الإشراقات

من وجهة نظر سوزان برنار

حديقة الجمال تحت حدِّ السيف

باسم عبدو

 

قدَّمتْ سوزان برنار دراسة مفصَّلة عن شعر رامبو، جُمِعَتْ في كتاب إشراقات.* وقد بيَّنتْ الكاتبةُ العديد من الآراء من خلال المقالات التي نُشِرَتْ في الصحف آنذاك لمجموعة من الكتاب والنقَّاد، كانت تدور وتتمحور حول تاريخ كتابة القصائد وصدورها في كتاب واحد، ومدى صحة ذلك.

 

آرثور رامبو (1854-1891)

فجمهور عشاق رامبو لم يصدق، مثلاً، ما ادَّعاه فرلين من أن تاريخ كتابتها يعود إلى الأعوام 1873-1875، وكانت شهادته مشبوهة، لأنه فَصَلَ قصيدة "الجحيم" عن جسم الإشراقات، علمًا أنها كانت تحية وداع للأدب، وهي آخر ما كتبه رامبو من قصائد. بينما أدلى دولاهي بشهادته، وبيَّن فيها أن كتابة إشراقات تعود إلى عامي 1872-1873. أما بولان دولاكوت فيرى أن الإشراقات بدأت من القصيدة النثرية التي كتبها رامبو تحت تأثير الحشيش، كقصيدة "نهار سكر"، وأوضح أن قصيدة "لوحة ليلية مبتذلة" التي تعرض طابعًا حلميًّا هي عبارة عن هلوسات خاصة جدًّا.

رامبو وفرلين

لا تتوافق آراء سوزان برنار مع هذه الاتهامات لأن رامبو، في رأيها، كان معتادًا على الهلوسات الصِّرف، كما في قصيدة "كيمياء الكلمة" (من فصل في الجحيم) وقصائد أخرى من مثيلات "العبقري" و"إلى عقل"؛ فهما، على ما ترى، قصيدتان غنائيتان، عبَّرتا عن إيمان رامبو بمستقبل عقل منسجم، وعن خصوبة الروح، ورحابة الكون، والحب الكوني الشامل. وترى الكاتبة أن الجمالية عند رامبو تسعى إلى تخليص الفنِّ والروح من التحديات التي فرضتْها التصورية المعنوية، وهي مذهب يقرر أن الكلِّيات لا مقابل لها في الخارج، وأنها تركيبات من صنع العقل، تكون أكثر مما فرضها الواقع المادي.

وقد عبَّر رامبو عن إبداعه الشعري قائلاً:

كلُّ قصيدة عبارة عن حلم مكثف وسريع، وهي بالتحديد إشراقة تفجِّر أمامنا لزمن قصير جدًّا – لكنْ بكثافة خارقة – رؤيا تفرض علينا نفسها بقوة لوحة جدارية في مشهد رائع على أحد المسارح [...].

وهكذا تصبح القصيدة نقطة مشعة؛ وبحسب تعبير فاليري، يعطي بريقُها أضواءً من نوع مختلف، لكنها عاجزة عن إنارة العالم إنارة دائمة. وقد تحدث فرلين في العام 1873، في كتابه الشعراء الملعونون، عن مجموعة رائعة من القصائد القصيرة، تحت عنوان إشراقات، لكنها ضاعت؛ ثم تمَّ جمعها في جزأين: يضم الأول المقطوعات من رقم 1-19، ويضم الثاني المقطوعات التي وجدها ش. روسيفري.

وتبيِّن الكاتبة أن رامبو عاد إلى كتابة الشعر في أثناء رحلته التاريخية إلى إنكلترا برفقة جرمان نوفو، الرسام المشهور والشاعر الذي أبدى اهتمامًا كبيرًا بقصيدة النثر، فكتب قصيدة "شَريدان" وقصائد أخرى ذات طابع وصفي.

تتساءل سوزان برنار:

ما أعظم أصالة الرؤيا عند الشاعر، وما أكبر سلطانه على الكلمة! ففي كلِّ صفحة تتفجَّر خصوصية، بالإضافة إلى طريقته في الرؤية والعرض وإيقاع الجملة الموجزة السريعة.

وتخلص إلى القول: "مما لا شكَّ فيه أن الإشراقات هي التحفة الأدبية التي أبدعها رامبو."

وبعد الوصف في قصيدة "بعد الطوفان"، تأتي المناجاة الشاعرية العظيمة ذات النغم الرائع والقدرة الداخلية لرامبو، الذي استطاع أن يجمع المحسوس والمجرد والأصل والرمز معًا. يقول**:

– تفجَّرْ، يا مستنقع، – يا زبد، تدحرجْ على الجسر وفوق الغابات؛ – ملاءات سود وأرغُنات، – بروق ورعود، – ارتفعي ودوري؛ – يا مياه ويا أحزان، اصعدي وارفعي الطوفانات.

و"حكاية" هي القصيدة الوحيدة من إشراقات التي تظهر على شكل حكاية ذات مغزى. ويبتكر رامبو "الحب من جديد" بسبب الخراب الذي حلَّ بحديقة الجمال تحت حدِّ السيف.

وقد كثرت التأويلات والتفسيرات لقصيدة "المدائن". فهي، كما يرى روشون، "حلم باريس"؛ وخيال الشاعر "كوَّم" شتى الصور والذكريات والأسفار، والمطالعات والنقوش، واستدعى الشاعر كلَّ الميثولوجيا والأساطير في العصور كلِّها.

رامبو، تفصيل من لوحة فانتان–لاتور "ركن طاولة"

لقد ضمَّ فهرس الكتاب 42 قصيدة وعشرات الشروح لنقاد وشعراء. ومن هذه القصائد: "سهرات"، "لوحة ليلية مبتذلة"، "لوحة بحرية"، "بربري"، "حرب"، "خشوع". وقصيدة "عبقري" هي إحدى القصائد الخمس التي نُشِرَتْ منفصلة في العام 1895؛ وهي عبارة عن نصٍّ "تبشيري" يمكن مقارنته مع قصيدتي "إلى عقل" و"حكاية"، وقد حظي بأكثر التفاسير غنى وتنوعًا. ومما يمجِّده رامبو في ذلك "العبقري" هو خصوبة الروح، ورحابة الكون؛ أي أنه يمجِّد العصر الحديث الذي يشهد – أو سيشهد – القضاء على الخرافات وهجرات الشعوب.

إن رامبو الذي عاش في قلب البلدان الصناعية المتطورة آنذاك، وعاصَر العديد من الثورات الاجتماعية، وشهد الانقسام الطبقي في المجتمع، لم يقف مكتوف اليدين، بل شنَّ في قصيدته الشهيرة "ديموقراطية" حملة شعواء على ما تسميه البلدان الغربية "المجتمع الديموقراطي" أو "الديمقراطية البورجوازية". هو ذا يقول: "في البلدان المبهَّرة والمنقوعة! – في خدمة أبشع أنواع الاستغلال الصناعي أو العسكري." وفي هذه القصيدة إشارات واضحة تحدِّد تمامًا الأشكال الكريهة المتمثلة في الاستعمار القديم (الكولونيالي).

ويظهر في قصائد رامبو أحيانًا، غموضٌ، كما في قصيدة "خشوع"، التي جاءت على شكل ابتهالات، يتوجَّه فيها إلى أشخاص ملغزين، بقدر ما يتوجه إلى نفسه. ويؤكد أحد النقاد – وهو أ. آدم – أن رامبو كتب هذه القصيدة في الليل القطبي الطويل.

وتفجِّر الطبيعةُ الجميلة الأحلامَ الكامنة في أعماق الروح، الينابيعَ من الصخور، وغابةً وربيعًا خلابًا. وهذا مقطع من قصيدة "طفولة":

عند تخوم الغابة، – ترنُّ أزهار الحلم، تتفتَّق، تضيء، – الفتاةُ البرتقاليةُ الشفةِ، ذات الركبتين المتصالبتين في ضياء الطوفان، متفجرًا من المراعي، عريٌ تظلِّله، تخترقه، وتكسوه أقواسُ قزح، النباتات، البحر.

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة


* آرتور رامبو، دراسة أدبية: الإشراقات، بتقديم وشرح سوزان برنار، ترجمة قيس خضور، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 2002.

** نظرًا لرداءة ترجمة المقبوسات الشعرية الثلاثة (من قصائد "بعد الطوفان" و"ديموقراطية" و"طفولة") وعناوين القصائد الواردة في المراجعة، نقلاً عن الكتاب، اضطر المحرِّر إلى إعادة ترجمتها عن الأصل. (م)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود