|
وجه
الحبيب*
خلاصة شعرية لحضارة
إنسانية شاملة
وضاح
يوسف الحلو
ينتظمُ
لاهوت كمال جنبلاط الشعري في ذاكرة شفيفة من
خلال ترميم، وإعادة ترميم، البراءة الجمالية
التي كان ينشدها [...]، في رؤية ومناجاة لطالما
تاق إليهما. تعدُّد الأوجُه الشعرية لدى كمال
جنبلاط لم ولن ينتهي بانسحاب ذلك على كلِّ
الأنشطة الحياتية، من خلجات الجوى الكتابية،
إلى صبابة عشق الكلمة، إلى وَهَنِ الذات أمام
الإغراءات الدنيوية. تعرفنا إلى جنبلاط،
أساسًا، في بوحه السياسي، ثم في نكهته
القلمية، ثم في شغفه الطبي بالأعشاب، ثم في
الوجه الفكري والانزوائي، بلوغًا إلى الشعري.
رجلٌ من طينة الرجال الأفذاذ، وَسَمَ بطابعه
مرحلة استثنائية مترامية الأطراف، مع تخطٍّ
للحدود الفكرية الوطنية إلى الأممية – حتى
اللاحدود. قرأنا شعر جنبلاط في فرح
وسلام، ونقرأه اليوم في وجه الحبيب،
حيث القصائد تأتزر في قصيدة ملحمية أشرف على
تحقيقها د. خليل أحمد خليل ود. سوسن النجار نصر
في كفاءة عالية. والمختارات منها ما هو موضوع
بالعربية، ومنها ما هو معرَّب عن الفرنسية (من
تعريب د. خليل)، ومنها ما هو محاولة عروضية.
وفي كلِّ ذلك نقرأ وجه جنبلاط الخلاق، الباحث
في عمق اللغة عن لؤلؤ الكلمات إثر تأمل مديد
في أسرار الزمن الذي يزداد غموضًا مع دخول
لولب الـDNA على خط
الجماليات. المختارات تقدِّم جنبلاط شاعرًا
رومنسيًّا، متصوفًا، يخاطب "حبيبه الأوحد"،
مطلاً على المعتقدات الهندوسية التي طبعت
فكره ومسلكه إلى حدٍّ بعيد. وترى نهاد أبو
عيَّاش التي قدَّمتْ للكتاب أن جنبلاط اهتم بالنواحي
النظرية والعملية للجانب التوحيدي في
المعتقدات الهندوسية، الجانب الذي يرى أن
الواحد والتوحُّد هما الحقيقة القصوى. أدرك
هذا الحكماءُ منهم ذلك لصفائهم النادر
وشفافيتهم المطلقة المتأتية عن التخلُّق
بالأمثل، والتركيز التام، والفطنة المذهلة. ويعرض جنبلاط أسباب
تأثره بالصوفية في شعره فيكتب: إن اكثر الناس يحبون
الألم لأنهم يتلذَّذون به، بينما أنا أرى أن
الفرح هو أقرب للوصول إلى الحقيقة من العلم.
فكما يفكر الإنسان هكذا يصبح. فإذا ما تأمل في
نفسه، فحينها يكون منفصلاً، في آنٍ واحد، في
مشاعره وأفكاره. فنحن "الشاهد" لا أكثر
على الأفكار، على العواطف، وعلى الأفعال.
وعليه، فنحن دائما في تأمل. وقد قال السيد
المسيح: "لا تعلم يدُك اليسرى ما فعلتْه
اليمنى." وهذا يعني أن "الشاهد" فينا
غير "الفاعل": "الشاهد" هو غير
المتمتِّع، هو غير المفكِّر، غير الشاعر (من
الشعور); فعندما نصل إلى هذه الحقيقة فإننا
نتحرر نهائيًّا بحيث لا يمكن لأيِّ شيء خارجي
أن يؤثر فينا، ولا، بالتالي، أن يجرَّنا شيءٌ
داخلي (كالعواطف وغيرها)، فنصبح آنذاك أسياد
أنفسنا. غير أن كمال جنبلاط
لم يكن من نسيج المتصوفة النُسَّاك، بل من
خميرة الثوار المناضلين الذين لا يتشاوفون
على طريقة اليوم. كان اختراقيًّا قبل أن
يتعرَّف إلى المعتقدات الهندوسية. صحيح أنـ[ـه]
شُغِفَ بالأفكار الهندوسية التي أثَّرتْ في
حياته إلى حدٍّ بعيد، إلا أنه قبض كذلك على
نيران فكرية ذاتية بأصابع غير مرتعشة وبرؤية
نيِّرة، لأن فجره الفكري واضح وشمس حقيقته
ساطع. المتتبع لكلِّيانية
كمال جنبلاط يستنتج أن هذا المفكِّر خلاصة
جيدة لحضارة إنسانية شاملة، ولم يكن حبيس فكر
واحد، مهما سما هذا الفكر. ركَّز جنبلاط، منذ
وعيه الأول، على الإنسان كقيمة وجودية وهو
القائل: أكثر الشعراء في
النهاية حكماء، كونهم تحرروا من جميع قيود
وظروف الفكر، كما المكان والزمان؛ فكان
التجلِّي في نشاطات الفكر. وذاك يعني أن الذي
يتحرَّر من المكان والزمان لا يكون هندوسي
الميول وحسب، بل مفكر شمولي له استشعار
الحكماء الكبار. وجنبلاط على حقٍّ عندما يقول
إن الفكر مرتبط بالكلمات، ومن دون الكلام لا
يمكن الإنسان أن يفكر. إنها أطروحة ماركسية؛
وجنبلاط الاشتراكي العلماني لم يكن ينكر
ماركس، بل يناقشه على أساس أن براهما
مفهوم ديالكتيكي عَرَفَه الإنسان قبله. إلى
ذلك، كان جنبلاط يرى أن الفكر الآسيوي (الصيني
والهندي) سبق ماركس في أطروحات فكرية عديدة. صورة
الغلاف يطرح جنبلاط في
مجموعة وجه الحبيب إشكالية الشعر
الرومانسي في أسلوب لا يوحي فقط بدلالات
تصوفية أو هندوسية (كُتِبَ قسم من قصائد
المجموعة في الأربعينات)، بل مزج في هذه
القصائد بين الطبيعة والأنا الحقيقية،
مقتبسًا المسيح في أكثر من مكان حول إمكان
التفكير بالإيمان والتفكير بالعقل، مع عدم
الفصل بين هاتين المقولتين على ما يرى توما
الأكويني. ولدعم فكرة الرومانسية في قماشة
كمال جنبلاط الشعرية أورد الآتي: في فَيْءِ النجوم في
سكون الليالي المظلمة
في انعكاسات القمر على المياه الهادئة في الصمت العظيم السابق لبزوغ الفجر في همسات الأشجار وهي تستفيق في غناء الطير عند
السَّحَر بين قمم الجبال
المضيئة على وجه الدنيا
الغافية تلقى وجه حبيبي. هذا الإخضاع لأدوات
الطبيعة لوجه الحبيب، هذا البهاء، هذه الكنوز
الملموسة، هذا السموُّ في وجه الحبيب، هذه
الهفهفة النورانية الحقلية، لا تدل على أن
صاحبها أو قائلها متصوِّف، ناسك في عزلة
انزوائية. أفنى الشاعر نفسه في أدوات
الطبيعة؛ وثمة فارق بين التأثُّر بفكر ما
والإفناء الذاتي به. معالجو شعرية كمال
جنبلاط وفكره يحاولون التأكيد على أن
المعلِّم أفنى ذاته وأذابها في المعتقدات
الهندوسية؛ وهذا غير صحيح. قارئ قصائد وجه
الحبيب يرى أن الشهيد رومانسي الرؤى،
رومانسي الانعكاس، حتى على الأنشطة السياسية
التي مارسها من موقع الزاهد، المتعفِّف. كان
جنبلاط، في مفاعيله كلِّها، طهرانيةً بيضاء
في غابة من الأحقاد البشرية. وهذا البياض
النقي انعكس على معظم شعره، المتأثر بأبي
العلاء المعري: غدًا سيمرُّ هذا
الجسد فلا يبقى منه أثر حتى للبعث حتى للنشور. كان القديس أغسطينوس
يقول: "حقيقة الإنسان في جزئه الباطني."
ويرى البابا يوحنا بولس الثاني أن "حقَّ
الإنسان في البحث عن الحقيقة غير قابل
للمناقشة." قال لنا جنبلاط الكثير، لكنه لم
يقل كلَّ شيء في بحثه عن حقيقة ذاته، وحقيقة
الآخر، وحقيقة لبنان، ما إذا كان وطنًا
نهائيًّا أو كيانًا سياسيًّا غير قابل
للمناقشة. عرفنا الكثير مما ارتسم على وجه
الحبيب جنبلاط الذي خُلِقَ للفكر السياسي، لا
للسياسة في مفهومها اللبناني. قرأناه شاعرًا
بالكلمة أكثر من مرة، وأصغينا إليه شاعرًا
بالسياسة مرات؛ وسنظل مرهفي الأذن أمام
الظاهرة الجنبلاطية بكلِّ فرح. *** *** *** عن
النهار، السبت 18 كانون الثاني 2003 *
في منشورات "الدار التقدمية"،
بتحقيق د. خليل أحمد خليل ود. سوسن النجار
نصر، 2002.
|
|
|