هل الصحوة الإسلامية صحوة؟

 

خالص جلبي

 

يكثر الحديث اليوم عن ظاهرة "الصحوة الإسلامية". فهل هي فعلاً ولادة جديدة للعقل المسلم، أم أنها "سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء"، على حدِّ التعبير القرآني؟

فأما نموذج أحمد ديدات، فهو تحريض لنزاعات قديمة بكلمات جديدة، لا تزيد إيمان المسلمين وتثير ردود فعل الآخرين. وأما نماذج حركات "الإسلام السياسي"، فقد وضعت العربة أمام الحصان حين اختطَّت لنفسها هدفًا استراتيجيًّا هو الإطاحة بأنظمة الحكم، فبدأت بتغيير السلطة قبل "تغيير ما بالنفوس" في خطأ قاتل. وأما "الفكر التقليدي"، فمازال متمددًا في استراحة فقهاء العصر العباسي، يردِّد أدعية كافور الإخشيدي. وأما المتصوفة، فمازالوا ينتحرون بالمسبحة على ضربات الدفوف وعبق البخور. ويشذ عن هذا التيار المهيمن ثلةٌ من المثقفين وقليلٌ من الانتحاريين، لا يشكِّلون وزنًا يُعتد به، يتحدثون في دوائرهم الضيقة، في خجل وهمس، بأفكار "خطيرة" عن "العلوم الحديثة"، من كوسمولوجيا وأنثروبولوجيا وألسنيات وفكِّ استعصاء "نقل السلطة السِّلمي"، و"الاعتراف بالآخر"، و"الردَّة"، و"المرأة"، و"الموسيقى"، و"التربية الجنسية"!

أليس من العجيب أنه لا يوجد نص واحد في القرآن الكريم يحرِّم الموسيقى؟ يُستقبَل الرسول (ص) بفرقة موسيقية عند دخول المدينة. ويجزم ابن حزم – الفقيه العملاق – بعدم وجود حديث واحد صحيح في التحريم، في الوقت الذي يسيطر فيه على الساحة أن عين التقوى أن يسدَّ المرء أذنيه عن كلِّ غناء وموسيقى. يُقتَل الفن بضربة واحدة بما هو ضد طبيعة الإنسان، إلى درجة أن المغنِّي البريطاني كات ستيفنس الذي اعتنق الإسلام تَراجَع في أدائه الفنِّي بعد أن وقع في شبكة المتشددين، بدلاً من أن يُتحِفنا بمقطوعات موسيقية إسلامية! وبدلاً من أن ننمِّي في أولادنا هذه الموهبة قتلنا عندهم مَلَكة الإبداع بدعوى التقوى. إن الموسيقى، كما قال مالك بن نبي، تعبير عن مستوى الحضارة واتجاهها وروحها: فقد تنتج أغاني ماجنة هابطة، وقد تولد موسيقى تحيي الروح، وكأنها نشيد من الملأ العلوي، بحسب المرحلة التي تعيشها الحضارة.

وبدل الانشغال بتثقيف المرأة، كي يكون لها حضورٌ اجتماعي واعٍ تؤدي من خلاله الشهادة، بما فيه النضال السياسي، عمدنا إلى ممارسة "وأد" جديد، واختُزِلَت المرأة إلى أداة جنسية. أما الآثار فأضحت أصنامًا يجب تحطيمها، ولو أدت إلى تهييج العالم علينا. وتحوَّل الدينُ من القضايا الاجتماعية الخالدة، في الدفاع عن الفقير والمسكين والمحروم، إلى معارك وهمية حول جسد المرأة. إنها كارثة حضارية بكلِّ المقاييس!

لقد لمس الغزالي الجدار الصاعق حينما أشار إلى ظاهرة "بَدْوَنَة الإسلام" مع اشتداد عضلات التطرف. وهذا يعني ضمنًا إمكانية خروج "نُسَخ إسلامية"، وليس نسخة واحدة. وهذا يخضع لقانون "الامتصاص والتمثُّل": فالبدن يأكل نفس الطعام، ويتحول في الدماغ إلى طاقة كهربائية، وفي العضلات إلى حركة ميكانيكية، وتتحجر العظام في قساوة الحجر؛ كما أن الأشجار تأخذ نفس الماء والضوء، فتُخرِج ثمرات مختلفة ألوانها، حنظلاً وتينًا. والحديث أشار إلى ذلك: "الناس معادن، فخِيارُهم في الجاهلية خِيارُهم في الإسلام، إذا فقهوا." والأمريكي الذي يعتنق الإسلام، مثل جيفري لانغ، أستاذ الرياضيات الجامعي وصاحب كتاب الصراع من أجل الإيمان، لا يشبه الأفغاني الذي نشأ في ثقافة الصراع القبلي وفحولة الرجل ودونية المرأة. كما أن الألمانية المسلمة لن تكون مثل السيدة الشامية التي كانت تفك الرجال بحرص عن زوجاتهم! من العائلات الألمانية مَن قطع مسافة 500 كلم لحضور مؤتمر إسلامي، ثم دُفِعَتْ النساءُ الألمانيات مع "القاصرين" إلى نهاية قاعة يصم آذانَها صخبُ الأطفال. التفتت الألمانية المسلمة إلى المشرفة النسائية العربية في المؤتمر، فقالت لها: "نحن – بحمد الله – اعتنقنا الإسلام. أما تقاليدكم فاحتفظوا بها لأنفسكم. وأما أنا فسأجلس بجانب زوجي!" وهي نفس الإشكالية في بعض البلدان العربية من مزج "الدين" بـ"التقاليد".

فكرة "النُّسَخ" الإسلامية تفك إشكالية كبيرة في علاقة "العقل" بـ"النص"؛ وهو ما لفت ابن تيمية الأنظار إليه قديمًا، حينما اعتبر إن لكلِّ فرقة "كتابَها" و"سُنَّتها". معاوية قديمًا رفع القرآن على رؤوس الرماح، ولم يكن أنْزَه الطرفين! والخوارج كانوا من أتقى الناس، لكنْ أشدهم ضررًا على المسلمين. و"المؤتمرات" التي عُقِدَتْ في حرب الخليج الأخيرة في مكة وبغداد كانت إسلامية.

وقد يطرح مفكر بعض الأفكار الجديدة لتنشيط الحركة في مفاصل الفكر الإسلامي المتخشبة، فيفاجأ بِمَن يقول له: "إنك تستخدم الآيات، ولكنها ليست على منهاج السلف الصالح." فهنا صار عندنا شيء جديد يتمتع بحصانة أكثر من الكتاب والسنَّة. وهو تحوُّل خطير في الفكر الإسلامي، من فَرْض نموذج واحد للتفكير، وحَشْر الدماغ في زنزانة بحجم الميليمتر! وعلى الرغم من بطش الأنظمة العربية بحركات الإسلام السياسي، فهذه لم تزدد إلا انتشارًا. والبلد الذي يُطحَن يفرُّ عناصرُه إلى أقطار جديدة، حيث ينشرون أفكارهم بحرص أكبر وانتقام مردود من الأفكار المخذولة. وبذلك أدَّتْ الأنظمة "الثورية" خدمة لا تُقدَّر بثمن في نشر اتجاهات التطرف، من حيث أرادت استئصالها. فعلى الإسلاميين أن يشكروا الأنظمة "التقدمية" على هذه الهدية الثمينة!

واليوم، من المحطات الفضائية، يهيمن الفكرُ التقليدي وينتشر بأشد من نار تلتهم غابة جافة في صيف قائظ، تضربها رياح شديدة من خلال ثلاثي مرسل – موصل – مستقبل: حماس أصحابه، وتشجيع دوائر الصراع الفكري، وعمى الجماهير. وبذلك تحولت "أدوات الحداثة"، بكلِّ سخرية، إلى عربات أثرية لنقل الفكر المحنَّط على ثبج البحر الإلكتروني ولنشر كلام "وعَّاظ السلاطين"، على حدِّ تعبير الوردي.

إن أفضل طريقة لنشر فكر ما هو دَفْعُ صاحبه إلى حبل المشنقة، لتأخذ أفكارُه طابع الخلود، ولو كانت جرعة سُمِّية لاغتيال الوعي. الجماهير تعشق البطولة وتحزن للمعذبين وتقدِّس الشهداء. عندما مات تشي غيفارا في غابات بوليفيا صار جثمانُه مصدرًا لبركة الفلاحين. ويوم دخل الشيشكلي، حاكم سوريا في الخمسينات، إلى سجن المزة العسكري، أفرج عن المعتقلين السياسيين، مخاطبًا إياهم: "لن أجعل منكم أبطالاً!" ومازال الشيعة يضربون أنفسهم بالسلاسل كلَّ عام في ذكرى مصرع الحسين. المراقبون يخافون من المتشدِّدين أكثر من السياسيين. واليوم تستطيع أية مقالة أن تتعرَّض لنظام أو تتناول شخصية سياسية؛ ولكن الخطوط الحمر عند الجدار الصاعق للمتشددين، انتصب فوقها علمُ القراصنة، و"كانت حجرًا محجورًا". ومَن يفكر يتحسَّس رقبته قبل أن يسمح لعقله بـ"التفكير في زمن التكفير" (عنوان أحد كتب نصر حامد أبو زيد). ويختلط اليوم التدين بالتشدد، والإيمان بالتعصب، والفكر بالعنف والإرهاب.

التعصب نكبة إنسانية بكلِّ المقاييس. فالتعصب البروتستانتي قضى على تراث رائع: فعندما حُكِمَ على الطبيب سرفيتيوس بالموت حرقًا، بكى وتوسل إلى كالفن أن ينهي حياته بالسيف أو الحبل، فأبى. والتعصب الكاثوليكي كان خلف تدمير حضارة الأزتيك، فلم يبقَ من كتبهم سوى ثلاثة لا يوجد مَن يقرأها. والتعصب المسيحي قضى على التراث الفرعوني، فلم يبقَ مَن ينطق بلسانهم. والتعصب بين المسلمين اليوم يقتل مئات الآلاف في حروب أهلية وشبه أهلية.

الإيمان رائع إذا انبثق من قاعدة عقلانية؛ وهو خطير إذا حُرِمَ من الوعي. والارتفاع يتم بهذا المزيج من العلم والإيمان: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات." وهناك جدلية في العلم: فهو "درجات"، و"فوق كلِّ ذي علم عليم". والعلم قابل للزيادة: "وقُلْ ربِّ زِدْني علما." فهذه أربعة قوانين في العلم والإيمان: إنه يزداد، وإن المخطط البياني لا سقف له عبر درجات، وإن العلم يرفع، وإن الإيمان ينبثق على أفضل وجه بتفعيل العقل مع العلم. ويضاف إليه قانون خامس: إنه "يخلق ما لا تعلمون"، وإنه "يزيد في الخلق ما يشاء"، بمعنى حدوث طفرات في العلم غير متوقَّعة، وأن بناء الكون لم ينته.

والكتب التي خرجت ترصد الساحة من اتجاهات شتى تعطينا نتيجة لا تدعو إلى التفاؤل، مفادها أننا لسنا في حالة "صحوة"، بدءًا من كتاب نقد العقل المسلم لعبد الحليم أبو شقة والحديث بين أهل الفقه والسُّنة للغزالي، مرورًا بكتاب إسلام ضد الإسلام للصادق النيهوم، وانتهاءً بـالصحوة الإسلامية في الميزان لفؤاد زكريا أو نقد الفكر الديني لمحمد أركون أو تكوين وبنية العقل العربي لمحمد عابد الجابري.

هناك مؤشر نميز به "الصحوة" من "الكبوة" وأن الطفل ولد سليمًا غير مبتسَر، من دون تشوهات خلقية. إن مؤشرات الصحة عندي ثلاثة: فكر نقدي صحي، واتصال بالعالم من غير عُقَد للتعلم منه، وإنتاج علمي غزير – ونحن نفتقد الثلاثة! فمازال العقل "النقلي" يحكمنا، واتصالنا بالعالم مشوَّش، ورحمنا المعرفية رحم عجوز عقيم. والرياح المعرفية الموسمية كلُّها هي الآن شمالية غربية.

ولكن لماذا ضمر عقلنا إلى هذا الحد؟ إن العقل ينمو من خلال آلية النقد الذاتي، لأن المراجعة تفرض التصحيح؛ وهذا يعني النمو. وفي جوِّ الممارسة والتصحيح يزداد التراكم المعرفي – وهذا لا نهاية له. لذا كان شرطًا أساسيًّا التحررُ من العقل النقلي، والانتقال لبناء العقل النقدي. والفرق هائل بين الاثنين، يقترب من الفرق بين الموت والحياة، مادام الأول يرتبط بالجمود والثاني بالحركة: "وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات." يمتاز العقل "النقلي" بثلاثة أمور: تمرير الأفكار دون تصفية، ونشر الأفكار بحماس وإخلاص أكثر من الوعي، وتبريرها والدفاع عنها بضراوة والدخول في صراعات حدِّية مع الأفكار الأخرى، من دون علم ولا هدى ولا كتاب منير. والعقل "النقدي"، في المقابل، يمتاز بثلاثة: مراقبة الأفكار من دون ملل، وإدخال التصحيح على الخطأ، والتحرر من المعصوميَّة وتكوين آلية نقدية تعمل ذاتيًّا ("النفس اللوامة")، وخضوع كلِّ ما سبق من جديد لنقد النقد.

وهكذا فإن عملية النقد تنقد؛ وما يتمخض عنه يُنقَد إلى ما لا نهاية. وهي بهذا تشبه صناعة الماس، حيث يتم صقلُه دون كلل، ليصل إلى درجة اللمعان، "يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار". وهذا يمكن قراءته في عيون المتكلِّم – والعيون مرآة الروح: فمنهم مَن تقرأ الحياة في أساريره، ومنهم مَن ينظر إليك وتعبيراتُ وجهه تعكس الملل والكسل والغباء: "تراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون."

هناك جدلية لولادة الحدث: فكلُّ حدث "نتيجة" لما قبله، كما أنه، في نفس الوقت، "سبب" لما سيأتي بعده، في ثلاث حلقات تبدِّل مواضعها باستمرار وجدلية لا تنتهي بين تفاعُل السبب والنتيجة. وهذا القانون يمكن تطبيقه بسهولة في علم الاجتماع السياسي وتطور الحركات الإسلامية، كما في دراسة مقطع عرضاني في شجرة أو التطور النفسي الحركي عند طفل. فإذا كانت البدايات قد انفجرت انفجارًا واعيًا مع الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، فلا يعني أن المخطَّط البياني يتسلق صعودًا دومًا. هناك شبه إجماع أن فترة نصف القرن الأخيرة كانت ارتدادية، بين أنظمة سياسية غرقت في الديكتاتورية، مذكِّرة بالمماليك البرجية، وعجز اقتصادي خَنَقَ كلَّ بادرة، واتجاهات إسلامية دخلت في مناطحة قاسية مع الأنظمة، وانفجار سكاني يقذف بملايين العاطلين إلى شوارع مزدحمة بالفقراء. حتى الثورة الإيرانية لم تهتدِ بنجم القطب من فكر علي شريعتي المستنير، بل هيمنت الأصولية التقليدية عليها. واليوم، بعد مرور أكثر من عشرين سنة، ينشط اتجاهٌ جديد مبشِّر، هو الذي سينتقل ويعمُّ العالم العربي، بمعنى إن النزاع سوف يشتد بين اتجاهين إسلاميين: الأول تقليدي تراثي نقلي متشدد عنفي منفصل عن التاريخ؛ والثاني عقلاني مستنير متصل بالعالم وسلامي متسامح.

يجب أن نستوعب حقيقة مؤلمة: صحيح أن الفكر القومي اغتصب الدولة وأرسى الديكتاتورية، ولكنه يتمتَّع بهامش فكري يسمح بمرور قدر من الأكسجين العقلي، فلا يتعرض الدماغ الاجتماعي لتموُّت كامل؛ ويمكن للمسلم أن يعيش في ظلِّ هذه الأنظمة الاستبدادية مادام لم ينازعها على "الكرسي". أما في ظلِّ حركات الإسلام السياسي فلسوف يفتشون عن عقيدته، ولن يكون بمنجاة منهم، حتى لو أقفل أبواب بيوته الأربعة. وبلد مثل هذا، يجب أن يحزم المرءُ فيه حقائبه للفرار منه.

إن العبرة ليست في الشعارات، بل في الواقع، كما أن اللعب بالنار لا يجعل النار لعبة! عندما انفجرت حوادث العنف في بلد عربي، اجتمع "صوفي" مع "سلفي" يقودان إحدى العمليات العسكرية ضد النظام، فاختلفا، فهدَّد أحدهما الآخر أنْ لو صار الأمر إلى "جماعته" فلسوف يحاكمه بتهمة الردَّة والكفر!

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود