|
الفلسفة في
الوطن العربي في مائة عام ندوةً فكتابًا مرجع أساسيٌّ لحقبة
فكرية حرجة وتوثيق كأنَّه لآخر نبض فلسفي مئة
عام من العزلة الفلسفية: أي قرننا العشرون
الفلسفي العربي الناطح نظرية المعرفة بلا
جدوى! فنحن صلتنا بالفلسفة تكاد تنقطع
نهائيًّا: فلا جبر ولا هندسة ولا فيزياء
تعزِّز حواشيها، ولا تجريبية ولا رواقية ولا
كلبية تخفِّف من فظاظة متنها الراسخة أقدامه
في غيوم الميتافيزياء الهانئة على عرش
متفسِّخ! مدار
ندوة الفكر الفلسفي العربي في مائة عام[1]،
أخرجتْ أوراقَها إلى النور "دراسات الوحدة
العربية". لكن ما هي إلا مباحث في رسم
تضاريس هيئة الفلسفة بين ظهرانينا؛ وهي هيئة
شاحبة سقيمة هزيلة، صنو الحداثة عندنا، أي
أخت رأسها! فأبوهما موغل فكره في سلفية
مكتنزة، تكاد تحجب بهاء شمس الطبيعة قبل نور
المعرفة. مباحث الفلسفة في الوطن العربي في
مائة عام هي فعلاً مباحث الفلسفة في الوطن
العربي في مئة عام، في معنى أن هذه بضاعتنا
الفلسفية، جلُّها لم ينضج بعد. فالطبيعة
أحيانًا للفكر ظالمة. فمنذ غياب فرح أنطون
وشبلي شميِّل انطفأت جذوة الفكر عندنا، لولا
أن جدَّدها أنطون سعادة وجيزًا قبل الإجهاز
عليه سلفيًّا، أيضًا وأيضًا. في
العام 1944 كانت دعوة منصور فهمي في القاهرة إلى
تأسيس "الجمعية الفلسفية المصرية". ثم
تجددت مع مريديها في العام 1976، لمناسبة مرور
ربع قرن على الدعوة الثانية. وبالتعاون مع "مركز
دراسات الوحدة العربية" في بيروت، انعقدت
في القاهرة بين 18 و21 تشرين الثاني من العام 2000
ندوة "الفكر الفلسفي العربي في مائة عام"،
في رحاب قسم الفلسفة في كلِّية الآداب في
جامعة القاهرة. وعلى مدى أربعة أيام، أُلقِيَ
في تلك الندوة خمسة وثلاثون مبحثًا لمفكِّرين
من مصر وتونس والجزائر والمغرب والأردن
ولبنان والعراق، توزَّعتْ على أربعة مجارٍ هي: 1.
الإشكالية
العامة 2.
الفلسفة
في مصر 3.
الفلسفة
في المغرب العربي 4.
الفلسفة
في الشام والعراق ولعل
أعقدها ما اندرج تحت خانة "الإشكالية".
ولا عجب – فهذه مسألة عويصة، ولاسيما عندنا،
حيث الصدام بين قديم وحديث، وعقل ونقل، وحرية
وسلطة، ناهيك عن معضلة الأخلاق ومأزق السياسي. في
المجرى الأول، أي الإشكاليات العامة، عشرة
مباحث؛ أطولها ما حبَّره حسن حنفي عن "الفلسفة
في الوطن العربي في مائة عام" (ص 17-41)، حيث
يرصد مسار الوعي الفلسفي التاريخي العربي عبر
أجيال خمسة، تبدأ بتلميذ محمد عبده، مصطفى
عبد الرزاق، الذي رأس أول قسم للفلسفة في
الجامعة المصرية منذ نشأتها في 1935؛ وهو يسوق
الاتجاهات والمنازع، من مثالية (عثمان أمين)،
ووضعية (محمود، ضاهر)، وماركسية (العالِم،
العظم، تيزيني، العروي، مروة)، وبنيوية (الجابري،
أركون، أبو زيد، أبو ديب، فضل، عصفور)
وظاهراتية (أدونيس، حنفي، سلامة، رجب، توفيق،
أنور) ووجودية (بدوي، إبرهيم). ويرى حنفي في حق
أن المشروع النهضوي العربي لا يزال مستمرًا؛
وإنْ تمَّتْ بعض إنجازاته المباشرة، إلا أن
معظمه لم يكتمل بعد. وحول
أزمة الفلسفة العربية بين التوفيقية
والحداثة يلح أحمد الأمين (الجامعة
اللبنانية، طرابلس) على أن منشأها طغيان
الفكر التوفيقي؛ وعليه، تشهد الفلسفة
العربية نكوصًا، وينزع المجتمع العربي،
بالتالي، إلى تأرجح مُضْنٍ بين علمانية
وأصولية (ص 43-51). وعن مفهوم الحرية في الفكر
الفلسفي العربي المعاصر يؤرِّخ ماهر هناندة (الجامعة
الأردنية) لتنامي الخطاب التحرري في نصِّ
العربية من الطهطاوي إلى الجابري، فيخلص إلى
أن الصراع بين جماعة "التتريث" وجماعة
"الاستغراب" أدى إلى "هجانة"
الفلسفة في بعض مناحيها (ص 53-68). أما مصطفى
النشار (جامعة القاهرة) فيعالج غياب التأريخ
العربي للفلسفة، قديمًا وحديثًا، ويردُّه
إلى سيطرة هاجس الخوف، وفقدان المناخ الحرِّ،
وشيوع الكسل الفكري، والانشغال بالهوية
القطرية، والاستغراق في تلبية مطالب اللحظة
الراهنة (ص 69-85). "السؤال
الرئيسي للفلسفة العربية المعاصرة" عنوان
مبحث محمد أحمد عواد (جامعة عمان الأهلية)؛
ويبحث في ماهية السؤال الذي تطرحه الفلسفة
العربية المعاصرة، فيرى أن ناصيف نصار ساهم
في بَلْوَرَة ذاك السؤال في صورة رئيسية؛ وهو
يقارن محاولته بما طرحه ماجد فخري، ثم يتناول
نموذجين آخرين، تمثلا في جهود مطاع صفدي
وعادل ضاهر. أما أبو يعرب المرزوقي (الجامعة
التونسية) فيهتم بعرض العلاقة بين مبادئ
العقل وقيمه ومبادئ الشَّرع وقيمه؛ ومنطلقُه
أن الفلسفة اليونانية القائلة بالهوية وعدم
التناقض والثالث المرفوع تلقَّتْ ضربة موجعة
من الكلام وفلسفة الإسلام مع ابن سينا وردود
الغزالي عليها: إذ سعى الكلام والفلسفة
الإسلامية إلى تحرير العقل من التقابُل بين
الفلسفة المستندة إلى نظرية الشرائع
والخلقات وبين الدين المستند إلى نظرية
الطبائع والهويات، تخليصًا للأمرين من
الإطلاق (ص 109-135). عن مشتبَك الفكر الأخلاقي
الجديد بالفلسفة العربية المعاصرة يحبِّر
عبد الرازق الدواي (جامعة محمد الخامس،
الرباط) مبحثًا يتناول فيه أصداء الفكر
الأخلاقي الجديد في دنيا الفلسفة العربية
المعاصرة، متكئًا على ما صدر مُترجَمًا
وموضوعًا أو عن ندوة، آملاً في تكوين فكرة
عامة عن نشأة فلسفة الأخلاق الجديدة هذه،
ولاسيما أن قيم الغد قد تكون مُغايرة لقيم
اليوم (ص 127-145). أما جلال الدين سعيد (جامعة
تونس الأولى) فيبحث في سبيل رؤية واقعية
للعلاقات الدولية عبر فلسفة سبينوزا، القائل
إن السِّلم السائد بين الدول متأصِّل في مبدأ
البحث عن المصلحة الخاصة، أي ما يتعارض
تمامًا مع رؤية كانط للسلام العالمي، أي
تحقيق السِّلم بدافع مبادئ الحق الكلِّي،
وعلى أساس قواعد عقلية متعالية (ص 147-160). وحول
تطوير الخطاب الفلسفي وأثره في بناء
المستقبل، يردُّ مبحث عبد الفتاح الغاوي (جامعة
القاهرة) دعوة صريحة إلى ضرورة وجوب خطاب
فلسفي ذي هوية واحدة في حقيقته وجوهره، على أن
تكون علاقته بالخطاب العقلي علاقة توجيه
وإرشاد، وبالخطاب الديني علاقة تعاون
وهداية، لا علاقة تحجر ووصاية (ص 161-169). أما عبد
الأمير الأعسم (جامعة الكوفة) فيرى في مبحثه
"إسهام في نقد عقلانية تجديد الفكر الفلسفي
العربي المعاصر" (ص 171-179) أننا أمام أزمة
حقيقية لوعي إشكالية الفلسفة العربية
المعاصرة في اتجاهاتها المادية والعقلية
والروحية والوجودية والشخصانية العلمية –
وكلُّها ساد مناهج المفكرين العرب على مدى
العقود السبعة الأولى من القرن العشرين. ولئن
انشغل القسم الأول من الفلسفة في الوطن
العربي في مائة عام بالإشكاليات العامة
انحصر القسم الثاني من هذا المؤلَّف بالـ"فكر
الفلسفي في مصر" (ص 183-309)، فأماط سمير أبو
زيد (عضو "الجمعية الفلسفية المصرية") في
مبحثه "الفكر المصري والعربي المعاصر
وضرورات التنظير" (ص 183-216) عن الحاجة إلى
مشروع نهضوي لا يتخلَّى عن الفلسفة المحض،
لإيمانه بأن الفكر المجرَّد هو الأقدر
تأثيرًا في بنية المجتمع. واعتبرت سامية عبد
الرحمن (جامعة عين شمس) في مقالة لها عن "نماذج
ميتافيزيكية من الفكر المصري المعاصر" (ص
217-252) أن عبد الرحمن بدوي ارتكز على مفاهيم
الفردية والحرية والتاريخية في إرساء مذهبه
الوجودي؛ في حين اهتمت نازلي إسماعيل
بالميتافيزيكا على أنها دراسة للوجود،
فامتزجت روحُها الشرقية بالعقلانية الغربية،
ورفض زكي نجيب محمود الميتافيزيكا برمَّتها
واتَّكأ على نقد وتحليل لازَمَاه. وعقد أسامة
خليل (رئيس المركز الثقافي المصري في باريس)
فصلاً في "غربة عبد الرحمن بدوي وأحكامها
القصوى" (ص 253-260)، فأثار تساؤلات حول
تناقضات إيمانه؛ فيما انصبَّ اهتمام حسين علي
(جامعة عين شمس) على الفكر العلمي عند سلامة
موسى (ص 261-266)، وخاصة في منهجه الناهض على نقض
خرافات عشَّشتْ في أذهان الشرقيين. أما خالد
أحمد حربي (جامعة الإسكندرية) فأعاد إلى
الأذهان فكر الباحث النقدي الإسكندري
المعاصر أبو ريان (ص 267-282) الذي سعى جاهدًا إلى
فهم علاقة الغرب بالإسلام، فدعا، تاليًا،
للخروج من أزمة التغريب، إلى مواجهة الغزو
الفكري الغربي بالتسلح بمبادئ الإسلام. وعن
دار العلوم المصرية وتاريخ الدرس الفلسفي في
مصر يؤرِّخ محمد السيد الجليند (جامعة
القاهرة) للعمل العلمي والأكاديمي للدراسات
الفلسفية، بفروعها المتعددة، في قاعات البحث
والدراسة داخل المؤسَّسة التعليمية، فيرى أن
الدرس الفلسفي في دار العلوم المصرية ينقسم
إلى مرحلتين: 1871-1946 و1946-1991، أي منذ تأسيسها حتى
ضمِّها إلى جامعة فؤاد الأول، ثم إلى
الاحتفال بمئويتها، فيعرض برامجها ويذكر
أساتذتها، من محمد عبده إلى إبرهيم مدكور (ص
283-295). وفي هذا السياق عينه يقع مبحث مقداد
عرفه منسية (جامعة تونس الأولى) في بدايات
الفكر العربي الحديث، وتحديدًا عند محمد عبده
وتردده بين سبل النهضة: الكلام والتصوُّف (ص
297-309)؛ فيلحُّ الباحث على نهج الإمام في قوله
بوحدة الوجود؛ وهو نهج في الخلاص، ولكن
للنجاة بالفرد ليس إلا – وما هذا بالقليل. يتناول
القسم الثالث من الكتاب "الفلسفة في المغرب
العربي"، فيعالج علي الشتوفي "نماذج
تعامُل الفكر العربي المعاصر مع سبينوزا" (ص
313-318)؛ ويروي فتحي التريكي "اللحظة
التونسية في فلسفة ميشيل فوكو" (ص 319-325)؛
فيما يقارب كمال عبد اللطيف الفكر الفلسفي في
المغرب من زوايا شتى بغية الكشف عن الحداثة
والموقف من التراث (ص 327-334)؛ وينشغل مصطفى حنفي
بشأن الحرية في كتابات علال الفاسي (ص 335-359)؛
ويقرُّ عبد الرحمن بوقاف بغياب المشاريع
الفكرية في الجزائر (ص 361-375)، فننحني لتواضعه؛
فيما يشخِّص الزواوي بغورة الخطاب الفلسفي
هناك (ص 377-407). وتتناول جويدة جادي "موقع
مالك بن نبي بين الإصلاح والفلسفة" (ص 411-432)؛
وتعيد خديجة هنى إلى الأذهان فكر محمد تازروت
(ص 433-440)؛ ويعمد عبد الله عبد اللاوي إلى
الإماطة عن التاريخ والاختلاف عند محمد أركون
(ص 441-468)؛ ويدرس إسماعيل زروخي فلسفة السياسة
والاجتماع في فكر عبد الله شريط (ص 469-492)؛ فيما
يقارن بن مزيان بن شوقي بين أفكار هشام جعيط
وفتحي التريكي وعبد الله العروي (ص 493-508). ويدور
القسم الرابع من مناهل الفلسفة في الوطن
العربي في مائة عام حول "الفلسفة في
الشام والعراق"، فيكتب أحمد عبد الحليم
عطية، أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة، في
فكر هشام شرابي (ص 511-529)، وأدونيس العكرة،
أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية، في
استقلال الفلسفة عند ناصيف نصار (ص 531-539)،
وعاهدة طالب، أستاذة الفلسفة في الجامعة
اللبنانية، في نهضوية محمد حسين الأمين (ص
541-551)، وعلي حمية، رئيس تحرير مجلة اتجاه
ورئيس قسم الفلسفة في الجامعة اللبنانية،
الفرع الرابع، في "المدرحية"، أي
الفلسفة الجديدة التي طَلَعَ بها أنطون سعادة
على الملأ. و"مدرحية" كلمة نحتها سعادة
في الأرجنتين في العام 1939 ليعبِّر عن صراع
المادة والروح، أي نفي الروح المادةَ ونفي
المادة الروحَ، ثم أشاعها في أدبياته اللاحقة
(ص 553-573). أما علي حسين الجابري، أستاذ الفلسفة
في كلية الآداب في جامعة بغداد، فيرصد المشهد
الفلسفي الأكاديمي العراقي في القرن العشرين
(ص 575-605)؛ فيما تتناول فضيلة عباس، أستاذة
الفلسفة في جامعة بغداد، تطور الإنجاز
الفلسفي في العراق (دراسة تحليلية مقارنة على
مدى القرن العشرين)، لعل أهم ما فيها، في
نظري، ثبت بعناوين رسائل الماجستير
والدكتوراه في العراق (1973-2000). لكن
القول بفلسفة عربية معاصرة أشبه بالقول
بالعنقاء؛ والقول بفيلسوف عربي معاصر كالقول
بالخلِّ الوفي! يطلع علينا هذا المثقف في
الوطن بنظرية حداثة، ويخرج منَّا ذلك المثقف
في المهجر برؤية معاصرة، في صوغ إنشائي
توليفي: فلا تقميش ولا بحث ولا من يحزنون، ولا
جهد ولا تنقيب ولا من يتعبون! منذ دهر ونحن في
عزلة فكرية خانقة. مسألة طبيعية! فعباقرتنا
سلفيون، إلا نفر منهم قليل. وأن يقرَّ ألبرت
حوراني بانغلاق عصر النهضة عند العام 1939 فـ"مسألة
فيها نظر"، كما يقول الأزهريون. أما نحن
فنمدُّ حقبة النهضة حتى العام 1949، أي حين أجهز
الفكر العربي السلفي على آخر نَفَس للعلمانية
في المشرق العربي. هذا
كلُّه لا ينتقص من أهمية الكتاب الصادر لدى
"مركز دراسات الوحدة العربية". الفلسفة
العربية في مأزق منذ سقوط عاصمة الفكر بغداد
في العام 1258 – فكيف بسقوطها مجددًا في العام
2003! ومن هنا يكتسب الكتاب أهمية مضاعفة: إذ
وثَّق آخر نبض فلسفي عندنا قبل الطامة الكبرى
الواقعة على رأس عاصمة الرشيد؛ ولن ينجو منها
رأسُ أحد، صَغُرَ أم كَبُر. بالأمس، عند منتصف
الطريق بين سقوط القدس وسقوط بغداد، سقطت
بيروت في جبِّ الطائفية، فلم تنتبه الفلسفة
من محيط إلى خليج إلى همِّها، فانصرف
جهابذتُها عندنا إلى جدل بيزنطي وبَطَرٍ
روماني. فها نحن، حيث كنَّا، منذ غاب المأمون،
على أكثر تقدير. أوراق
الندوة الفلسفية الثانية عشرة التي نظَّمتها
"الجمعية الفلسفية المصرية" في جامعة
القاهرة والصادرة عن "مركز دراسات الوحدة
العربية" في بيروت تبقى مرجعية أساسية
لحقبة حرجة في تاريخ الفلسفة العربية على مدى
قرن. ***
*** *** عن
النهار، الثلثاء 24 حزيران 2003 [1]
صدر في منشورات "مركز
دراسات الوحدة العربية"، بيروت، مع "الجمعية
الفلسفية المصرية"، 2002، في 646 صفحة من
القطع الكبير.
|
|
|