|
ألغاز
جبرانية جبران ومي بين
الخيال والواقع أحمد
تموز
ألغاز
جبرانية وجبران ومي بين
الخيال والواقع كتابان يجمعان أبحاثًا
ومحاضرات د. متري سليم بولس في جبران ويخوضان
في أدب الكاتب اللبناني العالمي "الذي
خَبَرَ الألم وتمرَّد وصاغ بالفنِّ حياته".
يتناول الباحث، في
جملة ما يتناوله، رواية الأجنحة المتكسرة
التي يعتقد كثيرون أن بطلها هو الراوي، وأن
سلمى كرامة هي حلا الضاهر. في حين أن جبران
خليل جبران نفسه يوضح أنه "ليس في هذا
الكتاب أيُّ اختبار واحد كان اختباري [...]. إن
الشخصيات والحوادث هي هي خلقي أنا لأني أعتقد
أنه ينبغي على الكتاب أن يكون شيئًا جديدًا،
أن يكون إضافة للحياة". إذن، عناصر روايته
مستمدة من الواقع، إلا أنها لا تمتُّ إلى
واقعه الشخصي بأية صلة. يعالج بولس كذلك
اعتناق جبران نظرية التقمص التي تجعل الشاعر
يؤمن بأنه من أصل كلداني، عاش ستة أعمار أو
سبعة في بلاد الكلدان؛ وهو بذلك عمل على إعلاء
شأن الحضارة الكلدانية وجعلها أعرق من حضارة
اليونان، فكتب: "إن جالب النار الأصلي هو
كلداني وليس إغريقيًّا." إلا أن هناك رأيًا
آخر يقول إن آل جبران هم من أصل سوري، قدموا
إلى بعلبك ثم هُجِّروا إلى بلدة بشعلة، قضاء
البترون، حتى نزحوا بعدئذٍ إلى بلدة بشراي.
وضمن هذه المعمعة يأتي جبران ليؤكد أنه "لو
لم يكن لبنان وطني لاتخذت لبنان وطني". ولا يخفى على القارئ
الخبير ما يتسم به هذا التحليل من سطحية.
فجبران، المتطور دائمًا، الذي اختبر
الانتماء الكوني، اعتنق المُواطِنية
العالمية وقال لاحقًا إن "الوطن ليس أكثر
من عادة"! يقال أيضًا إن جبران
خليل جبران عانى من عقدة أوديب التي جعلته
عاجزًا عن معرفة امرأة – وهو القائل لماري
هاسكل ذات مرة: "أقبِّل يدك بجفني، يا أمَّ
قلبي العزيزة." سطحية هي الأخرى التحليلات
التي يسوقها الكاتب لصالح وجهة النظر هذه
التي ليست إلا تكرارًا لآراء د. ثروت عكاشة في
المقدمة التي عقدها على ترجمته لـنبي
جبران. غير أن الباحث، بعد
قراءاته المستفيضة للنتاجات الأدبية، يستدرك
ليرى أن جبران يبحث عن المرأة البالغة
الأنوثة، روحًا وجسدًا. فهو يريدها "مزيجًا
من بياتريس ومسالين"؛ ويعتقد أن "في كلِّ
إنسان ثلاثة مراكز: الرأس والقلب والجنس، وأن
هذا أو ذاك يتحكم في كلِّ إنسان". وجبران، الذي كان
يؤمن "بالتدرُّج المثالي نحو الكمال"
والذي ينتمي إلى النظرية القائلة بأن جوهر
الكون حركة روحية وصيرورة، ظلَّ على اعتقاده
هذا، لكنه شفعه بخمس ركائز هي: القوة، الصراع
وبقاء الأصلح (داروِن)، التفوُّق والهدم، بعد
تأثره بكتاب هكذا تكلَّم زرادشت لنيتشه
الذي يدعو إلى الهدم واحتقار الضعفاء وينادي
بالإنسان المتفوق. لكن بولس، هنا أيضًا، يغفل
عن فهم تطور جبران اللاحق، كما انعكس في
مؤلفاته الإنكليزية، ولاسيما النبي وآلهة
الأرض – والأخير، برأينا، يمثل قمة نضجه
الروحي والفكري، حيث هدأت ثورة جبران، وبات
يرى في الكون وحدة لا تقوم إلا بكلِّ أجزائها.
يشير ميخائيل نعيمه إلى هذا التطور في الفصل
الذي عقده على "المصطفى" من كتابه جبران
خليل جبران: "عندما أطلَّ جبران بخياله
على عالم الوحدانية الكاملة، حيث الحياة ألفة
أبدية، تضاءلت في عينيه كلُّ العوالم التي
سكنها من قبل والتي كان يحسبها حقيقة ولم تكن
إلا وهمًا [...] وصار كيفما أطلق خياله في جوِّ
عالمه الجديد رأى كلَّ ما فيه يعانق بعضه
بعضًا عناق محبة لا حواجز فيها ولا حدَّ لها." ويشير الباحث إلى أن
ميخائيل نعيمه هو أول من لفت الانتباه إلى
التطابق في الشكل بين كتاب هكذا تكلَّم
زرادشت وكتاب النبي، مقارنًا بين إرشاد
زرادشت للناس وقيام المصطفى بذلك، ولجوء
زرادشت إلى "جزائره السعيدة" وعودة
المصطفى إلى الجزيرة التي هي مسقط رأسه،
وصعود زرادشت جبلاً ومناجاته البحر وصعود
المصطفى هضبة ومخاطبة البحر أيضًا. لكن نعيمه
يؤكد أن هذا التطابق يقتصر على الشكل وحده:
"لئن دفع جبران في كتابه النبي جزية
كبيرة لنيتشه من حيث القالب فهو من حيث الروح
التي سكبها في ذلك القالب لم يدفع جزية إلا
لخياله."
ويتطرق بولس إلى
وظيفة الميثولوجيا في أدب جبران وعلاقته بمي
زيادة – هذه الناقدة الصحافية التي عرفت
جبران عبر المراسلة ورأت فيه "نزوعًا إلى
التعلق بحياة المدن والمدينة بما فيها من
مغريات"، واعتبرت أنه "إنسان أناني يعجز
عن الخروج من قوقعة الذات ليعانق ذوات
الآخرين [...]. وأنانيته تحوِّل كلَّ ما يتصل
بها إلى جزء منها، ثم تُخرِجُه على القرطاس
وكأنه إلهام شخص لم يظفر به من قبلُ أحد". ويسترسل الباحث في
حديث مكرور عن مي زيادة التي أضحت الفتاة
الوحيدة لوالديها بعدما فقدت أخاها وهو صغير.
وهذا الشعور اتخذ في نفسها طابع الأسى
والحتمية: الأسى الناجم عن صدمة الموت؛
والحتمية لأن الموت فرض عليها أن تعيش وحيدة.
وقد أثَّر موت جبران خليل جبران عليها
كثيرًا؛ فهو الشاعر الذي أحبَّته ولم تره،
فبلغت أقصى حالات الضياع والهذيان. وينهي متري بولس
كتابه باستشهاد لجبران يؤكِّد فيه: "إن
حياة الإنسان موكب هائل يسير دائمًا إلى
الأمام." كتابان شائقان، لا
يشفع تشويقهما في سطحيَّتهما. قد يستمتع بهما
المهتمون بـ"نوادر" الظاهرة الجبرانية،
لكنهما قطعًا لا ينفذان إلى أغوار تجربة
جبران الروحية، ولا يرويان – بالتالي – غليل
القارئ العميق، كما يفعل كتاب من عيار عالم
جبران الفكري لوهيب كيروز، حافظ متحف
جبران، الذي مازال، إلى الآن، من أجود ما
كُتِبَ في جبران بالعربية. *** *** ***
|
|
|