقريبًا، لا نرى في
الفلسفة أو في الآداب، ولا حتى في الرياضيات،
وكذلك الموسيقى، النتاج العظيم الذي عرفتْه
ثقافاتُ تلك الفترة التي تمتد من نهاية
العصور الوسطى وحتى أيامنا هذه، أي منذ
تخلِّينا بصفة عامة عن التنافُس في نواحي
الإبداع مع تلك الأجيال، ومنذ رفضنا مبدأ
سيادة الانسجام وسيادة الدينامية الحسِّية
البحتة في العزف الموسيقي، ومنذ أن نسينا ذلك
المبدأ القدسي الذي كان يسود الموسيقى منذ
أيام بتهوفن والرومانتيكية الأولى. لكننا،
على الرغم من ذلك، نعتقد الآن، على طريقتنا
التي تفتقر إلى الإبداع ولا تقوى على
المحاكاة، أن صورة تلك الثقافة التي ورثناها
أصفى وأصح، ولم يعد لدينا شيء مما كان لتلك
العصور. ويضيف هرمن هِسِّه: العلاقة
بين ثقافتنا وبين الموسيقى تعرف لها مثلاً
أعلى بالغ القدم، عظيم القدر، تكنُّ له لعبة
الكريات الزجاجية أعلى احترام وتبجيل. فنحن
نذكر في الصين الأسطورية، أيام كان يحكمها
"قدماءُ الملوك"، أن الموسيقى كانت تعلب
دورًا قياديًّا في حياة الدولة والبلاط. وقد
كان الناس هناك يساوون آنذاك بين ازدهارها
وازدهار الدولة كلِّها؛ فكان على الأساتذة
الموسيقيين أن يسهروا على المحافظة على
الأنغام القديمة والإبقاء على نقاوتها. فإذا
تدهورت الموسيقى كان ذلك لديهم علامة مؤكدة
على تدهور الحكومة والدولة. وكان الأدباء
يحكون حكاية مرعبة عن الأنغام المحرَّمة
الشيطانية المطرودة من السماء، مثل نغمة: تشنغ
شانغ وتشنغ تسي، أي "موسيقى التدهور"،
التي ما أن دقَّتْ نبراتُها الآثمة في قصر
الملك حتى أظلمت السماء وزُلزِلَت الأسوار
وسقط الأمير ودولته. ويورد هِرْمَن هِسِّه فقرات
من باب الموسيقى في لو–بو–في، أي "ربيع
وخريف": "ترجع
أصول الموسيقى إلى زمان بعيد. جذورها ممتدة في
الواحد الأعظم؛ والواحد الأعظم أوجَدَ قطبين:
قوة وظلام وقوة ونور. فإذا كان الكون في سلام،
وكانت الأشياء كلُّها مطمئنة، وكانت تتبع في
تحولاتها تلك التي تعلوها، اكتملت الموسيقى." "وإذا
لم تكن الرغبات والعواطف في مسالك الضلال
تحسَّنتْ الموسيقى وصارت إلى الكمال.
والموسيقى الكاملة لها أصل: فقد نشأت من
التوازن؛ والتوازن نشأ من العدل؛ والعدل ينشأ
من روح الكون. لذلك لا يمكن أن يتكلَّم المرء
على الموسيقى إلا مَن عرف روح الكون." "الموسيقى
تعتمد على الانسجام بين السماء والأرض، وعلى
التوافق بين الظلام والنور. والدول المتدهورة
ذات الرجال الذين نضجوا للتدهور لا تفتقر إلى
الموسيقى، لكن موسيقاهم ليست مرحة صافية.
إذًا: كلما كانت الموسيقى صاخبة صار الناس
منقبضين، وأضحت الدولة معرضة للخطر وازداد
انحدار الأمير. ومن ثم يضيع جوهر الموسيقى
أيضًا. لذلك كان الشيء الوحيد الذي قدَّرَه
جميع الذين يقدسون الموسيقى هو صفاءها. أما
الطاغيان جيا شو سن فكانا يصغيان للموسيقى
الصاخبة، ويسعيان لإنتاج مؤثرات نغمية جديدة
وغريبة، نغمات لم تكن أذنٌ قد سمعتْها من قبل." ويقول هِسِّه على لسان أحد
أبطاله في رواية لعبة الكريات الزجاجية: إن
الموسيقى الكلاسيكية، في رأينا، هي جوهر
ثقافتنا ومضمونها العميق، لأن هذه الموسيقى
الكلاسيكية هي أوضح تعبير لها. إننا نملك،
بامتلاكنا لهذه الموسيقى، تراث العصور
القديمة وتراث المسيحية، ونملك روح الإيمان
– إيمان شجاع مشرق – ونملك أخلاقًا ذات
فروسية لا يُعلى عليها. إذ إن كلَّ ظاهرة
ثقافية كلاسيكية هي مَثَل أعلى إنساني لسلوك
إنساني يتلخَّص في ظاهرة ثقافية؛ وهي،
بالتالي، أخلاق. وقد أُنْشِئَتْ في الفترة ما
بين عامَي 1500 و1800 موسيقى كانت أساليبُها
وطُرُقُها التعبيرية مختلفة، لكن روحها
وأخلاقها كانت واحدة في الحالات كلِّها. والسلوك
الإنساني الذي خرجت الموسيقى الكلاسيكية
تعبِّر عنه هو سلوك واحد دائمًا، لا يختلف، لا
يتغير، ويعتمد دائمًا على ضرب واحد من العلم،
ويرمي إلى ضرب واحد من سيطرة الإنسان على
المصادفة. وظاهرة الموسيقى الكلاسيكية تعني:
العلم بمأساة الإنسانية وقبول مصير الإنسان
والشجاعة والصفاء. وسواء أخذنا مثالاً من
أعمال هندل وآخر من أعمال كوبران، أو أخذنا
حسِّية ارتقتْ إلى التعبير الرقيق، كما في
أعمال كثيرة من الموسيقيين الإيطاليين
وأعمال موتسارت، أو أخذنا الاستعداد المطمئن
للموت، كما في أعمال باخ، فإننا نجد فيها
دائمًا العناد والشجاعة أمام الموت، ونجد
فيها الفروسية، ونغمة مِن ضحك فوق مستوى
البشر، وإشراقًا خالدًا لا يموت. هذا ما ينبغي
أن ينبض في لعبنا بالكريات، وينبض في حياتنا
كلِّها، وينبض في ما نفعل وفي ما نعاني. ***
*** *** تنضيد:
نبيل سلامة
|
|
|