ذاكرة الباطن

 

أكرم أنطاكي

 

الجزء الثاني

 

مقدمة – أو لنقل، هو طائر الليل "يهذي":

وحيدًا، مختبئًا، تُراجِع محصِّلة ما مضى. كنتَ صادقًا، إلى حدٍّ كبير، فيما عرضتَه وما ذهبتَ إليه. ولكن، وسط الظلام الدامس، أتُراك تدرك أن ما تمَّ حتى الآن، إنما كان الأبسط والأسهل؟! – لأن الأصعب والأهم لم تقلْه بعدُ يا صديقي!

ولأنك قد لا تقوى على الذهاب من خلاله حتى النهاية... لأن هذا قد يتطلب في الحقيقة مواجهة أعماق نفسك؛ ومن خلالها، مرة أخرى، استعادة كلِّ دقائق حياتك الماضية.

ولأن هذا سيفترض حتمًا مراجعة دائمة لأفكارك وأحكامك ومشاعرك؛ ومن خلالها، مراجعة البشر المحيطين بك. وأيضًا وخاصةً...

لأنك خائف، ربما، وأنت على وشك الإقدام على ما قد يقودك إلى التهلكة...

والتهلكة قد تكون من الخارج – من أولئك الذين تابعوك في صمت واهتمام و/أو بحماس ظاهر أو حقيقي و/أو حتى... باستنكار!

والتهلكة قد تكون من أعماق نفسك التي قد لا تصمد أمام الامتحان العسير.

لذلك مهلاً، يا صديقي، مهلاً. هو صوت "عقل" يدعوك إلى التروِّي، وربما إلى الاكتفاء بهذا الباطن–الظاهر، وبما أنت عليه الآن. ولكن...

أنت وحدك تعلم، قبل سواك، ماذا تقول أحجارُ نَرْدِك التي ألقتْها يدُ القدر منذ البداية لتحدِّد ماهية النهاية.

أنت وحدك يعرف أنه ربما... لم يعد في وسعك لا التوقف ولا التراجع!

***

 

الفصل التاسع

حماة الديار...

(1971-1973)

آ

الدورة وما تلاها!

 

طائر الليل:

"حماةَ الديار عليكم سلام

أبَتْ أن تُذَلَّ النفوسُ الكرام..."

خليل مردم بك، النشيد الوطني السوري

 

... وأعود ، اليوم، وقد توصلتُ إلى قناعة مفادها أن نفوسنا هي التي "أُذِلَّتْ" على أيدينا، قبل أن تُذَلَّ على أيدي "حماة ديارنا" – الذين هم نحن في نهاية المطاف. أعود لأستعيد تلك الأيام التي بدأتْ منها رحلتي الحقيقية في الحياة العملية. و...

أتذكر جيدًا أنني كنت حزينًا وأنا في عربة النقل العام التي كانت تقلني وسواي من دمشق إلى معسكر ...... الذي حُدِّدَ موقعًا لتجمُّعنا. لأني – والحقُّ يقال – لم أكن مسرورًا البتة بالالتحاق بخدمة العلم والابتعاد عمَّن أحب؛ خاصة وأن وضعي المادي لم يكن أضحى مريحًا بعد؛ ما كان يعني أني سأمر من جديد بفترة مالية صعبة، لعل أسوأ ما فيها اعتمادي المتجدد (وزوجتي معي)، ولو نسبيًّا، على الأهل لفترة أخرى من الزمن. وكنت أفكر متسائلاً: أنْ لماذا لم أستفد من الوضع الصحِّي لأخي سمير؟ لماذا لم أضع نفسي في موضع "الوحيد" أو "المعيل"، وأُعْفَى من هذا الفَرْض اللعين؟ ربما، إلى حدٍّ ما، لأن "المعاملة"، كما كنت أتخيلها، كانت صعبة في حدِّ ذاتها؛ ما جعلني أفضل الخدمة وضياع سنتين ونصف من حياتي على مواجهة صعوبةِ بيروقراطيتنا العسكرية وجلافتها! و/أو ربما لأنني وجدت يومئذٍ أن من المهين – أنا الذي كنت لم أزل مقتنعًا حينئذٍ بكوني "مناضلاً" من أجل ما أفهمه اليوم قضية "خاسرة" – أن أتهرَّب من هذا "الواجب الوطني" المقدور والمطبَّق على معظم شبابنا.

ويصرخ السائق بالركَّاب أنْ "وصلنا إلى "المعسكر" يا شباب!" فينزل البعض، وأنزل معهم مترنحًا، وأسمع قهقهةً وصوتًا جهوريًّا ورائي يقول:

-       مرحبا يا أكرم!

فألتفت، لأرى جورج حمصي، بقامته الطويلة وابتسامته الصبوح، وهو ينظر إليَّ مبتسمًا.

-       أهلاً، جورج، ومعذرة لأني لم أنتبه إلى وجودك في هذا الباص اللعين. ولكن، لماذا لم تنبِّهني أنت؟!

-       ربما لأني لم أشأ أن أقطع عليك شريط أحلامك!

ونتجه معًا نحو بوابة المعسكر، حيث نسلِّم أوراقنا، فنوجَّه إلى "برَّاكة" عفنة، قيل إنه من المفترض أن تكون مهجعًا لنومنا. ثم، يُطلَب منَّا الذهاب إلى عند الحلاق لقصِّ شعرنا، فإلى عند المصوِّر لأخذ صورة هوية ونحن في وضعنا الجديد.

وننظر أنا وجورج باشمئزاز إلى "الحلاق المفترض" الذي كان يجزُّ رأس أحد الجنود، بينما كان يجلس حوله أربعة أو خمسة أفراد ينتظرون دورهم. وينظر واحدنا إلى الآخر في عجب، قبل أن يبادرني صديقي الجديد[1] بالتساؤل الذي كان يراود خاطري:

-       هل ستحلق رأسك عنده؟!

-       فما الحل؟

-       أن نقصَّ شعرنا بأنفسنا. أنا معي مقص، وكلانا معه عِدَّة حلاقة ومرآة.

وكان هذا ما حصل: قصَّ كلٌّ منَّا شعر الآخر على "الزيرو"، ونحن نقهقه ضاحكين.

-       لقد بتَّ تشبه المجرمين يا أكرم!

-       وأنت لست أفضل حالاً منِّي بكثير!

ونتَّجه معًا إلى عند المصور ليأخذ لنا صور هوية مائية. فنأخذها ونحن نضحك إلى "الذاتية"، حيث كان المفروض أن يعدُّوا لنا أوراقنا الثبوتية المؤقتة. فيستلمها الرقيب المسؤول وهو ينظر إلينا باحتقار ويقول:

- ستكون هويتكم المؤقتة جاهزة يوم الاثنين [أي بعد ثلاثة أيام]، وستوزَّع عليكم بعد اجتماع المستجدين في الساعة العاشرة صباحًا. لذلك يمكن لكم حتى ذلك الموعد أن تستريحوا وتقضوا الوقت في الرياضة أو في برَّاكاتكم.

ويبادرني جورج بالسؤال فور خروجنا من الذاتية:

-       وهل سنبقى حتى الاثنين في هذا الماخور؟

-       أتعني أن نجد طريقة لنهرب من هنا الآن، ونعود إليه يوم الاثنين قبيل الاجتماع؟

ونجد جنديًّا ونحن في طريقنا إلى البرَّاكة، فنسأله عن طريق "جانبي" للخروج من المعسكر. فيضحك ويرشدنا إلى نقطة منزوية من السور قائلاً:

-       من هناك، حيث توجد ثغرة يدعونها "اللواء شريط". وطريق العودة هو أيضًا عبر نفس "اللواء"؛ فأدوا له التحية! فقط حذارِ من الشرطة العسكرية على الطريق وفي المدينة، لأن العلقة معهم بهدلة!

وأفكر أنه ليس منضبطًا جدًّا، ذلك المعسكر الذي كانت هاجمتْه، قبل بضعة أشهر، فرقةُ كوماندوس إسرائيلية! وأعود إلى دمشق، حيث فوجئتْ منى بعودتي، فنقضي معًا ثلاثة أيام من الإجازة السعيدة غير المتوقعة، لأعود إلى المعسكر صباح الاثنين (مع جورج هذه المرة)، فندخله عبر "اللواء شريط"، ونحضر الاجتماع الذي افتتحه اللواء قائد المعسكر بخطبة وطنية "عصماء"، استلمنا بعدها كلٌّ هويته المؤقتة وأمر مهمة يحدِّد لنا مكان التحاقنا. وكان توقيت التحاقي مع دورة المهندسين هو يوم السبت القادم، وكان المكان "مدرسة الهندسة العسكرية" في حلب.

وأعود من جديد إلى دمشق – لكن بشكل نظامي هذه المرة – فأقضي إجازة قصيرة أخرى، قبل أن ألتحق بدورتي التي في حلب. حيث...

وصلت إلى المعسكر مساء يوم الجمعة. وقد بدا لي المكان، للوهلة الأولى، وكأنه أكثر انضباطًا من ذلك الآخر الذي في ...... . فهنا كان الجو العام أكثر جدِّيةً عند استقبالنا، حيث كان أن تمَّ اقتيادُنا مباشرةً، بعد تسلُّم أوامر مهمتنا وتسجيلها والتأكد من هوياتنا المؤقتة، إلى حيث تمَّ تسليمنا ملابس التدريب العسكري وبطَّانيتين لكلِّ عنصر. ثم اقتادني أحد جنود المعسكر إلى حيث يُفترَض أن تكون منامتنا، فتوقَّف أمام إحدى البرَّاكات التي كان يجلس عند عتبتها بعض مَن سبقني إلى الالتحاق بالدورة – وكانوا أربعة من "الملتحين" (أي من "الأخوان المسلمين" أو الأصوليين) الذين تبيَّن لي أني أعرف أحدهم – وسألني:

-       ما رأيك بهذه البرَّاكة مع الشباب من الشام؟

-       ليش ما في غيرها؟

فضحك لأنه فهم أني لا أرغب مشاركة أولئك "الملتحين" برَّاكتهم، وقال لي:

-       جميع هذه البرَّاكات التي ما تزال فارغة تحت تصرفك.

فاخترت إحداها. وبعد ترتيب سريري، جلست عند عتبة الباب أنتظر، لعلَّه يُتاح لي انتقاءُ شركائي في البرَّاكة. وكان جورج، الذي وصل في وقت متأخر من الليل، آخر أولئك الذين "انتقيتهم".

وبدأت تلك الدورة، التي دامت ثلاثة أشهر والتي لم تترك لديَّ إجمالاً، حين أتذكرها، انطباعات سيئة، لأنها كانت، في مجملها، مجرد حياة تدريبات رياضية وعسكرية عند الصباح وبعيد الظهر، بالإضافة إلى بعض دروس ما يدعونه بـ"النظام المنضم" في حدود الساعتين يوميًّا، ودروس في المساحة والهندسة العسكرية والسلاح الخفيف إلخ – دروس عادية، كان بعضها مفيدًا لنا حتى...

حيث كان مفيدًا لنا فعلاً أن نخرج من روتين حياتنا المدنية وأن نستعيد حيوية أجسامنا. وكان مفيدًا – حتى ولو لبعض الوقت – عدم التفكير: لأنك تكتشف، أول ما تكتشف، أن العسكرية هي، باختصار ومن حيث المبدأ، "الطاعة" – من منطلق عدم التفكير والخضوع للأوامر التي هي تحديدًا – كما يقولون، وعلى ما أذكر – أنْ "... بما أن قوة الجيش في نظامه فإن أول ما ينبغي هو خضوع المرؤوس لرئيسه وتنفيذ الأوامر بحذافيرها، لأن السلطة التي تُصدِر هذه الأوامر مسؤولة عنها..." – هذا القانون الأول الذي يلقِّنونه لكلِّ عسكري، المقتبَس، كما اكتشفت لاحقًا، من نظام الجيش الفرنسي. وأتفكر أن السلطة التي تصدر الأوامر مسؤولة عنها فعلاً، كأية سلطة؛ لكن التساؤل يبقى دائمًا: تجاه مَن؟ لأن هذا هو التساؤل الرئيسي الذي لم يكن أحدٌ منَّا يتجرأ على سؤاله لنفسه – وربما مازال لا يتجرأ إلى اليوم! لأنه حين يكون البلد ديموقراطيًّا تكون المسؤولية – مسؤولية أية جهة حكومية أو مسؤول حكومي – هي تجاه المؤسَّسات المدنية، وخاصة منها البرلمان الذي يمثل الشعب. أما في البلدان غير الديموقراطية، فمسؤولية مَن يُصدِر الأوامر هي تجاه نفسه – وفهمنا كفاية! لذلك تراني لا أتوقف أمام هذا الأمر، إنما أتابع، متذكرًا أن...

حياتنا كانت، إذن، حياة روتين عسكري، يتلخص، قبل كلِّ شيء، بـ: الاستيقاظ المبكر عند الصباح...

وأتذكر أني كنت دائمًا من أوائل مَن يستيقظون، حوالى الخامسة والنصف قبيل أذان الفجر، لأرتب أموري قبل أن "تعجق" ويستيقظ الجميع... وأتذكر أنه كان يليني في الاستيقاظ " شلة الملتحين" الذين كانوا يمرون كلَّ يوم من أمامي وهم يحملون أباريقهم متجهين نحو المراحيض للوضوء وأداء صلاة الفجر. وكانوا يتجنَّبون النظر إليَّ، بينما كنت أتابعهم بنظراتي الساخرة وأنا أبتسم.

ثم كان "التفقُّد" وتحية العلم، ثم الرياضة، ثم الإفطار، فالدروس حتى الظهيرة، فالغداء، فقيلولة بعد الظهر، فالتفقُّد من جديد، فالدروس المسائية، فالعشاء، فالتفقُّد مرة أخيرة، فالانصراف إلى النوم استعدادًا ليوم جديد؛ و/أو غالبًا، بين الحين والحين، الاستعداد لدروس تدريب ليلي أو لمسير أو لمناوبات حراسة حول المعسكر... حياة عادية وخشنة، أهم ما فيها كان أنها تعلمك اكتشاف ذاتك وحقيقة مَن حولك...

حياة أهم ما فيها أيضًا، ربما، كان انتظار نهاية الأسبوع (أي الخميس) بلهفة للانصراف في إجازة يوم الجمعة، حيث تُتاح لنا رؤية الأهل والأحباب – إجازة كنت أقضيها في صحبة زوجتي التي تركت دمشق وعادت إلى حلب – إلى بيت أهلها – لتكون بقربي. أيام جميلة، كنَّا نقضيها في التنزه و/أو زيارة بعض الأصدقاء، كصديقي ورفيقي في الحزب جمعة وزوجته غادة، اللذين كانا يسكنان في حلب – جمعة الذي كان يؤدي أيضًا خدمة العلم، وكان فرزُه في "مدرسة المدفعية" الواقعة في نفس مجمَّع المعسكرات الذي كانت فيه مدرستنا.

وأتذكر هنا، للمناسبة، أنه أحيانًا كانت هذه الإجازة تتعرقل بفعل "حماقة" أحدنا؛ ما كان يحرمنا منها. عندئذٍ، كان يجب علينا البحث عن طريقة للهرب عبر "اللواء شريط" (وهذا ما كان يفعله بعضنا غالبًا لأنه كان الأسهل) و/أو السعي لإقناع الضابط المناوب كي "يتحنَّن علينا" ويدعنا نذهب (وهذا كان شبه مستحيل، إلا لمن عنده "واسطة"). وأيضًا...

 

-       في تلك الفترة، أصبحتُ آتي لزيارتكَ مرتين في الأسبوع لمدة ساعة، أنا وغادة، زوجة جمعة...

-       وأيضًا، في تلك الفترة، نجحتِ في امتحانات الباكالوريا السورية، وسجَّلتِ في "المعهد العالي للمدرِّسين" بدمشق، قسم اللغة الفرنسية، حيث كان نظام ذلك المعهد ينص بأن يدفعوا للطالب راتبًا خلال دراسته، مقابل أن يردَّه بعد تخرجه من خلال توظُّفه في الدولة. سجَّلتِ كطالبة، وكان عليك أن تسبقيني إلى دمشق، وذلك على الرغم من أن...

 

دورتي لم تكن قد انتهت بعد؛ حيث كانت مدتها المقررة نظريًّا ستة أشهر، كزملائنا في الدورة التي سبقتْنا والذين التقينا بهم في المدرسة، والذين كان من بينهم صديقي في مدرسة العازرية والكلِّية مروان عبد النور – أولئك الذين كنا نحسدهم، لأن عذابهم سينتهي قريبًا، فيصبحوا ضباطًا، ويُفرَزوا إلى أماكن قريبة مبدئيًّا من أماكن سكناهم. ولكن...

بدأت تصلنا فجأة شائعات تقول بأن دورتنا ستُختصَر، وأنها ستستمر ثلاثة أشهر فقط، وذلك لحاجة الجيش حينئذٍ إلى مهندسين عاملين في صفوفه.

خلال تلك الفترة، كانت أهم الأحداث السياسية التي وقعتْ هي محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها الشيوعيون في السودان ضد حليفهم السابق في السلطة، العقيد جعفر النميري، الذي كان بدأ ينحرف نحو اليمين – وأتفكر – يا إلهي! – أن إكرام كانت في السودان قبيل أسابيع قليلة ضيفةً على الحزب الشيوعي السوداني – وما تبع ذلك من عمليات تنكيل ومجازر لحقت بهم حينذاك لأنهم، كما قال أحد الرفاق، "أخطأوا، فتركوا خصومهم أحياء!" ولست أخفي اليوم أنني شعرت بغُصَّة حين سمعت هذا الكلام، الذي عبَّر عنه، ببرود، أحد الرفاق الذين كنت أمحضهم المودة وأحترمهم. شعرت بغُصَّة حينئذٍ – لست أعرف لماذا – خاصةً وأني كنت، على الأقل من الناحية النظرية، مقتنعًا معه آنذاك أنه لا لعب في الثورات، وأنه كان من المفترض أن يفعلوا كما فعل ثوار أكتوبر في روسيا، فيُجهِزوا على جميع خصومهم. وقد استنكر حزبُنا حينئذٍ عمليات التنكيل التي لحقت برفاقنا السودانيين (الذين لم تُتَحْ لهم لا الفرصة ولا الوقت للتنكيل بخصومهم!). وكذلك فعل مجملُ الحركة الشيوعية العالمية – مع ذلك التنويه الذي كان يردَّد علينا عبر الحديث السياسي والذي يقول إن "الرفاق السودانيين قد أخطأوا، لأنهم قاموا بحركتهم دون أن يحسبوا حساباتهم جيدًا، وخاصةً لأنهم لم ينسِّقوا حول هذا الأمر الخطير مع الرفاق السوفييت" – أولئك "الكبار" الذين من أهم "ميزات" حزبنا في سوريا أنه ينسِّق معهم تنسيقًا كاملاً في كلِّ شيء، وخاصة آنذاك، في تلك الظروف التي كان الصراعُ فيها يتعمَّق داخل حزبنا؛ أولئك الرفاق "الكبار" الذين قاموا، مع الرفاق البلغار "الصغار"، بتبليغنا ملاحظاتهم المتعلقة بالبرنامج السياسي... تلك الملاحظات التي كنت قرأتها حينئذٍ، والتي كان الرفاق في الحزب يروِّجون لها، كلُّ طرف من جانبه، لإطلاع أنصاره على المواقف وعلى ما كان يقال ويحكى. لأني، وإن كنت في العسكرية، حيث كان محظورًا علينا تعاطي العمل السياسي تعاطيًا مباشرًا، بقيت على صلة مع الرفاق في حلب، الذين كانوا يوصلون إليَّ وإلى جمعة كلَّ ما يصدر من مطبوعات.

وأيضًا، خلال تلك الفترة، كان اتفاق زعماء سورية ومصر وليبيا على ميثاق اتحاد فدرالي بين دولهم – مشروع وحدة إضافي آخر وغير جدِّي، على ما يبدو، خاصةً وأنهم رشَّحوا السيد محمد الخطيب لرئاسة الاتحاد – ميثاق صوَّتنا عليه في المعسكر بـ"نعم" جماعية (99.99%) كالعادة.

كان هذا قبيل إنهاء دورتنا وفَرْزِنا. لأنه، حينذاك، بدأ يزداد تواتُر أخبار وشائعات مفادها أنه ستأتي لجنة من الأشغال العسكرية لتنتقي عددًا من المهندسين للعمل لديها. ويسارع كلٌّ منَّا ليلاحق واسطته كي يُفرَز إلى "المكان الأفضل" لقضاء الخدمة.

وكان أن هربنا في تلك الليلة من المعسكر، أيضًا عبر "اللواء شريط": ستة مهندسين – أنا وجورج من بينهم – متوجِّهين إلى دمشق، كلٌّ ليؤمِّن واسطة تيسِّر له الفرز إلى ذلك المكان "الأمثل". وكانت واسطتي هي اللواء زهير غزال (صديق والدي وشريكه في إحدى شلل لعب البريدج)، الذي أمَّن بالفعل فرزي إلى "الأشغال العسكرية" في دمشق، التي كان من مسؤوليها صديقه اللواء ساطع برمدا (والإثنان، كما ألاحظ، كانا من أولاد العائلات السورية العريقة).

لذا فإننا، حين أُبلِغنا بفرزنا، لم يكن أحدنا متفاجئًا في الحقيقة؛ لا بل إن أغلبنا كان يعلم مكان فَرْزِه مسبقًا بحكم "الواسطة" – ماعدا طبعًا بعض "المساكين" الذين ليست عندهم إمكانية تجاوُز سواهم، والذين كان نصيبهم الفرز إلى المكان "الأسوأ"! وأتفكر (مع بعض الاحتقار لنفسي آنذاك) فيما قاله جورج أورويل ذات يوم: "كلُّ الناس متساوون، لكن بعضهم متساوٍ أكثر من غيره."[2]

انتهت دورتنا في أواسط أيلول، وانتقلت بعدها إلى "الأشغال العسكرية" في دمشق، مدينتي التي عدت إليها من جديد، ساكنًا، بادئ ذي بدء، مع زوجتي، في غرفة في المنزل العائلي – زوجتي التي كانت بدأت تداوم في معهدها الذي كانت تتقاضى منه راتبًا يعادل الـ100 ل س شهريًّا؛ ما جعل مجمل دخلها ودخلي، على أساس راتب العسكرية حينئذٍ، 350 ل س – وكان هذا غير كافٍ على الإطلاق؛ ما يعني أن أول ما كان يجب عليَّ تأمينه آنذاك عملٌ أؤمِّن من خلاله دخلاً إضافيًّا يسمح لي باستئجار منزل خاص بنا.

وقد فُرِزْتُ حينئذٍ إلى ورشة تقع خلف "الأشغال العسكرية"، حيث كانت مقررةً إشادةُ بناء إداري ضخم لإحدى إدارات الجيش، يتألف من قبو وخمسة طوابق. وكان قد فُرِزَ إلى نفس المكان، قبلي بأيام، المهندس مسعف س. الذي كان (عسكريًّا، وكذلك هندسيًّا) متقدِّمي بسنة. إذن، كما بدا واضحًا لنظري، كان عملي في العسكرية عمل هندسي سهل وفي صلب اختصاصي؛ مما كان يدعني حرًّا بعد الظهر – الأمر الذي يعني، على أرض الواقع، إمكانية إيجاد عمل إضافي آخر.

وهذا العمل الآخر، سرعان ما وجدته من خلال مكتب رفيقنا أبو راشد (المهندس مراد القوتلي، رحمه الله). كان مع شريكه في المكتب آنذاك، المهندس بسام مراد، الذي كلَّفني، بادئ ذي بدء، أن أحسب وأرسم له المخططات الإنشائية لمبنى تجاري وسط دمشق. ثم عملت مع رفيقنا الطيب مروان قولي، الذي كان ترك الطبقة وانتقل إلى دمشق، وباشر بتعهد بعض المشاريع؛ عمل كان يؤمِّن لي بعض الدخل الإضافي (ما بين الـ500 إلى الـ1000 ل س أخرى)، مما صار يتيح لي استئجار منزل خاص بي وبزوجتي و"التبحتر" بعض الشيء.

وأتذكر أنه حينئذٍ، قبل المباشرة بالبناء، زار ورشتَنا – مما يدلِّل على أهمية ذلك البناء – كلٌّ من اللواء مصطفى طلاس، رئيس الأركان ووزير الدفاع، واللواء عوَّاد باغ من قيادة الجيش، وناقشانا في إمكانية أن يُعهَد بالمشروع إلى المتعهد الأرمني يعقوبيان، لأن هذا أسرع وأفضل، أو أن ننفِّذه بأنفسنا. وكان رأي اللواء باغ أنه من الأفضل أن يُعهَد بالمشروع إلى يعقوبيان. ولكن حين سألنا وزير الدفاع آنذاك عن رأينا – المتعلق بمدة إنجاز المشروع، إن نفَّذناه نحن أو نفَّذه يعقوبيان – أتذكر كم كان طريفًا وجريئًا جوابُ زميلي مسعف الذي سأل وزير الدفاع:

-       أتريد جوابًا نابعًا من كوننا عسكرًا، سيدي، أم جوابًا نابعًا من قناعتنا كمهندسين؟

-       لا، حدِّثني عن قناعتك كمهندس، كان جواب وزير الدفاع.

-       كمهندس، سيدي، أقول إن في وسعنا، إن نفَّذنا المشروع بأنفسنا، أن ننجزه خلال ما يقارب السنة.

-       وإذا نفَّذه يعقوبيان؟

-       كمهندس، أجيبك، سيدي، أنه يحتاج إلى نفس المدة!

فضحك وزير الدفاع، وقال لنا: "هيئوا لي، إذن – وبسرعة – حساب كلفة، وقدِّموه لقيادتكم، لأنه على ضوئه سنقرِّر فيما إذا كنتم أنتم أم يعقوبيان مَن سينفِّذ المشروع.

وكان هذا ما حصل، أنْ كُلِّفنا بتنفيذ المشروع بأنفسنا.

يومذاك، استغرق بحثي عن منزل مناسب، "على قدِّ الحال"، حوالى الشهرين – حتى وجدنا مرادنا: منزلاً أجرُه في حدود الـ125 ل س شهريًّا لدى زميلي المهندس مناف رحمون، في بناء كان بناه لنفسه في آخر أوتوستراد المزة، وكنت قمت حينئذٍ بدراسته الإنشائية من خلال مكتب "أبو راشد"؛ وهو منزل أصبح موقعه ممتازًا اليوم لأنه كان يقع في منطقة الفيلات الغربية. أما يومذاك فقد كان موقعه نائيًا، وكان من أواخر أبنية البلد. وقد أمنَّا له أثاثًا متواضعًا جدًّا، فرشًا "من قريبو"، أخذتُ بعضَه من منزل أهلي.

وأتذكر أنه بعد الساعة الحادية عشرة لم يكن هناك نقل عام يوصل إلى تلك المنطقة النائية. لكن، على الرغم من هذا، كان المنزل جميلاً جدًّا ومناسبًا جدًّا لنا – كان أول منزل لنا!

 

       خاصة لأنه كان قريبًا من معهدي الذي كان يقع في أواسط الأوتوستراد، وقريبًا من مكان عملك في العسكرية، الذي كان يقع في أوائله. وأيضًا...

في تلك الفترة تعرفتُ إلى صديقتكِ الحميمة مارغو ق.، زميلتكِ الحمصية في الدراسة، التي سرعان ما جاءت لتشاركنا السكن.

***

 

ب

عاصم وفايز أو...

المهندسون الشباب و... حرب تشرين

 

طائر الليل:

Puis le temps a tourné sur ses talons de rage

Elsa valse et valsera…

~ Louis Aragon

"ويدور بنا الزمن على كعبيه المسعورين

وإلزا ترقص الفالس وسترقص..."

لويس أراغون، إلزا ترقص الفالس

 

وأضحك بيني وبين نفسي حين أعاود استذكار تلك الأيام.

وأفكر، أول ما أفكر، في نشاطي الحزبي. لأنه صحيح أن العمل الحزبي كان محظورًا داخل الجيش (وفق "ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية" الموقَّع بين حزبنا وحزب البعث)، لكن سرعان ما وجدتُني أعاود من جديد نشاطي هذا كعضو في فرعية الحزب للمهندسين في دمشق – أولئك الذين كان بعض مَن كنت مسؤولاً عنه عسكريًّا مثلي.

ونشاطنا في تلك الأيام كان يتركز، في معظمه، بشكل مباشر، على العمل التكتلي (المحظور حزبيًّا، من حيث المبدأ) الذي كنت أقوم به، بالتعاون مع أبو راشد، وبالتنسيق مع مَن يمثلنا في القيادة، لصالح ذلك الاتجاه الذي افترضناه "الاتجاه الأممي والأكثر مبدئية"، الذي كان على رأسه رفيقانا "الكبيران" خالد ويوسف – نشاط كان من أهمِّ نتائجه حينئذٍ، حين وَقَعَ الانشقاقُ الذي شطر الحزب إلى نصفين، أن كنَّا شبه مسيطرين على فرعية المهندسين، التي كانت قيادتها فعليًّا هي أنا وأبو راشد.

وأتذكر أن الانشقاق (الذي كان حينئذٍ أمرًا واقعًا) قد كُرِّس رسميًّا إثر "بيان الثالث من نيسان 1972" الذي أصدره رفاقُ القيادة من جماعتنا، الذين كانوا يمثلون حينئذٍ ما ينوف على نصف اللجنة المركزية (نصف ناقص واحد، على ما أذكر) ونصف المكتب السياسي – وكانوا، كالطرف الآخر، يدَّعون تمثيل أغلبية "قواعد" الحزب!

في ذلك اليوم، كان شعورنا أننا حققنا انتصارًا كبيرًا في معركة مصيرية. لكن ما من أحد منَّا كان يعي آنذاك عمق وأبعاد هذه الأزمة، التي لم تكن قطعًا أزمة خالد بكداش ولا حزبه الشيوعي المتهدِّل فحسب، إنما كانت، في الواقع، أزمة حركة وأزمة فكر بالكامل – فكر أُدرِك اليوم أنه اختُزِلَ إلى حدٍّ أصبح معه مجرد "شعارات" سخيفة، في الوقت الذي، انطلاقًا من جدليَّته، كان بإمكانه (ربما) أن يكون فكرًا علميًّا فعلاً، كما كان يُفترَض.

 

-       كان في وسعنا حينئذٍ، ربما، أن نتوصل مع خالد بكداش إلى تسوية، لو لم يتدخل الرفاق السوفييت الذين شجعوا على الانشقاق، ودفعوا الحزب باتجاهه. [هذا ما أسرَّ به بحزن ذات يوم رياض الترك، الذي التقيت به بعد بثلاثين عامًا على تلك الأحداث، إثر خروجه من السجن في منزل أحد الرفاق القدامى.]

 

أصبح الانشقاق في الحزب واقعًا إذن؛ وعلى أساسه، شارك حزبُنا، ضمن "قائمة الجبهة الوطنية التقدمية"، في أولى تلك الانتخابات الصورية لمجلس الشعب في عهد الرئيس حافظ الأسد – تلك الانتخابات المضمونة النتائج، التي أضحت من بعدُ تقليدًا؛ تلك التي "رشَّح" نفسه فيها عن دمشق الرفيقُ خالد بكداش الذي حضرتُ حينئذٍ مهرجانه الانتخابي في النادي العائلي في القصاع، حيث ألقى كلمة أثارت حماسةَ الرفاق، لكنها كانت، من منظوري، أقل مستوى مما توقعت. كذلك، من شرفة منزل صديقي الحبيب توفيق البطل، الواقع في ساحة جورج خوري في القصاع، حضرت المهرجان الانتخابي للطرف الآخر، حيث ألقى كلٌّ من دانيال نعمة ورياض الترك كلمات تميَّزتْ حينئذٍ بطابعها القومي المؤيِّد بشدة للعمل الفدائي.

كان الانشقاق قد وقع، إذن، في ذلك الحزب الذي كان يفاخر، حتى الساعة، بأنه لم يعرف الانشقاق بفضل "القيادة الحكيمة" لزعيمه الأوحد منذ 1936، الرفيق خالد بكداش. وقد استطعنا آنذاك، كما سبق وأسلفت، أن نستميل إلى جانبنا أغلبية المهندسين الشيوعيين؛ كما فعل أيضًا رفاقُنا في الجامعة، الذين نجحوا – مثلنا – في استمالة أغلبية منظمة جامعة دمشق لصالح الاتجاه نفسه. ولكن، لم يكن هذا فقط مجمل نشاطي السياسي...

حيث، كالعادة، كنت أتابع أخبار ما يحدث في المنطقة وفي العالم، كتلك العملية "الحمقاء" التي قامت بها، إبان ألعاب ميونيخ الأولمبية في أيلول 1972، منظمة أطلقتْ على نفسها اسم "أيلول الأسود"، فاختطفت رياضيين إسرائيليين، وأدَّت إلى مقتل ما يقارب الـ13 رياضيًّا – عملية إجرامية لم يستنكرها أحدٌ منَّا يومئذٍ، وأساءت كثيرًا إلينا وإلى قضيتنا.

كما كنت أعمل، من خلال نقابة المهندسين، على تهيئة الانتخابات النقابية القادمة – في تلك النقابة التي كان يسيطر عليها سيطرة كاملة في دمشق، منذ أواخر أيام الوحدة، مهندس شامي في منتهى الذكاء العملي، ألا وهو صديق والدي، المهندس هشام الساطي، الذي كان يمثل في نظرنا حينئذٍ ذلك "اليمين العفن" الذي تجب علينا إزاحتُه لصالح يسار، اكتشفنا لاحقًا، بعد فوات الأوان، أنه لم يكن أقل منه "عفونة"! وأتذكر أنه...

أيامئذٍ، كان قد تشكَّل، بقيادة مهندس فلسطيني شاب كان يؤدي، مثلي، خدمة العلم، تجمُّع أُسْمِيَ بـ"المهندسين الشباب". وكان هذا المهندس، الذي تعرفت إليه في مكتب أبو راشد، هو عاصم خليفة، صديقي الحميم إلى اليوم. فبدأت أحضر اجتماعات هذه المجموعة التي بدأت تتسع. وعن طريق عاصم أتذكر أني تعرفت حينئذٍ أيضًا إلى صديقي الآخر، المهندس الموهوب من وزارة المواصلات، فايز فوق العادة...

تجمُّع كان بدأ يصبح مركز استقطاب لجميع معارضي هشام الساطي وتكتُّله اليميني: لأن هشام كان يجمع من حوله، من منطلق مصلحي بحت، معظم المكاتب الهندسية ومعظم مهندسي القطاع الخاص وبعض كبار الموظفين (وكان يؤيِّده أيضًا الأخوان المسلمون). أما تكتُّلنا، بقيادة عاصم، فقد بدأ يستقطب، بشكل أساسي، مهندسي الدولة والقطاع العام.

وتشكلتْ قيادةُ عمليات للـ"مهندسين الشباب"، كانت تضم حينئذٍ عاصم (يساري مستقل)، وفايز (أيضًا يساري مستقل)، وأنا (شيوعي من جناح خالد بكداش)، وهشام المرادي (ناصري الميول)، وسعد الله جبري (بعثي، مهندس معماري وعسكري متطوع من "الأشغال العسكرية")، والمقدم محمود الكردي (بعثي، مهندس مدني وضابط أمن أيضًا في "الأشغال العسكرية")، والدكتور أحمد عمر يوسف (بعثي)، ومهندس فلسطيني من بيت عطا الله (منظمة التحرير الفلسطينية – فتح)، ورحمه الله، صديقنا الحبيب محمود يونس من وزارة الإسكان (بعثي).

وكان أول ما فعلناه أن وضعنا برنامجًا يحدِّد توجهات مجموعتنا (وقد صاغه عاصم)، وبدأنا العمل على أساسه، بعد أن اتفقنا على أن نخوض المعركة الانتخابية تحت لواء المهندس سميح فاخوري ("التقدمي" الميول)، الذي اخترنا ترشيحه ليترأس قائمتنا كنقيب للمهندسين.

وبدأنا العمل على هذا الأساس، من خلال الاتصال بكلِّ مَن نعرف أو نتمكن من الوصول إليه من المهندسين، في مختلف أماكن عملهم. وقد استفدنا حينئذٍ، خاصة، من "الجمعية التعاونية لسكن المهندسين"، التي تمكنَّا من السيطرة عليها، والتي تشكَّلتْ لجنةٌ لقيادتها، كانت تضم كلاً من سعد الله جبري، رئيسًا، عاصم، نائبًا للرئيس، أنا وفايز وهشام المرادي، أعضاء. وهنا، تحديدًا، بدأتْ تبرز الشخصية الطموحة جدًّا لسعد الله، الذي بدأ يسعى، من خلال الجمعية، إلى بناء مواقع خاصة به، تحقِّق له طموحاته المادية والسلطوية.

وأتذكر أننا كنَّا نجتمع مساءً بشكل دوري، تقريبًا مرتين في الأسبوع، لنقوِّم نتائج عملنا ونقرِّر ما نقرِّره من "صميدعيات" تساعدنا على كسب هذه "المعركة المصيرية"! وأتذكر أننا غالبًا ما كنَّا ننهي السهرة حول مائدة عشاء عند مطعم "بريمو" (الشعبي) وسط دمشق، حيث نتناول العشاء ونشرب البيرة ونتناقش في السياسة.

وأجدني، وقد تجاوزتْ الساعة منتصف الليل، أنظر إلى ساعتي بقلق، مفكرًا بزوجتي المسكينة التي تركتُها وحيدة في منزلنا في المزة، وبأنه بات عليَّ استئجار تكسي للعودة إلى هناك. وأتذكر كيف كان عاصم يربت على كتفي ضاحكًا وهو يقول:

-       ولا يهمك يا أكرم! لقد نامتا [يقصد زوجتي وزوجته]، وهما الآن تحلمان بنا!

وأتذكر، أيضًا وخاصةً، صراعاتنا في الحزب إبان تلك الانتخابات، حيث كان أفضل "وجه" في وسعنا ترشيحه لمجلس النقابة عن الشيوعيين يومذاك (من جماعة رياض) هو رفيقنا السابق بسام ع. الذي يمكن أن ينجح، بينما كان مَن في وسعنا ترشيحه من طرفنا – رفيقنا مروان قولي – غير مقبول ولا محبوبًا في صفوف المهندسين؛ أي أن خسارته كانت مضمونة! وأتذكر أن رأيي كان، لهذا السبب، ألا نرشح أحدًا، فنكتفي بدعم عاصم الذي يمكن اعتباره صديقًا لنا.

وكالمنام المزعج لتقرير مَن نرشِّح يمر أمامي شريطُ اجتماعنا مع قيادة الحزب آنذاك. فقد حَضَرَ ذلك الاجتماع من القيادة الرفيق يوسف فيصل (أبو خلدون)، الأمين العام المساعد، والرفيق عمر السباعي (أبو محمد)، عضو المكتب السياسي ووزير المواصلات، والرفيق مراد يوسف (أبو سامي)، عضو المكتب السياسي وسكرتير منطقية دمشق، والرفيق عبد الوهاب رشواني (أبو سعيد)، عضو اللجنة المركزية وعضو منطقية دمشق. ومن طرف فرعية المهندسين: مراد قوتلي (أبو راشد)، عضو لجنة المراقبة الحزبية، وأنا، إضافة إلى كلٍّ من الرفاق: مروان قولي، الذي كان البعض يرى ترشيحه، وصديقي (رحمه الله) سمير شاليش، من فرعية الجامعة، الذي كان على وشك أن يتخرج كمهندس. وأتذكر كم كان موقفي في ذلك الاجتماع حرجًا تجاه مروان (الذي كنت أحبه كثيرًا)، حين رفضت ترشيحه، ودافعت أمام قيادة الحزب عن رأيي باستبعاده والاكتفاء بدعم عاصم؛ وقد أيَّدني في هذا أبو راشد؛ بينما كان رأي سمير أن ندعم رفيقنا مروان. وكاد بعض رفاق القيادة أن يدعموا ذلك التوجه، لو لم يحسم الأمر حينئذٍ رفيقُنا يوسف فيصل، فيقترح أن "نعتمد ما يرتئيه رفاقُنا في فرعية المهندسين، لأنه يبدو لي الأصْوَب." وكان هذا ما حصل.

وأتذكر هنا، للمناسبة، نقاشاتي الحادة مع عاصم، الذي كان يرتئي أن ندعم ترشيح بسام ع. من جماعة رياض، لأنه الأفضل، ولأنه ورفاقه يبقون رفاقنا في النهاية. وأتذكر كيف كنت أرفض بحدة ذلك التوجه، لأن هؤلاء – كما هو منطق كلِّ انشقاق عقائدي – كانوا قد أضحوا في نظرنا "أعداء"! وأنا أعتقد اليوم أن عاصم كان على حقٍّ في طرحه.

وتأتي الانتخابات النقابية التي لم تكن نتائجُها بالنسبة لنا نصرًا كاسحًا على هشام الساطي وتوجُّهه. فلئن صحَّ أننا استطعنا إسقاط معظم قائمته، ومرَّرنا سميح فاخوري كنقيب للمهندسين، لكننا لم نستطع إسقاط كلِّ تلك القائمة، ولا إنجاح كلِّ قائمتنا. فقد نجح هشام رغمًا عنَّا، وبقي، رغم أنوفنا، رئيسًا لمؤسَّسة "صندوق تقاعُد المهندسين" (القوية والنافذة)؛ بينما فشل عاصم، الذي حارَبَه اليمين ولم يدعمه كلُّ اليسار، وخاصة العديد من مهندسي البعث الحاكم.

وأتذكر بعدئذٍ كيف تفجَّر خلافُنا مع سعد الله جبري في "الجمعية التعاونية السكنية للمهندسين"، وكيف حاولنا عَزْلَه – وكنَّا الأغلبية في لجنتها القيادية – ففشلنا بسبب تدخلات تجاوزتْنا، ولأن سعد الله كان يتمتَّع بدعم وبتأييد الكثير من أعضاء الجمعية؛ وكيف استقلنا لهذا السبب، أربعة من أصل خمسة، بينما بقي سعد الله الذي حلَّ محلَّنا نحن الأربعة، بكلِّ بساطة، وتابع عمله كما يريد.

صراعات ومعارك وهمية، ربما؛ دون كيشوتية مع طواحين الهواء، ربما أيضًا. لكننا كنَّا نخوضها، على الرغم من هذا، بكلِّ حماس واندفاع، وكأن على نتائجها يتوقف مصير بلادنا وشعبنا! وقد أخطأنا كثيرًا حينئذٍ؛ ونحن نتحمل، إلى اليوم، مسؤولية أخطائنا. أخطأنا لغلوِّنا، حين لم ندرك إلا لاحقًا جدًّا أن مَن استبعدناهم لخلاف عقائدي من رفاقنا السابقين في الحزب إنما كانوا الأطيب والأصفى، وأن مَن أنجحناهم على رأس نقابة المهندسين لم يكونوا الأفضل، إنما – لنقلها صراحة – كانوا أسوأ ممَّن سبقهم! لأن الأولين كانوا "شبعوا"، ربما، وامتلأت جيوبُهم، بينما كان على مَن جاء بعدهم أن ينتظر امتلاء جيوبه كي يشبع (إن شبع!). وهذه كانت صورة مصغرة لما جرى – وكان يجري حينئذٍ – في البلاد...

حيث كانت كلُّ الأمور تبدو وكأنها على ما يرام. وكنت غارقًا في عملي الهندسي في العسكرية، ومع مروان وفي مكتب أبي راشد. وفي عملي الحزبي، لم أكن أفكر كثيرًا فيما يجري من حولي في البلاد من تحركات. وأتذكر أنه...

جاءني ذات يوم إلى الورشة ابن عمي رزق الله رشدي، رحمه الله – وكان ما يزال طالبًا في كلِّية الهندسة – ليخبرني بنبأ صاعق: "عليك بالتوجُّه بسرعة إلى منزل أهلك، يا أكرم، لأن عمو جورج أصيب بوعكة. وقد نقلوه إلى المشفى الإيطالي!" فغادرت مباشرة، وتوجهت إلى منزل الأهل، الذي لم أجد فيه إلا شقيقتي ريما التي كانت تبكي، وشقيقي سمير – ريما التي قالت لي إن عمو جورج مات، وإن بابا وماما هما الآن في المشفى الإيطالي، إلى حيث نقلوه فور إصابته بالجلطة. وأسارع كالمجنون إلى هناك وأنا أبكي، مرددًا بيني وبين نفسي: "لماذا، لماذا غادرنا الآن، هذا التعس الذي أحببته، وفدانا بحياته، دون أن يعيش يومًا واحدًا لنفسه!"

وأجدني، وأنا أقتحم غرفة الانتظار الملاصقة لغرفته، أمام أمي وأبي ونساء عمومتي: ماري، زوجة المرحوم رزق الله، وعمي فلاديمير وزوجته ليندا، وأوديت مسابكي وزوجها، الذين لا يفوِّتون على أنفسهم أيًّا من هذه المناسبات "العظيمة"! وكان نقاش تافه يجري بين النسوة حول ما يمكن أن يكون تَرَكَه عمِّي جورج من مال وأين خبَّأه، وهل أمي وأبي يعرفان أو لا يعرفان به! وأُصعَق لقلة إحساس كهذه في طرح موضوع كهذا – وجثة المتوفى لم تبرد بعد! وأكاد أتدخل لأصرخ فيهن في غضب، لو لم يمسكني أبي من يدي ويُخرِجني من الغرفة ويجرني وراءه إلى حديقة المشفى، حيث أجلسني قربه على المقعد، وضمَّني إليه قبل أن يجهش بالبكاء وهو يقول:

-       لقد مات جورج، يا أكرم... لقد مات جورج... لا أحد منهم يعرف ماذا كان جورج بالنسبة لي!

وأضمه إليَّ، ونبكي معًا.

مات عمي جورج، الذي شيَّعناه في اليوم نفسه، ولم يترك وراءه إلا بعض الكتب وحوالى العشرين ألف ليرة، استُعمِلَ معظمُها كنفقات على جنازته ودفنه. مات، ومازلت أذكره – هذا الذي درَّسني ودرَّس إكرام وسمير وريما. مات بين أحضاننا، نحن الذين أحببناه وشاركناه خبزنا. فلترحمه الألوهة وليبقَ ذكرُه مؤبدًا!

في البلاد، كان يبدو جليًّا من تحركات الجيش أننا كنَّا نتهيَّأ لشيء كبير قادم: لمعركة كان يبدو أنها ستكون مصيرية. من ناحيتي، كان هذا واضحًا جدًّا، ولو من خلال ذلك الإلحاح المتصاعد الذي كان يصرُّ على إنهاء المبنى الذي أصبحت مسؤولاً عنه، بعد أن أنهى مسعف، في مطلع العام 1973، خدمته العسكرية، وكذلك موقعه في الخدمة، وخاصة قبل أسبوع من بدء تلك الحرب التي أصبحنا نسمِّيها بـ"حرب تشرين التحريرية".

في 11 أيلول 1973، جرى في التشيلي انقلابٌ عسكري، يقوده قائد الجيش بدعم من الولايات المتحدة، فأطاح بحُكم رئيسها المنتخَب الاشتراكي سلفادور ألندي.

أما في منطقتنا، فكان اندلاع الحرب.

وأتذكر أنه يوم الخميس 4 تشرين الأول، أي قبل يومين من نشوب الحرب، كنت هيأتُ البناء الذي كنت مسؤولاً عنه، وخاصة منه القبو، ليستقبل مَن كان يُفترَض أن يستقبلهم يوم السبت، كما أخبروني.

أما يوم السبت صباحًا – ولم يكن قد حدث شيء بعد – فقد انتقل فعلاً إلى المبنى عددٌ من مكاتب الأركان العامة والأشغال العسكرية. وأتذكر أن دويَّ المدافع وأزيز الطائرات بدأ فعلاً في حدود الواحدة ظهرًا، الموعد الذي بدأنا فيه الهجوم على القوات الإسرائيلية المحتلة لأرضنا منذ "نكسة" حزيران 1967. عدت إلى المنزل يومئذٍ، وأصوات المدافع المسموعة في جميع أنحاء دمشق ترافقني، لأجد زوجتي تنتظرني بقلق، فتسألني:

-       ماذا يا أكرم؟! يبدو أن الحرب قد اندلعت!

-       نعم، يا منى... لكن هل اتصلت بالرفاق لتعرفي ما يجب عليك فعله؟

-       لقد اتصلت بي أم سعيد، وحدَّدتْ لي موعدًا الساعة الخامسة، حيث يبدو أننا سنتطوع للخدمة في أحد المشافي.

-       أما أنا، وعلى الرغم من أنهم لم يطلبوا مني شيئًا، فسأعود لأنام في موقع العمل. لأنه من غير اللائق أن أنام في المنزل، بينما أنت متطوِّعة وتنامين في المشفى.

وكان هذا ما حصل: قضيت تلك الليلة الأولى من الحرب ألعب الورق مع جورج وزملاء آخرين، كان موقع عملهم في متاع "مؤسَّسة تنفيذ الإنشاءات العسكرية"، قريبًا من ورشتي، ونستمع معًا إلى أخبار الحرب من المذياع – هذه الحرب التي يبدو أن حقَّقنا في بدايتها بعض النجاح: تمكَّنتْ القوات المصرية، على ما يبدو، من عبور القنال واختراق خط بارليف؛ كما تمكَّنت قواتنا من اكتساح القوات الإسرائيلية المتموقعة على هضبة الجولان والتقدُّم إلى الأمام باتجاه طبريا.

بعض الملاحظات والانطباعات من اليومين الثاني والثالث من الحرب:

اليوم الثاني صباحًا: يقترب مني عسكري، كنت سابقًا قد عرَّفت به على أنه مرافق اللواء ساطع برمدا، ويقول لي: "ملازم أكرم، اللواء ساطع يطلبك." أسارع إلى اللحاق به، لأجد في إحدى غرف قبو البناء اللواء ساطع، وهو جالس القرفصاء أمام المدفأة. أحييه، فيرد التحية، ويسألني بكلِّ جدية:

-       أكرم، يا بني، هل يمكن لك أن تؤمِّن لي فنجان قهوة يُشرَب؟

فأجيبه، وقد لحظته تعبًا ومتوعكًا بعض الشيء:

-       طبعًا، سيدي. وهل تحتاج إلى أيِّ شيء آخر؟

-       لا، يا بني... فقط ربما كتاب للقراءة، إن كان تحت يدك واحد.

-       أمرك، سيدي... لكن الكتاب الذي معي بالفرنسية.

-       هذا أفضل. شكرًا، يا أكرم، وانتبه لنفسك.

وأغادره لأؤمِّن له ما طلب، وأنا أفكر أنه إنسان مثلنا – ذلك المهندس من حارم وابن إحدى أعرق عائلاتها، الذي امتهن العسكرية، وهو الآن يشارف على نهاية خدمته – إنسان لا تشعر، حين تحتك به، إلا بكلِّ اللطف والمحبة، كما يُفترَض أن يكون البشر!

اليوم الثاني مساءً: عدت إلى المنزل لبعض الوقت لجلب بعض الحوائج وللالتقاء بزوجتي التي سألتها:

-       كيف الأحوال عندك؟ فتجيبني...

-       جيدة... لكن ما يخيفني، يا أكرم، أن عدد جرحانا كبير. ثم... هل تعرف أن إكرام وصلت من فرنسا، عن طريق بيروت، لتشارك في هذه الحرب!

إكرام التي ذهبتُ للقائها على الفور في بيت الأهل. أقضي معها حوالى الساعة، قبل أن أودِّعها عائدًا إلى ورشتي.

اليوم الثالث صباحًا: كنَّا جالسين في مكتبي، أنا وجورج وأنس زركلي وزميل لنا آخر لم أعد أذكر اسمه، نلعب الورق، ونحن نستمع إلى الأخبار في المذياع، وإلى دويِّ المدافع وهتاف الجنود في الخارج، وهم يتابعون – كالأطفال – معارك طيران كانت تدور، على ما يبدو، فوق دمشق، فوق رؤوسهم. وفجأة، دوَّتْ أصوات أربعة أو خمسة انفجارات هائلة، خلعتْ باب مكتبي وحطَّمتْ زجاج نافذة المكتب الذي تناثر من حولنا، ولكن من دون أن يُصاب أحدٌ منا بأذى. ويصرخ أنس: "القضية جد هذه المرة يا شباب!" ونخرج جميعًا من المكتب، لنتابع عن كثب ماذا يحدث. يومئذٍ، كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف مواقع في قلب دمشق، فتصيب مبنى الأركان العامة وآمرية الطيران وبعض الأبنية المجاورة، التي دُمِّرتْ بالكامل، في أحياء أبو رمانة والمالكي، وكذلك المبنى الذي كان يومئذٍ "المركز الثقافي السوفييتي"، الذي دُمِّرَ (وقد قُتِلَ نتيجة قصفه يومئذٍ رفيقُنا ومديره محمد أمين).

اليوم الثالث بعد الظهر: لم يبقَ أحدٌ في الورشة (والمبنى) إلا أنا وحارسان ومساعد من "الأشغال العسكرية". أما كل مَن كان من مختلف الإدارات، فقد نُقِلوا من هذا المكان المهدَّد بالقصف إلى أماكن انتشار أخرى.

أغادر الورشة قليلاً، لأجتمع بزوجتي وبشقيقتي إكرام اللتين كانتا في حال إحباط شديد: زوجتي لما كانت تراه في موقعها من مشاهد الجرحى والقتلى، وإكرام لأنه لم يأبه لها أحد، فيحاول مجرد الاستفادة من خدماتها.

اليوم الرابع قبيل الظهر: يأتيني مساعد من الأشغال العسكرية، ومعه شيء يريد تسليمي إياه: كمامة واقية من الغازات، في حال أن حصل وألقى العدو علينا قنابل غازية. فأسأله:

-       لِمَ هذا؟ فيجيبني:

-       هذه كمامة للوقاية من الغاز، يا سيدي. فهل تستلمونها منِّي؟ لست أدري ما خطر لي آنذاك، فأجبته:

-       لكن هناك أمي وأبي وأختي وأختي وأخي وزوجتي! ألا توجد أيضًا كمامات لهم؟ فيجيبني المساعد مستغربًا:

-       لا، يا سيدي... نحن نوزِّع فقط على العسكر الذين نحن مسؤولون عنهم. وأجيبه:

-       هل يُعقَل، إذن، إن شُنَّتْ حربٌ بالغازات، أن تموت عائلتي وأنجو أنا؟! فيقول لي، وقد ارتبك بالفعل:

-       لكن، سيدي، أنا آسف... هذا ما أعطوني إياه.

-       إذن... ما لم يكن استلامُ هذه الكمامة إجباريًّا، فلن أستلمها!

وكان هذا ما حصل.

اليوم الرابع بعد الظهر: أقابل منى في المنزل، فتطمئنني بأنها جيدة، لكنها تخبرني أن خسائرنا كبيرة، وأن شعورها، نتيجة ما تراه من ارتفاع عدد القتلى والجرحى، هو أننا بدأنا نخسر الحرب. فأطمئنها أنْ لا، لأنه ليس هذا ما تقوله إذاعاتنا التي تعمَّدتْ الصدق هذه المرة! ولكن، في قلبي كان ينتابني شعور أنها، ربما، كانت على حق.

اليوم الرابع مساءً: كنت مستلقيًا على ظهري وحيدًا، أستمع إلى خطاب الرئيس الأسد يتحدث عن الحرب ونتائجها الآنية المباشرة، عندما بدأ إطلاقٌ جنوني لنيران مختلف أنواع السلاح الخفيف، غطَّى حينئذٍ سماء دمشق، وبثَّ الرعب في قلوب سكانها، غير المعتادين على حال كهذه، الذين اعتقد الكثيرون منهم أن إنزالاً إسرائيليًّا قد حصل! – قبل أن يعلموا – ونعلم معهم – أن هذا كان مجرد إطلاق نار من جنودنا وقطعاتنا في داخل دمشق وحولها، حين سمعوا الرئيس يؤكد أن قواتنا وصلت في اليومين الأول والثاني من الحرب إلى مشارف طبريا.

وأسير في الورشة متفقدًا ما جرى، لأجد أحد حراسنا المساكين في موقعه، وقد أغمي عليه من فرط الخوف! – فأواسيه وأطمئنه. وفجأة، أرى جورج، الذي كان موقع عمله قرب ورشتي، يتجه إليَّ آتيًا من هناك، وهو يضحك.

-       اسمع ما حدث معي، يا أكرم... كنت غارقًا في نوم عميق، عندما استيقظت مذعورًا على صوت إطلاق نار كثيف، فأمسكت بلا وعي بالهاتف الذي إلى جانبي، واتصلت بمركز قيادة متاع الضابط المناوب، وسألته: "هل هناك إنزال؟" فأجابني: كول خـ... وْلَكْ، هذا مجرد احتفال!"

وشعرت برغبة في البكاء...

كما شعرت في رغبة في البكاء أيضًا حين جاءني المساعد الذي معي في الورشة، ليخبرني مذعورًا أن الإسرائيليين، الذين كانوا قد ردُّوا، على ما يبدو، قواتنا المتقدمة على أعقابها وحققوا خرقًا في صفوفنا، وصلوا إلى سَعْسَعْ التي تقع على بعد 20 كم من دمشق! فصرخت به أن "كفى... كفى... ليصلوا إلى حيث يصلون... لكني سأبقى هنا!" لأنني اكتشفت، فجأة، أن هذا هو الأساس: أن نبقى! نعم، أن نبقى حيث نحن، على هذه الأرض التي نحن أبناؤها، وألا نتركها، مهما حصل... أن لا نفعل كما سبق وفعلنا عام 1948... ولا عام 1967... أن نبقى، أن نبقى – وبعده تخلق الآلهة ما لا نعلم!

انتهت الحرب بوقف لإطلاق النار على الجبهتين: على الجبهة المصرية، حيث يبدو أن الإسرائيليين حققوا خَرْقًا في الصفوف المصرية، وحاصروا قسمًا من قواتها في الإسماعيلية والديفرسوار، جنوب قنال السويس؛ وعلى جبهتنا، حيث تمَّ سد الثغرة واحتواؤهم، بانتظار هجوم مضاد لم يُتَحْ لنا القيامُ به.

وغادرتْ إكرام البلد خائبة عائدة إلى فرنسا – وكنت ألتقي بها كلَّ يوم قبل أن تذهب، فنتحدث ونتحدث، عن كلِّ شيء وعن لاشيء. فأخبرتني حينئذٍ أنها كانت عاشقة، وتعيش علاقة حبٍّ مع كاتب وشاعر سوري تعرَّفتْ إليه منذ فترة. لم أعلِّق على الموضوع يومذاك، وتمنيتُ لها التوفيق. لكنني لست أخفي أنني شعرت، حين أخبرتْني بهذا، بغُصَّة، لأن شعوري كان بأن هذه العلاقة ستنتهي إلى فشل، بسبب ما بين الاثنين من تفاوُت حضاري.

انتهت الحرب في الخامس والعشرين من تشرين الأول، إذن. ولست أدري، إلى الآن، هل كانت نتيجتُها، بالنسبة لنا كعرب، خسارة جديدة أم انتصارًا! انتهت، وفي حلق كلٍّ منا شعورٌ بالمرارة يذكِّرني، حين أتفكَّر فيه، بما قاله ذات يوم أنطوان دُهْ سانت إكزوبيري في كتابه الرائع طيران الليل:

عضلية الحرب لا تُرى. لأن الضربة التي تسدِّدها، هو الطفل الذي يتلقَّاها أولاً. لأنك، عند موعدها، سرعان ما تتعثر في طريقك بنساء يلدن. حيث لا جدوى من ادِّعاء تبادل معلومة، أو من تلقِّي أمر، كمباشرة مناقشة مع الشِّعرى اليمانية. لأنه ليس هناك جيش في النهاية، إنما، مجرد بشر...

لأن هذا كان ما فكرت فيه، وأنا أرى صور الجرحى والقتلى والأسرى على شاشة التلفزيون، أو كما حدَّثتني عنهم زوجتي وأصدقائي. لأنه، مهما قيل أو يقال، لا يوجد منتصر في أية حرب! لكن هذا كلَّه لم أكتشفه إلا لاحقًا جدًّا.

سُرِّحْتُ من الجيش في أواخر كانون الأول 1973. ووجدتُني بعدئذٍ مباشرة بين اختيارين، لم أتردد كثيرًا في اختيار ثانيهما؛ وهذان الخياران كانا: إما عودتي إلى أمانة العاصمة، كما طلب مني أبو سعيد (الرفيق عبد الوهاب رشواني)، حين قال لي، بكلِّ جدية: "يجب أن تعود إلى هناك، يا أكرم، لأن الحزب يحتاج هناك إلى رفيق يحتل موقعًا مسؤولاً." وإما ذلك الخيار الآخر، الذي وضعه أمامي فجأة ذات يوم، في أوائل العام، بعيد رأس السنة الجديدة 1974، رفيقُنا أبو محمد (عمر السباعي، وزير المواصلات)، الذي التقيت به مصادفة في مكتب أبو راشد، حين قال:

-       هل تعلم، يا أكرم، أن هاشم قد ربح مناقصة لدراسة وتنفيذ جسرين على نهر الفرات في الميادين وقره قوزاك، وأنه في حاجة إلى مهندسَيْن "جدعين"، ليعهد إليهما بتنفيذ الجسرين وإرسالهما إلى موسكو في مهمة تدريبية؟ فما رأيك؟

وأجدني في اليوم التالي مباشرة – ولم أستشر في هذا ولا حتى زوجتي – قارعًا باب مكتب أبو الخير (المهندس هاشم العبيسي)، لأسأله عما أخبرني به أبو محمد. فيجيبني:

-       نعم، هذا صحيح. لكن أمر المباشرة بهذا المشروع، والاتفاق مع الروس حوله، قد يستغرق حوالى شهرين أو ثلاثة. في أثناء ذلك، عليك أن تعمل في مشروع سكة حديد دير الزور – الحسكة – القامشلي الذي ننفِّذه الآن. فما رأيك؟

فأستفسره عن الراتب (الذي كان في حدود الـ1200 ل س، أي ضعفي ما يتقاضاه المهندس الموظف في دمشق)، وعن ظروف المعيشة، التي كانت في كامب في برَّاكات متنقِّلة. ومن دون الإمعان في التفكير، أخبره بأني موافق، ثم أعود إلى المنزل لأخبر منى بالأمر – منى التي وافقتْني مباشرة على قراري، وإن لاحظتُ أن عينيها دمعتا لأن هذا سيعني هَدْمَ ما بنيناه في دمشق خلال هاتين السنتين، والعودة من جديد إلى حياة المغامرة!

 

***


[1] في الحقيقة جورج من معارفي القديمين. كان يسكن مواجه المشفى الإيطالي، أي قرب منزلنا. ووالدته كانت صديقة والدتي وشريكتها في لعب الورق. وهو قد دَرَسَ هندسة العمارة في نفس تلك الفترة التي كنت أدرس فيها الهندسة المدنية. لكن صداقتنا الحميمة لم تترسَّخ حتى "العسكرية".

[2] جورج أورويل، مزرعة الحيوان.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود