لا عوالم مغلقة في الإنسانية

بل عالم واحد للجميع

 

إدمون رزق

 

في حمَّى صراع الحضارات، واحتدام النزاعات، يبدو حوارُ الثقافات المنفذَ الموضوعي إلى السلام. وليُسمَح لي أن أعتمد، في مستهلِّ بحثي،* مرجعًا مُحبَّبًا إليَّ، هو كتاب الهوية اللبنانية المتعدِّدة الثقافة لبهجت رزق، الصادر بالفرنسية في باريس، الذي ترجمتُه إلى العربية، وطُبِعَ في بيروت لمناسبة انعقاد قمة الفرنكوفونية (تشرين الأول 2002). وأقتطف منه بعض الخواطر، آمِلاً في أن تقدِّم مادة مفيدة لإعلان عمَّان:

·        إن الحقَّ في ثقافته الخاصة، وتاليًا الاعتراف بثقافة الآخر، يجب أن يُشكِّل جزءًا من الحقوق الأساسية لإنسان اليوم.

لقد باتت الثقافة مطلبًا أساسيًّا وبُعدًا جوهريًّا للتنمية، على قدر الاقتصاد والسياسة، في مجتمع جانح إلى المادية، وجامح، متَّجه إلى الاستهلاك الفوري.

إن الصراع الثقافي الأكبر، في عصر العولمة، هو التماثل على السطح والتضارب في العمق. فمن أصل اثنين وتسعين نزاعًا تعصف اليوم بالعالم ثمة ستة وثمانون ذات طبيعة داخلية (تقرير اليونسكو العالمي عن الثقافة للعام 2001، "التنوع الحضاري: صراع وتعددية").

لا يجوز أن ينتقص أحدُنا الآخر، ولا أن يهشِّم البشرُ بعضَهم بعضًا، لأن العالم لا يتجزأ، وأن يتفتَّت تفتتًا مأسويًّا.

التعايش العالمي ليس مجرد تسوية سياسية قسرية، ولكنه اعتراف بالبعد الثقافي والتاريخي لكلِّ شعب، تقدماته المادية وقِيَمِه الروحية.

يجب أن يكفَّ العالم عن قرع طبول الحرب، فيتصرف على أساس أنه مجتمع إنساني، متعدد اللغة والدين، متنوِّعُ الثقافات، حيث يمكن التخاطب والاستماع.

إن وضع الحوار في إطار ثقافي يتيح بناء شركة حياة قائمة على الاعتراف المتبادل، نابعة من رغبة حقيقية في العيش معًا؛ فلا يعود الدين مجرَّد أداة للغزو السياسي، وإنما وسيلة للإثراء الثقافي.

إن الأديان هي بعد جوهري للثقافة لأنها توجِّهُ ارتقاء الإنسان إلى الإنسانية. وأيًّا يكن إيمانُه فهو لا يودُّ العودة إلى حال الغاب، محكومًا بالخطر، بالخوف وبالغريزة. الثقافة هي حاجة إلى الأنْسَنَة، وهي مدى الفتح الذي يحققه الإنسان في ذاته.

إن كلاً منَّا يحفظ إيمانه في أعماق قلبه. لكن على كلٍّ منا أن يعترف بوجود الطوائف الأخرى، بما هي ثقافات تغنيه، بدلاً من أن تهدِّده. إن السبيل الأصعب ليس فقط دفاع المرء عن ثقافته، وإنما التوجُّه نحو ثقافة الآخر. ولقد عرفت جميع الحضارات، في ذروتها، روح الانفتاح والتبادل.

ثمة خمسة آلاف سنة من الحضارة الإنسانية، وخمس قارات، ينبغي تدارسُها في شمولية، مع تبيان العلاقة فيما بينها، بروح العطاء المتبادل والمتواصل – وإلاَّ فسينفجر العالم ويتشظَّى.

أنا أحتفظ بإيماني في أعماق قلبي، وأتقبَّل العطاء الحضاري الذي يستطيع أن يقدِّمه إليَّ الآخر، من دون أن أشعر بأنني مهدَّد من قبله، ومن دون محاولة السيطرة عليه. إذا كان حوار الأجيال ممكنًا فلماذا لا يقوم حوار القارات؟ وإلاَّ، فلا مجال لتبادل الآراء، بل حتمية تصادم ودمار. لا ينبغي للدين أن يتحول إلى إيديولوجيا في علاقتي مع الآخر، ولا إلى أداة قهر.

ينبغي قبول الاختلاف – وإلا فسيقوم سببٌ لمحو الآخر من الوجود بحجة أنه يهدد الوحدة.

يجب أن يكون العامل الثقافي، من خلال التبادل الذي يتيحه، في أساس الشأن السياسي. إن الديموقراطية لا ترتكز فقط على قانون العدد، بل على الثقافة أيضًا، وحماية الأقلية من طغيان الأكثرية بقبول الاختلاف؛ في حين تقوم الديكتاتورية على الطبيعة التوتاليتارية ورفض المختلف. إن الانتقال من الديكتاتورية إلى الديموقراطية هو الانتقال من البدائية إلى الثقافة.

ثمة مليار وثلاثمائة مليون صيني بوذي، ومليار هندي هندوسي، لا يسعنا الادِّعاء بأنهم غير موجودين، وبأن إلههم هو ربٌّ زائف؛ بل إن لهم الحقَّ في أن يعيشوا ديانتهم باعتبارها مطلقًا خاصًا؛ وعلينا أن نعترف بها ثقافة، لأن الثقافة ليست هي التي تشكِّل خطرًا، بل عدم الثقافة (الجهل) هو الخطر.

لقد استقرت البوذية والهندوسية في مدى محفوظ، بعيدٍ جغرافيًّا؛ ولكن العولمة ستقرِّبه أكثر فأكثر. عاجلاً أو آجلاً ستؤدي الكونية إلى احتوائهما، فتزداد مصادر الثقافة تعدُّدًا.

إن المعرفة لا تدعو إلى الخجل. فأن تعرف الأشياء كأنْ تولد معها؛ وأن تعترف بالآخر كأنْ تُبعَث من جديد.

إن مستقبل الشرق كلِّه، بدياناته الثلاث، هو ما يُرسَم الآن. إنه تاريخ عشرين قرنًا، وهو روافد اليهودية والمسيحية والإسلام. هنا يكمن إمكان أن يكون المرء موحِّدًا ومتعدِّد الثقافة، أن يميِّز الإيمان عن السياسة، وأن يطلَّ على دين الآخر باعتباره ثقافة توضِّحه، تعرِّفه به، وتثريه.

الآن، فيما العالم يتحرَّر من حدوده الثقافية، كيف يجد المرء مُرتَجَاه، مع الاحتفاظ بخصوصياته؟ كيف يمكن أن يكون جزءًا من عالم موحَّد ومتعدِّد الثقافة؟ إنه الرهان الإنساني: عالم لم يعد قابلاً للقسمة، يحتاج إلى الثقافة كي يحيا.

مكوِّنات متغيِّرة للثقافة

اخترت هذه المقاطع المتفرِّقة من كتاب بهجت رزق مدخلاً إلى موضوعي. فأنطلق من مفهوم "الهوية المتعددة الثقافة" في مثالها اللبناني إلى تصوُّر موقع عربيٍّ–إنسانيٍّ، في زمن العولمة، والردِّ على سؤال مزدوج: أيُّ دور لأية قضية؟

من خصائص الثقافة أنها، تبعًا لحركيَّتها، تظلُّ مفتوحة التعريف، أبيَّة على التحديد الحصري، لا يصح فيها الوقف، وتتعذَّر نسبتها تجريدًا. فيمكن اعتبارها: مدى التفاعل بين الأرض والإنسان، وتبدُّلات علوم الحِيَل والأحوال، على مرِّ الأزمنة.

ولئن يكن المُعطى الجغرافي، في تكوين الثقافة، ثابتًا مبدئيًّا، فالناس أقوام وأجيال، يتواصلون في وتيرة تصاعدية، يختلطون، يتقاربون مودَّة، أو يتباعدون أفهامًا، ومن كلِّ ظاهرة، أو تحوُّل، إضافة إلى الموروث.

للثقافة مكوِّنات متغيرة، تاريخية وطارئة، هي محكومة بالتطوُّر، في خطٍّ مترجِّح تقدُّمًا أو تراجعًا. ليس الجمود من صفاتها، ولا يمكن أن يكون. فالقول بثقافة صرف الهوية، أحادية المصدر، تعبير غير واقعي. الثقافة ليست سُلالية صافية، بل تلاقحية، اختلاطية; وآية الإنسان قدرته على التواصل العقلاني: يتلقَّى ويفيض، يورِدُ ويُصدِرُ، يكتسبُ معلوماتٍ، يُخزِّنها، يتنامى فكرًا، يتكامل – آيتُه أنه يتثقَّف. في الإنسانية لا عوالم مغلقة، بل ثمة عالم واحد للجميع، متعدِّد، مفردٌ وجمع. كلُّ فَرْزٍ سقوط. التصنيف خطأ، والعزلة انتهاء.

أرجو ألا يُستشَفَّ من كلامي منحًى لتجاوز الأصالة، التي تبقى محور القيمة، بما هي الانتماء البيئي والمجتمعي، التجذُّر تاريخًا، والتراكم حقبًا. نحن نرفض الانغلاق والاعتداد بفوقية واهمة من أضغاث أحلام البدائية. نرفض كليًّا منطق التمييز على أساس العنصر والعرق، اللون والجنس، اللغة والدين، النسب والطبقة – وقد لا يُقاسُ عليها.

يقينًا أننا لا ننظِّر في بيزنطيا. نحن على كوكب بدأ روادُه ينظِّمون رحلات سياحية إلى الفضاء الخارجي، ويبتنون فنادق في مدارات النجوم – وإنه لعصر ترويض المستحيل! فلنصرَّ على العبور إلى القرن الحادي والعشرين والمشاركة في فتوحاته. فالأرض التي كانت، حتى العشية، زوايا وتكايا، قلاعًا وحصونًا ومرابط خيل، باتت، الصبيحة، قرية كونية مكشوفة، حيث يكفي لمس بضعة أزرار داخل حقيبة صغيرة للحصول على ما لا يخطر في بال شهرزاد، ولا تخيَّله جول فِرْن.

في العام 1899 أجرى ماركوني، الإيطالي الذي عاش في إنكلترا، أول اتصال لاسلكي عبر المانش. وفي العام 1931 أدهش العالم بإضاءة نصب السيد المسيح على قمة الكوركوفادو في ريو دو جانيرو بالكهرباء، عِبْرَ الأطلسي. ومنذ أسابيع، حقق علماء من جامعة لندن ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT أول ملامسة بالأنامل، على بعد آلاف الأميال الفاصلة بين الموقعين؛ إذ قام عالمان، كلٌّ من طرف، بإمساك مكعَّب على شاشة كمبيوتر وتحريكه معًا بواسطة قلم بصري stylo optique-fantôme، وبكبسة بسيطة على الشاشة أحسَّا باللمس من قارة إلى قارة، كما لو كانا يتصافحان مباشرة.

إن ثورة الاتصال، التي توَّجَها الإنترنت في العقد الأخير من القرن الماضي، مرشَّحة لتتويجات بلا حدود؛ وهي، أيًّا يكن بادعُها، نتيجةُ سعيٍ مشترك دؤوب لا يعرف العصبيات. ومن دواعي الارتياح أن بين فرق العلماء أعلامًا من بني قومنا، اقترنت أسماؤهم بإنجازات مرموقة، وشاطروا زملاءهم الغربيين جوائز نوبل، وأثبتوا القدرة على المشاركة المتكافئة في صُنع مستقبل البشرية.

ثم... أليس أن الستارَ الحديديَّ قد انهار، وسقط جدار برلين، وأن البرامج المشتركة بين ما كان شرقًا وغربًا لا يجتمعان أقامتْ في السماوات محطاتٍ وعلَّقتْ أقمارًا؟ إنه الإنسان الطامح إلى الإنسانية، المنطلق، بنعمة ربِّه، إلى كشف كونه الأرحب. هذه الصفحة الجديدة من كتاب المعرفة الإلهية لا يمكن لأحد أن يقرأها منفردًا. يقينًا أن لا اكتمال لأحد في ذاته. الآخر هو المكمِّل. لا سبيل غير الانفتاح، ولا نهج إلا المشاركة في الحق: "ولو شاء ربُّك لجعل الناس أمة واحدة".

ونقول: لا شعب واحد مختارًا؛ لا أمَّة كلها أخيار، فوق الأمم تباهى وتختال؛ ولا أمة كلها أشرار، تنحطُّ أبدًا وتنهار؛ لا دولة يحقُّ لها احتلال وهيمنة واستعمار، أو سلطة يُقبَل منها استكبار، ولا استضعاف ولا استقواء، أو يباح لها انتهاك وقهر ونهر. فالإنسان حرٌّ، حرٌّ، حرٌّ. وحرِّيته سبيل إنسانيَّته، عالميَّته وكونيَّته. وليس أحدٌ مخوَّلاً تصنيف الناس، وفرز الأقوام، وانتحال صفات الديَّان!

وبعد: ماذا لدينا، فنقدِّمه إلى العالم؟ وماذا نرتجي منه؟ لدى العرب الكثير من مخزون القيم، ما يحتاج إليه العالم. لديهم غير منابع النفط، وواحات النخيل، ومساحات الكثيب، التي يأتي الآخرون في طلبها، ولا ينتظرون من يسوِّقها، فتُستهلَك وتجف. أرض العرب مهدُ الرسالات – وصايا، وبشارة، وتنزيلاً – ولغتهم أحلى اللغات وأغناها: مرنة في استنباط الكلم، رحبة لاحتواء بِدَعِ الأمم. فنحن عرب في حلبة الثقافة؛ وقد نقول، من غير ادِّعاء: إننا مثقفون عرب.

لكن الثقافة لا تنكمش. كلُّ تعبير أو مصطلح يفيد الانفراد، أو يوحي بالعزلة، يناقض الثقافة – على أن تبقى العلامات الفارقة في التفصيل تعكس تجارب تتفاوت نوعًا وحجمًا. إن العرب يُطلِّون على العالمية من موروث راهن، ولغة عبقرية، نعلنها دونما اعتداد ومن غير تواضع. فما هو محتوى تقدماتنا؟ لغتنا أول مكوِّنات ثقافتنا وحاملتُها; والدين جوهري، إلى روافد موضوعية: الأدب والشعر، الموسيقى والغناء، الرسم وسائر الفنون الجميلة، حتى المأكل ونمط العيش.

اللغة والدين

في التفاتة أولى، يبدو الاختلاف بين مصادر ثقافتنا العربية ومصادر الثقافات الأخرى بارزًا في مظهرين أساسيين: اللغة والدين.

لغتنا واحدة وثقافتنا متعددة. إننا ننطق، إلى لغتنا الأم، لغات أخرى. فلسنا في موقف رفض مبدئي، عفوي، لأحد، أو استبعاد لأية معلومة. وكم نأسف على زمن كانت فيه رجعياتُنا الانهزامية تمزِّق صفحات من القواميس والكتب لورود اسم محظور، أو دراسة في موضوع قرَّر بعض الأوصياء القاصرين أن جهلَه خيرٌ من علمه، فَسَرَتْ عليه مقاييس مُقاطعة غبية، ما برحنا نعاني نتائجها، كأنما لم نسمع بالقول الشريف: "اطلبوا العلم ولو في الصين"! لغتنا الأم مفخرة الأبجديات. هذه الضاد، قبل السؤال: كيف ننشرها في الدنيا؟، لنحمِها، أولاً، من أهلها؛ لنردَّها إلى عزِّها؛ لنعيدنَّ اعتبارها؛ لنتعلَّمنَّ أصولها؛ ولنعمِّمنَّ قواعدها في بلداننا؛ لنُلزِمنَّ ذويها احترامَها، ونشترطنَّ على الحكَّام إتقانها، ونمنعنَّ الخطابة على مَن ألْحَنَ أو رَطَنَ، ونراقبَنَّ ترجمات النصوص، فلا ندع الصحائف والشاشات تعمِّمُ الأخطاء، ولا نسمح للمنابر أن تُثبِّت الجهالة!

على الدول العربية أن تبدأ بنفسها، فتُولي لغتَها الاهتمام الكافي، بوضع كتب وبرامج مبسَّطة للقواعد وإعداد معلِّمين مؤهَّلين لتطبيقها. فليس المطلوب من الجميع أن يكونوا نُحاة. يكفي أن تكون ثمة مراجع صحيحة، ومرجعيات كفيَّة، ولا يستمر الهرب من العربية بحجة أنها "صعبة" أو غير صالحة لمواكبة علوم العصر. أليس مخجلاً أن نرى متشرِّقين يتقنون العربية، بينما معظم العرب عازفون عنها؟ فكم خطأ يُحصى في البيانات والتقارير الرسمية والمراسلات الحكومية، حتى والنصوص التشريعية، كأن لا أحد يهتم! إن اللغة العربية منكفئة في المجال العلمي. فهل المطلوب أن نُعرِّب العلوم؟

ثمة أسباب راهنة لالتماس العلوم بالإنكليزية والفرنسية – ذاك أن الذين وضعوا العلوم وألَّفوا فيها هم من الدول الناطقة بتينك اللغتين، من غير أن نُغفِل إنجازات بلغات أخرى. ليس المهم أن يتم الاتصال مع العالم بالعربية، بل أن نحفظَ لغتنا عندنا، أن يحتضنها مائتا مليون من أبنائها. ولا حرج في الإقبال على اللغات الحية توثيقًا للاتصال. لقد مررنا بزمن رفضٍ حُكميٍّ تجاه الآخر – الرفض القوميِّ والرفض اللغوي، مع الإصرار على تعريب كلِّ شيء. كان ذلك ردَّ فعل سياسيًّا في مواجهة غزو استعماري وهجمة أجنبية. لكن الفعل المرتجى هو شيء آخر.

ليس لدينا ما يضيرنا فنخفيه. كلُّ البشاعات المعزوَّة إلينا افتراءٌ تعزِّزه تصرفات منسوبة إلى شريعتنا، وهي منها براء. حقيقتنا مدعاة اعتزاز، وتاريخنا مُفعَم بالمعالم الحضارية. علينا أن نُظهِر حقيقتنا. إن شعوبنا، بتعدِّد أديانها، قادرة على التعايش. وقد فعلت ذلك مدى قرون طويلة، ولا تزال. فكيف نسمح بالتشكيك في ذلك؟

يجب، أولاً، إظهار حقيقة الدين الإسلامي. يتحتَّم تصحيح الفكرة التي أشاعها مغرضون والانطباع الذي أعطتْه ممارساتٌ جاهلة. إن الإسلام، على غرار المسيحية، لم ينقض ما سبقه من الأديان؛ فلماذا التقصير في إظهار هذا الوجه المضيء؟ بل لماذا السماح بإظهار العكس، وكأن الإسلام يُبيِّت العداء والكراهية للأديان السماوية، وتحديدًا للموسوية والمسيحية؟ وكأن بين الأديان صراع بقاء، ولا فرصة للتعايش!

المرء عدوُّ ما يجهل، ومَن يجهل. فلنبدأ بالمعرفة؛ ثم التعريف. علينا، أولاً، أن نعرف لغتنا، نطلَّ بها لغةَ ثقافة؛ فضلاً عن أنها لغة التنزيل، التي اصطفتْها النصرانية قبلاً. ولنعرف أدياننا، كلٌّ دينه، فندرك المثل والقدوة، ونكون النموذج لتعايش الأديان، بدلاً من الاستسلام لصراع الحضارات.

قيم الروح

نحن نرفض مقولة الحتمية: مواجهة ضارية وشرسة بين الأديان؛ نرفض الأصولية التي تنقض الأصل، سواء سُمِّيتْ "صليبية" أو غزوات "جهادية". وعلينا أن نعطي البرهان على صدقنا. ودعونا نختصر الشروح بمثلٍ على تلاقي الأديان السماوية، الجوهري والعملي، في عبارات قلائل، بدءًا بالإسلام، دين الأكثرية العربية: "الدين المعاملة"؛ "لا إكراه في الدين"؛ "وقل اعملوا..."؛ وفي الموسوية: "لا تعمل بغيرك ما لا تريد أن يعمله بك"؛ وفي المسيحية: "اعمل بغيرك ما تريد أن يعمله بك."

وفي الأديان الثلاثة الوصايا العشر نفسها، والعبادات ذاتها، ويوم الربِّ أيضًا، وإن اختلف اسمًا وترتيبًا؛ ومرجعها إله واحد، ضابط الكلِّ، رحمن رحيم. فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. المسيحية لا تصنِّف، والإسلام لا يفاضِل: "لا فضل لعربي على أعجمي"؛ "أحبِبْ قريبك كنفسك". وتذهب المسيحية إلى المغالاة: "أحبب عدوَّك، أحسِنْ لمن أساء إليك"؛ "اغفر لنا خطايانا كما نحن نغفر لمن أخطأ إلينا". ويتلاقى الجميع في التوبة، يلتمسون مرضاة الديَّان، يهفون إلى الجنان! الاختلاف في الجانب الدنيوي وشكليات التطبيق لا يُبطِل الائتلاف في قيم الروح.

يلحُّ على أن ثمة رسالة عربية مغيَّبة يتحتَّم أداؤها: المعرفة والتعريف. ليس لأحد، من خارج الإسلام، أن يشرح حقيقة الدين الحنيف، أو يجتهد تطفُّلاً. يكفي إظهارُها للعالمين ممارسةً حية تدحض التشويهات. يجب أن يعرف كلٌّ دينه، ويعيشه، ولا يعطي عنه صورًا مزيفة وأفكارًا خاطئة. فالمفروض حماية الأديان كلِّها من أدعياء التديُّن، والعودة إلى الإيمان، والكفِّ عن التعصُّب. التزمُّت انتقاصٌ للدين. الانفتاح وحده يعبِّر عن حقيقة الرسالات السماوية. يقتضي منع الخلط بين الدين والسياسة. الحقيقة رائعة ويجب إبرازها، ومريضٌ كلُّ تفكير يجتهد في تزييفها، وفي توريط العالم في مواجهات عبثية تؤدي إلى نتائج عكسية مدمرة! ما من دين أباح القتل؛ فكيف صار القتل شريعة؟ وأي تزوير للمسيحية هي الصليبية؟ بل أي افتئات على الإسلام هو الإرهاب والتنجُّس والتقوقع! ونقول أكثر: أية بدعة في الموسوية هي الصهيونية العنصرية والعدوانية؟ أليس أن كلَّ مؤمن مدعوٌّ، أولاً، للارتداد إلى دينه؟ فيسقط العداء وينتهي الصراع بين بني آدم وبني إبراهيم، وتسود العدالة ويعمُّ السلام!

موضوعنا – وعسى أننا لم نخرج عنه كثيرًا – يولينا مهمة بيان "التعاون بين السلطة والمثقف لنشر الثقافة واللغة العربية"! للوهلة الأولى، يبدو هذا الطرح آتيًا من خلفية التسليم بفصل السلطة عن الثقافة، كأن ثمة تمانعًا بينهما. أي أن تكون في السلطة يعني أن لا تكون مثقفًا؛ أو: أن تكون مثقفًا يعني أن تبقى خارج السلطة. فهل حقًّا أن الثقافة تشكِّل عائقًا لتولِّي الأحكام؟ لا أظن هذا المنطق مقبولاً، وإن كان منطبقًا على الحالات الرائجة. فالثقافة ليست مجرد موظَّفة أو أجيرة عند السلطة؛ كما أن السلطة لا يمكن أن تكون، لمجرَّد وجودها في موقعها، وليَّة أمر الثقافة. وأجازف بالقول إنه، في مقاييس الحضارة، الثقافة هي أول شروط استحقاق السلطة. والمؤسف أن يكون على عاتق المثقفين، أبدًا، ترميم ما يحطِّمه المتسلِّطون وتجميل ما يشوِّهونه. فكم عصر ظلام أضاءه أهل الكلمة والريشة والإزميل!

هذه مقاربة قد تُعزى إلى السياسة – وهي من محرَّمات الزمن العربي، حيث يتوارث الفراعنة والأكاسرة والقياصرة، ولو انقلابيين وغاضبين، من غير أنساب، رقبات الأرض ورقاب الناس! وحيث الحكم كلُّ شيء إلا الشورى! فمن تراه يستطيع أن يقدِّم نصيحةً عن كيفية نشر الثقافة إلى من يزجُّ المفكرين في السجون، ويُصدِر أحكامًا بمنع الكتابة، وحظر النشر، ومصادرة الكتب؛ يَعقُلُ الألسنة، يُعطِّلُ الصحف، يختمُ دور الإذاعة ومحطات التلفزة بالشمع الأحمر، ويلاحق التفكير بالتكفير؟

إننا ندعو إلى الثقافة، أولاً، ونحث شعوبنا على رفض ولاية غير المثقف، وعدم المساومة على حقِّها المطلق بالمعرفة والرأي. فعبثًا نأتمن من يُكسِّر الألفاظ، يصفع الأسماع بالهجين، يستعدي الأدوات على الأفعال، ويضرب الحروف بالأسماء، على نشر لغة لا يعرفها لأنه لا يحبها، ولا يحبها لأنه لا يعرفها!

لغتنا مزدوجة القدسية: نقرأها تنزيلاً وصلاةً، ونكتبها أدبًا وشعرًا وعلمًا. اقرأ، اكتب... اكتب، اقرأ! لغتنا حاملة ثقافتنا، على أنها، في البدء، من مكوِّناتها؛ ولن نرتضي الإمعان في استباحتها. ففي بعض مذاكرتنا وأهل الكلمة تداولنا فكرة إنشاء جمعية لحماية الفصحى من المُعْجِمين، وتحريم نشر النصوص الركيكة والترجمات العابثة بالقواعد، وحظر المنابر على الدخلاء، ومنع الدعوة على الأدعياء. وذهب بنا التفاؤل إلى وجوب فرض شرط معرفتها وإتقانها على كلِّ مسؤول، وإخضاع مَن فاتهم علمُها لتأهيل إجباري، علَّهم يجنِّبون تلامذة الصفوف الابتدائية الحيرة في مَن يصدِّقون: معلِّم المدرسة أم نجوم الشاشات الصغيرة! فلفرط ما هي مخجلة جهالةُ لغتنا، في أعلى مستوياتنا، ومخزية، قد نستأذن محفلكم الرائد لاقتراح إنشاء اتحاد عربي لجمعيات حماية الفصحى، على امتداد دولنا. وعسى أن هدير الأمواج، وصيحات الثورات، وتدافع حديثي النعمة إلى صدارة المجالس وتسابقهم على الألقاب، والتذرُّع بالمؤامرات لتسويغ الانقلابات، واحتكار السلطات، مع ادِّعاء التحرُّر لخنق الحريات – عسى كلَّ هذا اللغو لا يحجب هتافنا من الأعماق:

حيِّ على الثقافة، حيِّ على الضاد، حيِّ على الحرية والديموقراطية، حيِّ على الإنسانية وحقوق الإنسان، حيِّ على السلام، حيِّ على عَمَّان.

*** *** ***

عن النهار، الجمعة 13 كانون الأول 2002


* ألقيت هذه الكلمة في 12 كانون الأول 2002 في المؤتمر المنعقد في الأردن حتى 14 كانون الأول 2002 في إطار "عمان عاصمة ثقافية عربية" الذي شارك فيه مفكرون وباحثون وأكاديميون من كلِّ أنحاء العالم العربي.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود