دمشق، الجراح وقاسيون وتسنيم

 

أدونيس

 

تحية إلى محمد علي الأتاسي

 

-       "النهارُ، كلُّ نهارٍ معركة. بدءًا من شروق الشمس"، يقول ماسح الأحذية، الأسمرُ الشابُّ الآتي...

-       من الجنوب؟

-       "لا. من الشمال."

ويتابع:

-       "ولا ضمانَ في هذه المعركة. أنتَ وحظَّك."

*

في المقهَى، صباحًا.

النهار كمثل رسَّامٍ، والوجوه الدفاتر:

وجهٌ يبدو كأن صاحبَه مجرَّد عينين وأذنين، يراقب ويَتَنصَّت.

وجهٌ كأنَّ صاحبَه يرفض أن يروِّض الحيوانَ الذي فيه.

وجهٌ فأرةٌ تحت إبْطِ المقهى.

وجهٌ فأسٌ في جسد المقهى.

*

ما الذي يميِّز الإنسانَ عن بقية الكائنات؟

أرسطو: النطق (الإنسان حيوانٌ ناطق).

ديكارت: الكلام.

رابليه: الضحك.

بريا–سافاران: القدرة على تَقْطير الأشربة من الثمار!

بومارشيه: شرب الماء دون عطش، والممارسة الجنسية الدائمة.

فاليري: القدرة على صُنْعِ عُقْدة!

تذكَّرتُ هذه التحديدات التي يرى أصحابُها، كلٌّ من وجهة نظره الخاصة، أنها هي التي تميِّز الإنسان عن بقية الخلائق، فيما أتجوَّل في الحميدية وما حولها، وحدي – ظهرًا. وقلت في نفسي: استنادًا إلى البشر الذين أراهم، أو أتحدَّث معهم، أو أصغي إليهِم، أجد أن هذه التحديدات لا تحيطُ بالكائن البشري.

الأرجح: يستحيلُ تحديدُ هذه القامة شبه المخروطية، شبه المستطيلة، والتي تُسمَّى الإنسان.

*

... وليست المسألة، بالنسبة إليَّ، يا محمد علي الأتاسي، في التجاوز الدائم للذات، كما يعلِّم نيتشه، والمتصوِّفون قبله، أو في الابتكار المتواصل لكلِّ خطوة نخطوها.

المسألة هنا هي، على العكس، في إرادة الإنسان، ذكرًا وأنثى، أن يحافظ على حياته، على استمرارها، على مجرَّد استمرارها، حتى في التعثُّر، والتخبُّط، والشقاء، واليأس.

أوه، ما أشقى الإنسان الذي يعيش في آلةٍ متنقِّلةٍ من المشكلات، بين شروق الشمس وغروبها: الماء، الهواء، الضوء، الخبز، التنقُّل، السكن، المدرسة، الجامعة، إلخ. من أين لمثل هذا الإنسان الوقت الذي يُتيح له أن يحسَّ بذاتيته؟ أن يتأمل، ويقرأ، ويحبَّ، ويحلم، ويخطِّط للمستقبل؟ وقبل ذلك علينا أن نُدهَش من قدرته على الحياة – مجرَّد الحياة – في قلب هذه المشكلات اليومية، وفي دوَّامتها.

البناء هنا هو نفسه ليس بناءَ تخطيط، أو بناءً على قاعدة. إنه بناءُ إنسان عابر في صحراء. بناءٌ في الفراغ.

وما أوسع هذا الفراغ!

*

أمام الحاضر وظلماته،

أمام المستقبل ومجهولاته،

ليس لكَ إلا أن تَنْحَتَ حياتكَ. أن تنْحتَها يومًا يومًا. دقيقةً دقيقة.

*

بلى، أحبُّ أن أسيرَ، غُفْلاً وغيرَ مرئيٍّ، بين الجموع في الشوارع. أن أصغي إليهم – إلى تأوُّهاتهم، وتساؤلاتهم، وغمغماتهم. أحبُّ أن أنظر خصوصًا إلى وجوه الأشخاص الذين تبدو عليهم آثارُ الشيخوخة، رجالاً ونساءً. عن أيِّ شيء يبحث هؤلاء؟ عن السعادة؟ وما تكونُ، الآن، بالنسبة إليهم؟ عن العمل؟ لكن، أهناك عمل؟

وما هذه الكيمياء الخفية التي يملكها بعضُهم، والتي تقدر، في لحظة، أن تحوِّل جراحهم إلى ينابيع من الأمل؟

*

كلا، لا أرغم أن لديَّ معرفةً كاملةً بأيِّ شيء. ولا أدَّعي أنَّ لكلامي وقْعًا سحريًّا أو تأثيرًا في سامعه أو قارئه. وأنا ممَّن يقولون إن الكلام، مهما كان جامحًا، يظلُّ عاجزًا عن الإحاطة بزلازل الوجود. كيف يستطيع الكلامُ أن يلبس العذاب الذي يعيشه جائعٌ، أو مشرَّد، أو سجين؟ كيف يستطيع أن يتطابق مع فاجعة إنسانٍ فَقَدَ أقرب الناس إليه؟ أو مع حالة امرأة تعيش على هامش جنسها، وحيدةً، في عزلة كاملة؟ أو مع حالة رجل يشعر أن الحياة عبءٌ مريعٌ لا يقدر أن يُزيحَه غيرُ الموت؟

*

لا أشكو. لا أنتقد. ولا أطلب شيئًا.

ليس لأنني في غنى عن كلِّ شيء. بل لأنني لا أوقنُ بأية قدرة يمكن أن تلبِّي ما أطلبه. بالأحرى: ما أطلبه "جَلَّ أن يُسمَّى"، وفقًا لعبارة قائدِنا وسيِّدنا، المتنبي.

إنما أُلاحظ، وأُعاين، وأشهد، لكي يحقَّ لي أن أسأل: لماذا يأخذني المنفى؟ ولماذا أضطرب كلما وجَّهتُ وجهي إلى دمشق؟

دال ميم شين قاف، –

أغنِّي الموسيقى التي تتموَّج في هذه الحروف،

أغنِّي الصوت الذي يمتلئ بِصَرْفِها ونَحْوِها، بتصاريفها واشتقاقاتها،

أغنِّي الضوء الذي يتوهَّج فيها، والفضاء الذي تسيل فيه،

أغني مجرَّد الاسم، مجرَّد اللفظ، مجرَّد الشكل – ذلك أنني، في هذه اللحظة، صديق السراب.

ولماذا لا أضيف لنبع الأسطورة ماءً آخر؟

ولماذا يأخذني المنفى؟

ولماذا أضطربُ كلما وجَّهتُ وجهي إلى دمشق؟

*

لكن، ما تكون دمشق، يا محمد علي الأتاسي؟

أهي مجرد الركض ومجرد النوم؟ أهي الصراخ، المهلِّلُ أو المريرُ، العالِق في حنجرة الفضاء؟ أهي قشرة الذهب، وصدأ الفضة؟ أهي الحَفْرُ والنَّبْشُ، وهلَعُ الشارد في المتاهات، في معارض الظنِّ، في مناجم الرمل؟

وأَصْغِ: كلُّ شجرة آهةٌ، وكلُّ جدارٍ يَنْضَحُ بالسؤال.

وأسْتَشْرِف: ليلُ الورق عَطَشٌ إلى حِبْر المعنى،

وهيهات هيهات أن يرتوي.

-       من أين يجيء هذا الفلاح وينثر كلماتِه في شوارع دمشق؟

من أين يجيء هذا القروي الذي يعيد النارنج الدمشقي إلى رحيقه الأول؟

-       كلا، لم تكن الغُوطَةُ أكثر من جرحٍ مفتوحٍ في كلِّ شريانٍ من شرايينه. ولم يكن قاسيون إلا زفرةً عاليةً تتصاعد من أعماقه.

تَسنيمُ،

هاتي طبقَ أعشابكِ، وضَمِّدي جراحَ العاشق.

*

ثمَّةَ امرأةٌ تنتحبُ في طيَّات كتابٍ، في حروف اللغة، شمسيَّةً وقمريةً. تنتحب وتتمزق.

ثمَّة حارسٌ يمتشِق سلاحه بين الكلمة والكلمة.

ثمَّة راعٍ يطوفُ لا يعرفُ أن يَرْعى غير الأشلاء.

يا محمد علي الأتاسي،

مَنْ قال لك: السماءُ امرأةٌ، والأرض حُقولٌ من الحبِّ؟

*

الغبارُ يلتهمُ المارَّة،

غبارُ الذهب، غبارُ الفضة، غبارُ العالم.

الغبارُ يقرع أجراسه في حقائب العائدين، والمهاجرين، وثمَّة بردٌ يكادُ أن ينفجر منه حتى جسد الشمس.

-       أيها الشارع–المُشتَرِع،

أهنالكَ سياسةٌ يمكن وصفها بأنها "عدمية"؟ سياسةٌ تقوم حصرًا على متعة السلطة وشهوة المُلك؟ ويكون الإنسان في هذا الشَّرع–الشارع مجرد أداةٍ لإرادة القوة؟ سياسة تتوالد ذاتيًّا وتلتهم ذاتها في آن؟ سياسةُ عالَمٍ يهدم نفسه فيما يَبْنيها؟ سياسة "ما بعد حداثية"؟ سياسة الماضي في أوْج عصره الذهبي؟ سياسة "تعمل" كثيرًا كثيرًا، و"تفكِّر" قليلاً قليلاً؟ سياسة تمنع غيرها من أن يفكِّر فيها أو في عملها؟ و"فَكَّرَ" كلمة تعني، تحديدًا، ""وَاجَهَ"، ولا تعني "وافَقَ" أو "رَضِيَ". لكن، وَاجَهَ" لا تعني الآخرَ وحده، وإنما تعني الذات – وربما، أولاً.

-       ماذا قلت، يا محمد علي الأتاسي؟

يكفي أن تُغرينا، صديقي الشاعر الفرنسي آلان جوفروا وأنا، بزيارة البيوت القديمة في دمشق. يكفي أن تحدِّثنا عنها كأنها أجزاء غالية من حياتك. كأنَّ كلَّ واحدٍ منها البيتُ الذي ولدتَ فيه وترعرعت. يكفي أن تزيد في وجعنا. هذه بيوتٌ لم تَعُدْ لنا. والفنُّ الذي صاغها دَخَلَ في الذاكرة. لم يكن أكثر من شهابٍ شَعَّ في فضائنا فترة، ثم ذهب إلى غيرنا. وتخطَّفتْه الهندسات. إنه الآن فنُّ الآخرين. لم يعد قادرًا أن يحيا إلا بِهِم، وفي ظلِّهم. إنها بيوتٌ لآلئُ فرَّتْ من أيدينا. كلُّ شيء عظيم يفرُّ من أيدينا – حتى شِعرُنا نفسه، هويتُنا الفريدة العظيمة.

خيرٌ لنا، الآن، يا محمد علي الأتاسي، أن نزور أمكنةً أخرى. أن نتحدث، مثلاً، مع قبر معاوية، الخليفة، المؤسِّس – هذا إذا حَظِينا بمَن يعرف مكانه، أو بمَن يعرف أن يدلَّنا عليه. أذكر أنني ذهبت إليه، مرة، في أواسط السبعينات، ولم أكن دخلتُ دمشق منذ عشرين عامًا. غير أن الطريق التي قادتْني إليه، بعد عناء طويل، كانت صعبة ومعقدة. لم أعد أذكرها، أنا نفسي. مع ذلك، لنحاول.

قبرٌ–سرٌّ.

كم هو متَقلِّبٌ وجهُ التاريخ.

*

ويا محمد علي الأتاسي،

لا تزال أهراءُ الوقت طافحةً بالأظافر. وها هي أطيافُ التاريخ تتطاير كمثل أجنحة سوداء في فضاء الشوارع. وها هو الصمت المنغمس في طَشْت العادة يرفع بيارقَهُ من جديد (العادة جرثومةٌ بين فخذيها مسمارٌ ذكوري). وها هو الشارع لا يتذكَّر إلا شهبَ الصهباء التي تنعصر بين أقدام العُشَّاق، وتختبئ في جِرار الأصدقاء.

-       قُصُّوا إذن أجنحةَ شهواته. اتركوه كمثل نَخْلةٍ تتعصَّف وحيدةً في صحراء اللغة.

إذا ما نديمي علَّني، ثمَّ علَّني

ثلاث زجاجاتٍ لهُنَّ هديرُ

خرجتُ أجرُّ الذَّيْلَ تيهًا، كأنني

عليك، أميرَ المؤمنين، أميرُ

(الأخطل، مخاطبًا عبد الملك بن مروان.)

*

لم يعد لدمشقَ أبوابٌ. تفجَّرتْ، فائضةً عن حدودها. صارت الطبيعةُ كلُّها أبوابًا لها.

*

لكلِّ شريانٍ في داخل دمشق وريدٌ في الخارج. الحدودُ بينهما تتلاطم. والشواطئ تتَّسع، ضاحية، ضاحية.

*

البيوت سلالمُ تتَّكئ على قاسيون. لن يكون رأسُ هذا الجبل أكثر من خيمة تعلو في ضباب النظر. تمرُّ بها قوافل النجوم.

*

دمشق – المدينة الجالسة في قوس لا تنحني إلا بين يدي السماء.

*

زُرْ دمشق خياليًّا، لكي تقدر أن تزور واقعها.

تنشَّقْها أولاً، لكي تعرف كيف تلمسها.

*

دمشق – عبلة الخوري، وخالدة، والقروي العاشق الذي لا يزال يحمل في جسده ذاكرة القبْو الرطب في القصَّاع، القبو الذي أمضى فيه بعض سنواته الجامعية،

وبردى، حيث مَزَّقَ هذا القروي أولى رسائل حبِّه، ورماها إلى مائه المتدفِّق، غيرَ بعيدٍ عن مقهى الهافانا، من على الجسْرِ الذي أسَرَّ إليه أحزانَه.

*

من يقدر أن يكتب لدمشق "نشيدَها"؟

لا الذاكرة، لا الحاضر.

هل أسألُ الممكن–الافتراضيَّ؟

*

أحببت، هذه المرة في دمشق، أن أثرثر – أنا المتَّهمَ بالصمت. أن أُطْلِقَ لساني، كما تشاء الضرورة حينًا، وكما تشاء المصادَفَة حينًا آخر. أحببتُ "أن أكون ثرثارًا لا ينضب"، كما يقول ديوجين، واصفًا أفلاطون. أن أتحدث مع كلِّ شيء. مع كلِّ شخص – مع بائع القهوة المتجوِّل، مع المؤذِّن، مع الشرطيِّ، عاشق الشمس والغبار والريح، غصبًا عنه. مع امرأةٍ محجَّبة، أو نصفِ محجَّبة، أو بلا حجاب. مع بوابة الجامع الأموي، وساحته، وجدرانه. مع الأعمدة الوثنية الباقية أمامه. مع رأس يوحنا المعمدان. مع قبر معاوية. مع كلِّ شيء. مع كلِّ شخص.

*

-       ليلٌ: ليس في خزائنِهِ غيرُ الكلامِ على تنقُّلات الشُّهُب.

*

-       في العرب أنفسهم، يكمن الخطرُ الأول على العرب. وهو ليس مجرَّد خطرٍ سياسيٍّ. إنه خطرٌ مصيري.

*

-       يكاد أن يكون للطغيان والعنف والظلم في حياتنا وفكرنا مذاقٌ روحاني.

*

-       نتفقَّه، ونحسب أننا نفكِّر. تحت سقف أبوَّةٍ نقلية. في سلسلة نَسَبٍ يَرْتبطُ فيها اللاحقُ بالسابق ارتباطَ خضوعٍ وتبعيةٍ واقتداء.

لا فرادة. بل انصهار في "نَحْنُ" – مجرَّدةٍ، وجَرْداء.

-       الدين؟ طبعًا. هو، في آنٍ، من الطبيعة ومما وراءها. الكتابة التي تُغيِّبُ الانغمارَ في الغيب ومشكلاته تغيِّب الطبيعة وما وراءها. ألن تكون، إذن، هي كذلك، مجرَّدة وجرداء؟ ألن تخونَ الغيبَ واللغة والإنسان – ألن تخونَ الطبيعة؟

-       ذلك أن الكتابة مسألةٌ تتجاوز مجرد استخدام الكلام. ليست تصنيفًا، أو تبويبًا، أو ترتيبًا. إنها مسألة وجود. ومسألة صيرورة. دمٌ ثانٍ. رئةٌ ثانية. وهي لذلك تفجيرُ وَعْيٍ، إضافةً إلى كونها تفجير لغةً. تجاوزٌ دائمٌ لحدود الممكن. وهي، وحدها، التي تحوِّل الجسدَ–القبرَ إلى جسدٍ–بُرْكان.

دون ذلك...

-       دون ذلك، لا يُهيمن على المدن العربية غير الذين يقودونها كما تُقَاد النعاج. ينذرون حياتهم وأعمالهم وأفكارهم لشيءٍ واحد: صناعة الطغيان – أعني إحلال "المصنوع" محلَّ "المطبوع". يحصرون همَّهم في قتل كلِّ ما هو طبيعي. يحوِّلون مُدُنَهم إلى ممالك للقسر، والإكراه، والعنف. ممالك–مقابر.

-       هكذا، علينا أن نمارس الكتابة بوصفها فعلاً "جُرْمِيًّا": نَقْضًا، وهَدْمًا. الكتابة التي تزلزل أُسُسَ الطغيان في مختلف أشكاله وتجلِّياته، سواءٌ في القيم، أو التقاليد، أو الأعراف، أو العادات، أو المعتقدات – الحُجُب التي تلتصق على أجساد المدن العربية كمثل طبقات كثيفة من القشور. الكتابة التي تقتلعُ هذه القشور، لكي يظهر النسغُ الحي. الكتابة التي يبدو فيها العالمُ كأنه في حالة دائمة من التكوُّن والتجدد – بلا نهاية.

*

أكرِّرُ اعترافي لدمشق:

لا أحب الكتابة السهلة الهضم، أو التي تُقرَأ لتسهيل الهضم. لا أحبُّ الكتابة التي تقدِّم نفسها بوصفها الدواء. الكتابة "المنشِّطة"، "المنعشة". لا أحب كتابة "المتأدِّبين"، "المصلحين"، "المتصالحين" – أصحاب "الرسالات". لا أحبُّ الكتابة–البكاء، والشكوى، والنحيب، والانزواء، ورؤية الذات منكوبةً معذَّبةً، لا يشغلُها إلا أن تبرِّئ نفسها، وتتهم الآخرين.

أحب، على العكس، الكتابة–الطاقة، الكتابة–الفضاء. حيث يتآلف/ يتصارع إيقاعُ اللغة، وإيقاع الجسد، وإيقاع العالم. حيث تَتَمَسْرَح أعضاءُ الجسد في بيت اللغة، وتَتَمَسْرَحُ اللغة في بَهْو العالم. الكتابة–المسرح الشامل، حيث تَنْعَرِضُ الأشياءُ والأفكارُ بتناقضاتها وتمزُّقاتها – سواء ما اتَّصَلَ منها بالأخلاق والقيم العامة، أو بالتاريخ والتراث، أو بالجسد وأهوائه، أو بالفكر وصبواته.

*

قل لي، يا محمد علي الأتاسي،

هل كان قسمٌ من "الجمهور" الذي حَضَرَ قراءاتي الشعرية في دمشق، خصوصًا، آتيًا لكي يتعرَّف عليَّ، لكي يراني، أكثر مما كان آتيًا لسماع الشعر؟ هل كان آتيًا، في المقام الأول، لكي يشاهد عن كَثَبٍ ذلك الشخص الذي ضاق به صدرُ "اتحاد الكتَّاب العرب" في دمشق، على "رحابته" في الآراء ذاتها التي "طَرَدَه" من أجلها؟

(لكن، كانت تَسْنيم حاضرة، هي كذلك، في أفقٍ آخر.) في كلِّ حال، كان جمهورًا مفاجئًا، لي على الأقل. وكنت، فيما استرقُ النظرَ إلى كثير من الوجوه الحائرة، أشعر أن أسئلة كثيرة تعتمل في نفسي. وكم وددتُ لو أقدر أن أطرحها عليهم:

أبَيْنَ هؤلاء الحضور من يحبُّ أن يوجِّه أسئلة إلى السماء، أو إلى الزمان والمكان، أو إلى الجراح التي لا تشفى، أو إلى الحياة التي تتحوَّل أحيانًا إلى شكلٍ آخر من أشكال الموت؟

أبينَهم من يخاف من الحرِّية خوفَه من السجن؟ مَنْ يخشى الحياة خِشْيَتَه الموت – فيحيا شِبْه ميْتٍ، ويموت شبهَ حيٍّ؟

أبينَهم من يحسُّ أن الفضاء ضيِّقٌ عليه، وأنه يكَاد أن يختنق؟

أبينَهم من يؤمن حقًّا أن الغاية القُصوى هي الإنسان وحرياته وحقوقه، وأن كلَّ شيء يجب أن يوجَّه لكي يخدم هذه الغاية، ولكي يُحقِّقها؟

ولعلِّي نسيتُ نفسي في غَمرة هذه الأسئلة. ربما لهذا استرسلتُ في القراءة، ناسيًا كذلك الحضور والوقت، فأرهقتُ نفسي وأرهقتُهم – مُطيلاً القراءة، أنا البخيل فيها حتى التقتير.

عذرًا عذرًا. للحضور بعامة. لتسنيم بخاصة.

*

قل لي، يا محمد علي الأتاسي، أيها الصديق الذي يعلو بالصداقة إلى ذُرواتها، لماذا لا يشبع النظرُ من رؤية سوق الحميدية والأسواق الصغيرة المتفرعة والمجاورة؟

وأودُّ، قبل ذلك، أن أخبرك أنني زرت أمس تكية السلطان سليم. وخُيِّلَ إليَّ أنني جلست مع مهندسها وبنَّائيها، نشرب القهوة ونتحدث. وأنهم جميعًا رفضوا أن يَنْضمَّ إلينا ذلك الشيء الذي أسمِّيه السلطان سليم.

*

جمالُ دمشق؟

سأكتب رسالةً إلى دمشق الأخرى، تسنيم، أرجوها فيها أن تجيب عن هذا السؤال:

"بأيِّ سرٍّ يحوِّلُ الحزنُ أيامَكِ إلى حدائقِ ياسمينٍ، وَوَرْدٍ جوري؟"

*

-       مَنْ أنتَ، أيها العابر الذي لا يريد أن يرى في الأسواق الدمشقية القديمة غير البهاء المعماري، وإلا عِطرًا يَعبُرُ القارات؟

*

آهِ، أيها الهبوبُ الغامض الذي يُسمَّى الكارثة!

*

وماليَ، في هذا الهبوب الكارثيِّ، أرى أشياء كثيرة في دمشق والمدنِ العربية – إلا شيئًا واحدًا: هبوبَ الأسئلة وانفجارَ المعنى؟

*

مًدُنٌ – لا تُعنى أيٌّ منها إلا بأمرٍ واحد: أن يكون "كَبْشُ فداءٍ" حاضرًا دائمًا، أمام كرسيِّها العالي، بين يديها العاليتين.

مدنٌ – لا يَلْتَصِقُ رأسُ أيٍّ منها، بين كتفيها، إلا بصمغِ السلطان.

*

نعم، أحلم بالتغيُّر. وعندي هاجسٌ دائمٌ: التحول الدائم. غير أنني لا أُشاغِبُ، لا أثيرُ فتنةً. لا أسبِّب أذًى. ضد العنف، جوهريًّا، في مختلف أشكاله. وأعيش في الهامش الاجتماعي–السياسي، لكنْ في مَتْنِ الحركية الشعرية والفكرية.

*

أنت لا تخيف أعداءك بسياستك المخالفة، أو بأفكارك المضادة، وحدها. خوفُهم الأعظم هو كونك حرًّا. هو أنك، في الحرية، مثالٌ وقُدْوة!

*

مدنٌ – هل أسمِّيها الـ"هي"؟

الـ"هي": الصورة الغبارية لماهية صوانية.

*

شَطَحْتُ؟ ربما، يا محمد علي الأتاسي.

وآهٍ من سذاجتي وجَهْلِي!

كيف لا أرى السماء واضعةً ذراعيها على خواصرِ هذه المدن؟

كيف لا أرى التاريخ مُنْهَمِكًا، كمثل خيَّاطٍ باذخٍ يختار أكرمَ الثياب وأغلاها لقاماتها العالية؟

كيف لا أنظر إليها بوصفها السَّقْفَ والخبز والماء والغبطة، لا لأهلها وحدهم، بل لأبناء آدمَ جميعًا؟

كيف لا أقرُّ بأنهنَّ توائم حبٍّ ومعرفة، بأنهن وحدةٌ كاملة، بأن هذه الوحدة هي البيت الأكثر شموخًا للعلم والفن، لآخر الكشوف والإبداعات؟

كيف لا أرى أن رسالة انتشال الإنسان من الفقر والأمية، من البطالة والعبودية، هي التي توجِّه حياةَ هذه المدن وفكرَها؟

آه من سذاجتي وجَهْلي!

حقًّا، كأنني لستُ صالحًا إلا لكي أخترقَ و"أُجْرِم"!

وها أنا، إمعانًا في هذا "الإجرام" (ما أحَبَّهُ، وما أشَفَّ براءته!)، أمتزجُ بتلك القبَّة التي تنسجُها خيوطٌ تغزلُها رياحٌ تجيء من دمشق الأخرى – من فضاء تسْنيم.

وأنتَ، أيها الياسمين الطالعُ في ظِلِّ تَسْنيم، وفي شمْس خُطواتها، تَلَطَّفْ وعَرِّجْ على أطلالي.

(باريس، 31 تموز 2003)

*** *** ***

تنضيد: جورج مسعد

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود