|
الأوذيسة
نيكوس
كازانتزاكيس
استهلال
يا
شمسُ،*
يا مشرِقيَّ العظيمَ، وقَلَنْسُوةَ عقلي
الذهبيةَ، يروقُ
لي أن ألبسَكَ مائلاً، إذ أتحرَّقُ للَّعبِ، مادمتَ
حيًّا، ومادمتُ أنا أيضًا حيًّا، حتى يفرحَ
قلبُنا. طيبة
هي هذي الأرضُ، تلذُّ لنا، مثل عنقودِ
العِنَبِ الأجْعَدِ، في
مهبِّ الريح الزرقاء – إلهي – تتدلَّى،
تتأرجح، وتنقرُها
الأرواحُ وطيورُ الهواء؛ فلننقرْها
نحن أيضًا، حتى يترطَّب عقلُنا! بين
صدغيَّ الاثنين، في الدَّنِّ العظيم، أدوسُ
العنبَ المقرقِشَ، والعصارةُ المتغطرسةُ
تغلي، والرأسُ
كلُّه يضحكُ ويتبخَّرُ في النهارِ الصَّلد. هل
شرَّعتِ الأرضُ أشرعةً، أجنحةً، فارتجَّ
الدماغ؟ والضرورةُ،
أمُّ العيونِ السُّودِ، هل سَكِرَتْ
وانطلقَتِ الأغنية؟ ملتهبةٌ
السماءُ من فوقي، وبطني، من تحت، كالنورسِ
على صفحةِ اليمِّ يستحمُّ في الزَّبد؛ امتلأ
منخراي ملحًا، وكَتِفايَ تلطمُهما الأمواجُ
متلاحقةً، وتمضي، وأمضي أنا الآخرُ معها. أيا
شمسُ، أيها الشمسُ المثلَّثُ الذي يمرُّ في
الأعالي ويُبْصِرُ في الأسافل، أرى
قلنسوةً بحريةً، قلنسوةَ هادمِ الحصون؛ فلنركُلْه
لهوًا، ونرى إلى أيِّ مدًى سوف يمضي! للزمنِ
– لو تدري – أوْباتٌ، وللمصيرِ دواليب، والعقلُ
البشريُّ، جالسًا في الأعالي، هو الذي
يديرُها؛ هيَّا،
ولنركُلِ الأرضَ، فتهوي متدحرجة! يا
شمسُ، يا بصري الثاقبَ اللاهي، يا كلبيَ
الصيَّادَ المحمومَ، جِدِ
الفريسةَ التي أهوى وطارِدْها؛ خبِّرني
بكلِّ ما ترى على الأرض، وافِني بكلِّ ما
تسمعُ، فأُدخِلُه
إلى البوتقةِ السرِّيةِ في أحشائي، ورويدًا
رويدًا، ضَحِكًا ولهوًا وملاطفةً متأنية، تصيرُ
الحجارةُ والماءُ والنارُ والأتربةُ كلُّها
روحًا؛ والنفسُ
الثقيلةُ، الطينيةُ الجناحين، تُفارِقُ
الجسمَ بلطفٍ، فتَصَّاعَدُ
كاللَّهبِ الهادئِ وتغيبُ في الشمس! قد
شبعتُم، يا أصحابُ، وارتويتُم عند ساحلِ
البهجة: ضحكٌ،
ورقصٌ، وقبلاتٌ خاطفةٌ، وثرثرةٌ لا تنتهي تُخمِدُ
العيدَ فيكم وتُوارِيه الجسدَ؛ لكن
الخمرَ فيَّ يفورُ، واللحمَ يُبعَثُ، وريحٌ
بَحْرِيةٌ تَثِبُ حتى توشكَ أن تطوِّحني؛ بي
توقٌ إلى إنشاد أغنية، فأفسِحوا لي، يا
إخوانُ، المجال! أوَّاه،
ما أوسعَ الحفلَ وما أضيقَ المكان – أوسِعُوا
لي، فيكونَ لي مدًى لأستلقي وريحٌ لكيلا
أختنق، فأقدرَ
أن أطرحَ ساقيَّ، وأمدَّ ذراعيَّ، لئلا
أجرحَ في عنفواني نساءَكم وأطفالَكم. إذ
أحسَبُ أنها ستمسكُ بخناقي حين أطلقُ كلماتي ترتحلُ
من ضفةٍ لأخرى مُلاحِقةً البشر؛ وحين
يجفُّ حلقي ويبرِّح بي وَجَعي، سأنهضُ،
وأطلبُ فضاءً لأرقصَ على الشاطئ. جرِّدني
من حصافتي، إلهي، لينشقَّ الصدغان، وتنفتحَ
حُفَرُ العقلِ، ويتنفَّسِ العالم! إيه،
أنتم أيها القرويون النَّملُ، يا عتَّالي
القمح، سألقي
خشخاشًا أحمرَ، فيشتعلَ السَّهْلُ. وأنتنَّ
أيتها الصَّبايا ذوات الحماماتِ البرِّيةِ
على صدوركنَّ الرطيبة، ويا
أيها الفتية الحاملون السكاكينَ سودَ
المقابضِ في الزنَّار، شجرةٌ
يابسةٌ بلا زَهْرٍ هي الأرضُ، مهما جاهدتُم؛ أنا
– ويحكم – بأغنيتي، سوف أجعلُها تُزهِر! أيها
الحرفيون، دَعْكم من عُدَّتِكم، واطووا
مآزرَكم، تحرَّروا
من نيرِ الضَّرورة، فالحرية تستصرخكم. الحريةُ،
ليستْ خمرةً، إخواني، ولا امرأةً حلوةً، ولا
خيراتٍ في بيوتِ مُؤَنِكم، ولا وَلَدًا في
المهد، بل
أغنيةٌ متوحدةٌ، أبيَّة، تضيعُ في الريح! اشربوا
من ماء الرفضِ اللاذعِ، فيتطهَّر العقلُ
منكم، انسوا
عقاقيرَكم وهمومًا مخزية، ولتصبحْ
قلوبُكم قلوبَ أطفالٍ، عذراءَ، هشَّةً،
خليَّةَ الهمِّ؛ ولتُزهري،
يا أدمغةُ، ليأتي البلبلُ ويصدح! وأنتم،
يا شيوخُ، فلتَعْلُ صرختُكم، لتنبتَ
أسنانُكم من جديد، ويعودَ
شَعرُكم غُرابيَّ السَّوادِ، ويتوثَّبَ
العقلُ طليقًا! وحقِّ
أفَنْدِينا شمس وسيِّدتِنا قمر، ما
الشيخوخةُ إلا حلمٌ كاذبٌ وما الموتُ إلا
وَهْم؛ كلُّ
شيء من صنعِ النَّفْسِ وألاعيبِ الفكر، كلُّ
شيء نسمةٌ تهبُّ فينفتحُ الصَّدغان؛ هو
حلمٌ لطيفٌ حُلِمَ به فوُجِدَ هذا العالم؛ فلنمضِ،
يا أصحابُ، فاتحين العالمَ بالغناء! إيه،
يا رفاقَ السَّفَرِ، خذوا المجاذيفَ،
فالربَّانُ قادم؛ ويا
أمَّهاتُ، أرضِعْنَ أطفالكنَّ فيكفُّوا عن
البكاء! هيَّا!
– اطردوا همومَكم التافهةَ من البالِ،
وشنِّفوا آذانكم؛ فسأحكي
لكم مغامراتِ أوذيسيوس الشهيرِ ومكابداتِه. *** ترجمه
عن اليونانية: ديمتري أفييرينوس *
اضطر المترجم إلى تذكير الشمس وتأنيث
القمر، وذلك لسببين: الأول، يتعلق بالرمزية
الكوسمولوجية والميثولوجية للشمس كمبدأ
فاعل (مذكر) وللقمر كمبدأ منفعل (مؤنث) التي
يتبنَّاها كازانتزاكيس عفويًّا، باعتبار
أن اليونانية، ككلِّ اللغات الأوروبية
التي يتمايز فيها مذكَّرُ الجماد ومؤنثُه،
تذكِّر الشمس وتؤنث القمر؛ والثاني،
لانسجام ذلك مع ميثولوجيا الشرق الأدنى
القديم (سومرية، بابلية، إلخ) التي جعلت
الألوهة الشمسية مذكرة (الإله شمش). يبقى أن
استقصاء سبب اعتماد اللغة العربية، في
تطورها اللاحق عن اللغات السامية، تذكيرَ
القمر وتأنيثَ الشمس مسألة تستحق العناء (لعل
ذلك يتعلق بتكريس الإسلام ديانةً "قمرية"،
اعتمدت القمر مبدأً فاعلاً؛ ودليلُنا على
ذلك هو اعتماد الإسلام التقويم القمري).
|
|
|