|
العنف
والحروب
أخطر
أمراض الجنس البشري
خالص
جلبي
لماذا
ولدت الدولة في التاريخ؟ ما هو مبرِّر
وجودها؟ ما هي وظيفتها الأساسية؟ في
كتاب السلطان لروبرت غرين في "القواعد
الثماني والأربعين للإمساك بمفاتيح السلطة"
يذكر قصة عجيبة عن إيفان الرابع (الرهيب)، جاء
فيها أن سكان موسكو فوجئوا في 3 كانون الأول من
العام 1564 بمغادرة القيصر العاصمة إلى قرية
صغيرة وتركها لمصيرها بدون حاكم. وخلال شهر
ذاق الناس الأمرَّين من الفوضى والقتل. وفي 3
كانون الثاني من العام 1565 أرسل إيفان إلى أهل
موسكو رسالة يقول فيها إنه تنازل عن العرش.
هرع رجال الكنيسة وأعيان البلد إلى قرية
الملك إيفان يستعطفونه الليالي ذوات العدد أن
يعدل عن رأيه ويعود إلى العرش وينقذ البلد من
الفوضى. فقال لهم في النهاية: "إذا كانت هذه
رغبتُكم فسوف أعود، ولكن بشرط واحد هو: السلطة
المطلقة." وعندما عاد إيفان الرهيب إلى
موسكو هتف الناس طويلاً بحياته، واعتبروا ذلك
اليوم عيدًا للحرية والشكر، وهم يضعون أغلال
العبودية في أعناقهم: "فهي إلى الأذقان فهم
مقمحون". ويذهب
الفيلسوف البريطاني برتراند راسل في كتابه السلطان
Power
إلى أن أعظم مشكلة اجتماعية تواجه البشر هي
التوفيق بين الرغبات الفردية والذوبان
الاجتماعي: "إنه لمن المجدي للمخلوقات
البشرية أن تعيش في جماعات، ولكن رغباتها تظل
فردية إلى حدٍّ كبير، خلافًا لرغبات النحل
التي تعيش في خلاياها؛ ومن هنا تنشأ المتاعب
الاجتماعية والحاجة الماسة إلى قيام حكومة."
ولكن المشكلة هي أنه بقدر الحاجة إلى ولادة
الدولة بقدر المخاطر الناجمة عن نشوئها، من
احتكار السلطة بيد طاغية أو رهط يفسدون في
الأرض ولا يصلحون. ويقرر راسل أن الحلَّ صعب
بين "فوضى الغابة" و"طغيان الدولة"
وأن "الفوضى والطغيان يتشابهان في
نتائجهما المدمرة، ومن الضروري التوصل إلى
حلٍّ وسط إذا أُريدَ للمخلوقات البشرية أن
تنعم بالسعادة". ويذهب
ابن خلدون في مقدمته إلى أن "الاجتماع
الإنساني ضروري وأن الإنسان مدني بالطبع".
وينطلق في نظريته هذه من ضرورة الاجتماع
الإنساني بأمرين: "الحماية" و"الغذاء".
فلا يمكن للفرد الواحد أن يطعم نفسه كسرة خبز
بدون اجتماع الأيادي والعديد من الصناعات.
جاء في المقدمة أنه حتى "قوت يوم من
الحنطة لا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن
والعجن والطبخ؛ وكلُّ واحد من هذه الأعمال
يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات
متعددة". ولكن هذا الاجتماع لا يعني
بالضرورة ولادة "الدولة"؛ ولذا اعتبر
هوبز أن الإنسان ليس حيوانًا سياسيًّا، ولا
هو مدني بالطبع، وان تطور الدولة كان عملاً
ثقافيًّا أكثر من كونه أمرًا غريزيًّا. وهو
بهذا ينقض نظرية أرسطو عن الإنسان. أما
في علم النفس فيرسم أبراهام مازلو الحاجات
الإنسانية في هرم مكوَّن من خمس طبقات، تأتي
في القاعدة منه طبقة مكوَّنة، بدورها، من خمس
حاجات فسيولوجية هي: الطعام والشراب واللباس
والسكن والجنس. ويأتي فوقها مباشرة طابق "الأمن
الاجتماعي". (جمعت الآية بين الأمرين: "فليعبدوا
ربَّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من
خوف".) وفي قمة الهرم يأتي "تحقيق الذات"،
وهو حصر على 5% من الناس، وما بينهما يأتي "روح
الانتماء" و"تقدير الذات". ولكن
ما معنى هذا كلِّه؟ يبدو واضحًا أن الدولة
نظام سياسي ولد على القوة وسَحَبَ العنف من
المجتمع كلِّه، مثل "شفاطة" قوية، مقابل
"توفير الأمن" للأفراد الذين يعيشون في
كنفها؛ وهو ثمن باهظ للتخلِّي عن الفردية
مقابل الاندماج في الحياة الاجتماعية. ولكن،
في الوقت نفسه، لم تكن الحضارة لتنشأ لولا هذه
الغلالة الواقية من الأمن التي تحسم النزاعات
بين الأفراد. ومنظر حادث ارتطام سيارتين بسيط
وحضور البوليس يعطينا معنى حضور الدولة من
خلال ممثليها (الشرطة)، الحاملين مسدساتهم،
الجاهزين لردع أيِّ متمرد على النظام؛ وهو ما
يسميه راسل "القوة العارية". ونحن
تعوَّدنا منذ الطفولة على رؤية الشرطة
بأسلحتهم أو القوات المسلحة في استعراضاتها
العسكرية للمدافع والصواريخ تحمل التهديد
المبطَّن لمن تسوِّل له نفسه تعكير الأمن.
وإنه لعارٌ كبير على الجنس البشري استعراض
أدوات القتل! ولكن
الجنس البشري ليس إلا في أول رحلته
الأنثروبولوجية، والحضارة ليس لها من العمر
إلا ستة آلاف سنة، مقابل وجود الإنسان على
الأرض منذ ملايين السنين. ومرحلة العنف هذه
تشبه وضع الطفل في أول رحلة الحياة، وهو لا
يعرف كيف ينظف نفسه؛ وهي مرحلة لا نخجل منها
في طفولتنا لأنها ضريبة التطور. و"احتكار
العنف" بيد الدولة كان، من جهة، جيدًا،
لأنه في ظلِّ الدولة نشأت الحضارة. كما كان
بناء الدولة، بالمقابل، لعنة؛ إذ إنها أصيبت
بـ"مرضين"، كلٌّ واحد منهما يمثل فظاعة
لا تطاق: أولاً:
برمجة الحروب مع دول الجوار مادام الأمن
مضمونًا في النطاق الداخلي للدول، وليس بين
الدول. أي لم يوجد من يحسم النزاعات بين الدول
مثل الذي حصل داخل الدولة الواحدة في هيمنتها
على حسم النزاعات بين الأفراد. وهذا هو مصدر
نشأة الحروب بين الناس. فالحرب ظاهرة مترافقة
مع الصراع بين الدول أو تحدث في أثناء تحلُّل
الدول. وكما يقول علي الوردي في كتابه لمحات
اجتماعية من تاريخ العراق الحديث في تفسيره
"سبب التنازع البشري"، إن الحكومة
استطاعت أن تحسم النزاعات بين رعاياها بواسطة
أجهزة القضاء والشرطة وما أشبه. وهذه الأجهزة
قد تكون متفسخة أو جائرة، ولكن وجودها خير من
عدمه؛ فلولاها لتحول النزاع بين الأفراد إلى
قتال عنيف وأكل بعضهم بعضًا. ويصح أن نقول مثل
هذا عن الحروب التي تنشب بين الدول؛ فهذه
الحروب ستظل مستمرة إلى أن تظهر قوةٌ عالمية
قاهرة تحكم في منازعات الدول. إن الدول الآن
تعيش في نفس المرحلة التي عاش فيها الأفراد
قبل ظهور الحكومات المحلية؛ فكلُّ دولة تريد
أخذ حقها بحدِّ السيف. ثانيًا:
الطغيان الداخلي على الأفراد. فمع تملُّك
القوة راح بعض البشر يدعي الألوهية. رأينا هذا
واضحًا في ملوك آشور، وأور، والفراعنة، أو
ممارسة ذلك بدون ادِّعائه حتى اليوم في جوِّ
الديكتاتوريات. يرى جون لوك في الحكم المدني
أن "الطغيان يبدأ عندما تنتهي سلطة القانون"
وأن "الشرطي الذي يتجاوز حدود سلطاته يتحول
إلى لصٍّ أو قاطع طريق. بل إن جرمه يكون أعظم
إذا صدر عمَّن عظمت الأمانة التي عُهِدَ بها
إليه". أما جون ستيوارت مِلْ فيرى أن هذه
الأحادية كارثة: "أولئك الذين يريدون إخماد
الرأي الآخر هم أنفسهم غير معصومين من الخطأ؛
ومن ثم فهم، عندما يرفضون الإصغاء لأيِّ رأي
مخالف، فإنما يزعمون لأنفسهم العصمة من الخطأ." إن
جذر الطغيان، بحسب القرآن، مرتبط بامتلاك
القوة: "كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى".
وموقف الطاغية، كما يرى مونتسكيو، هو موقف
ذلك الذي يقطع الشجرة من أجل قطف ثمرة. وينقل
راسل عن كونفوشيوس هذه القصة: عندما
مرَّ على مقربة من جبل تاي أبصر امرأة تقف إلى
جانب أحد القبور وتبكي بمرارة وحرقة. فسارع
المعلِّم إليها، وبعث بتلميذه تسي–لو يسألها:
"إنك لتبكين يا امرأة وكأنك احتملت من
الأحزان فوق الأحزان." فردت المرأة تقول:
"هو كذلك الأمر. فقد قتل والد زوجي نمرًا في
هذا الموقع. وقد قتل زوجي أيضًا. وها هو ولدي
قد مات الميتة نفسها." فقال المعلِّم: "ولماذا...
لماذا لم تتركوا هذا المكان؟" فردت المرأة:
"ليست هنا حكومة ظالمة." فقال المعلم
آنذاك: "تذكَّروا قولها يا أولادي. إن
الحكومة الظالمة أشد فظاعة من النمر." والخلاصة
أن أخطر أمراض الجنس البشري اثنان: الحرب بين
الدول والطغيان ضمن الدولة الواحدة. ورسالة
الأنبياء جاءت في هذا المفصل الخطير، فدعوا
إلى تحديد جرعة عنف الدولة بما يخدم غرض
الأمن، لا يزيد، وأن الدولة تقوم عن "تراضٍ
منهم وتشاور". فهذا هو التوحيد سياسيًّا،
أي خضوع جميع البشر لـ"كلمة سواء"، وأن
لا يتخذ بعضهم بعضًا "أربابًا" من دون
الله. ويندرج الجهاد، في شقِّه المسلح، ضمن
هذه المنظومة. فهو ليس أداة بيد تنظيم مسلح
يريد قلب أنظمة الحكم بالقوة، بل أداة بيد
دولة راشدية وصلت إلى الحكم برضى الناس. كما
أنه ليس أداة لنشر الإسلام، بل دعوة لإقامة
حلف عالمي لرفع الظلم (الفتنة) عن الإنسان،
أينما كان ومهما دان، فيمن أُخرِجَ من دياره
أو مُنِعَ من حرية المعتقد والتعبير. فالجهاد
موجَّه ضد الظالمين، ولو كانوا مسلمين، وغير
موجَّه ضد الكافرين عندما يكونون عادلين.
والجهاد بهذا يشبه مؤسَّسة الدفاع المدني على
مستوى الأرض لإطفاء الحرائق حيثما نشبت. وعن
"حلف الفضول" للدفاع عن المستضعفين –
وكان في الجاهلية – قال رسول الله (ص): "لو
دعيتُ له في الإسلام لأجبت." هذا المفهوم هو
الذي تبلور عند فيلسوف التنوير إيمانويل كانط
عندما دعا في كتابه نحو السلام الدائم Zum ewigen Frieden
إلى قيام "أمم متحدة" تزيل الظلم من
الأرض وتنهي حالة الحرب. ما
يحتاجه الناس اليوم هو أمم متحدة تحكمها كلمة
السواء، ويُحذَف منها حق الفيتو، وتملك قدرة
تنفيذ القرارات الموافَق عليها بالأغلبية،
فيما يشبه برلمانًا أرضيًّا. وبذلك تضع الحرب
أوزارها. *** *** ***
|
|
|