|
أسطورة ياسون وميديا: البعد السحري والسيكولوجي
ملخص الأسطورة وفقًا لما أورده الدكتور فيكتور د. ساليس في كتابه الميثولوجيا الحية: كان ياسون ابنًا لأيسون ملك أيولكس في ثيسالي والذي خلعَه عن عرشِه أخوه بيلياس. وقد استطاع ملك أيولكس المسكين إخفاء ابنه عن عيون بيلياس ونواياه السيئة، فبعث به إلى غابة في ثيسالي، لكي يتعلَّمَ على يد حكيم هو القنطور خيرون. وعندما بلغ سن الرشد، أظهر المعلِّم له حقيقة هويَّتِه، حاثًّا إياه على المطالبة بحقِّه في العرش الذي يخصُّه. وهنا بدأت الأحداث الدرامية الغنية بمعانيها تظهر في هذه الأسطورة. فما هي؟! أخيرًا "وصل ياسون إلى المدينة عندما كانت الألعاب فيها قد بدأت بمناسبة الاحتفالات لإكرام الآلهة الحامية للمدينة، فشارك في عدة مباريات وفاز فيها كلها" لدرجة أنه نال إعجاب الملك بهذا "الرياضي الخارق إلى هذا الحد" وحصل ما حصل عندما طلب المثول في حضرته، فتحقق لتوه من نبوءة عرَّاف دلفي الذي تنبأ له بأن عليه أن يخشى شخصًا انطبقت عليه مواصفات ياسون عندما سأل الملك العراف فيما إذا كان ثمة خطر يتهدَّد المملكة. لذلك وبعد حديث بين الطرفين "دبَّر عمُّه خديعةً للتخلُّص منه. فقال له: إذا أردت استرجاع مملكتك، فما عليك إلا البحث عن الجزَّة الذهبية، وإذا عدتَ حيًا في مسعاك هذا، فسيكون العرش من نصيبك. وكانت الجزة الذهبية لخروف رائع" - لن نخوض في تفاصيل قصة هذا الخروف ههنا. إذن انطلق ياسون مع ثلة من أبطال الأساطير اليونانية على سفينة تم تجهيزها وفقًا لتوجيهات الإلهة أثينا لمواجهة العقبات التي سيلاقونها في طريقهم في الوصول إلى الجزة الذهبية. وبعد عدة مغامرات وصل ياسون إلى الجزة حيث كانت هناك جزة لخروف تم تقديمه كأضحية في سبيل الحصول على يد ابنة الملك في تلك المنطقة، وهكذا بقيت الجزة التي احتفظ بها الملك في حرج مقدس تحت حراسة ثورين رهيبين ذي حوافر برونزية وينفثان اللهب. وهكذا توجَّه ياسون إلى الملك ملتمسًا منه جزَّة الخروف، فاغتاظ الملك أيما اغتياظ من طلب ياسون الوقح لإدراك الملِك بأن الجزَّة كانت عطية من الآلِهة لسعادة المملكة، لذلك وضع أمامه كل العراقيل وحتى المستحيل نفسه لكي يتغلب عليه، فإذا استطاع التغلب على كل هذه العراقيل والمستحيل فحينئذ فليهنأ بالجزَّة، فستكون من الآن فصاعدًا ملكًا له، وكما ذكرنا أن هذه الجزة كانت عربونًا للأضحية التي قدمها صاحب الخروف في سبيل الحصول على يد ابنة الملك أيتس الذي اغتاظ أيما اغتياظ من طلب ياسون، والحقيقة أن الملك أيتس كان له ابنة أخرى، ما أن رأت ياسون حتى وقعت في حبه، ولكن من هي هذه الفتاة؟! إنها ميديا الرهيبة، وتدخلت أفروديت في الحدث الدرامي وأشعلت في قلبه حب ميديا، وهذه الأخيرة جعلته يُقسِم بأن يتزوج منها، وأن يأخذها معه إذا ما ساعدته في الحصول على الجزة. وبمساعدة ميديا الرهيبة استطاع ياسون فعلاً التغلب حتى على المستحيل الذي فرضه الملك ضمن الشروط التي وضعها أمامه لكي يتغلب عليها حتى يحصل على الجزة، فإذا به يتفاجأ أن ياسون قد استطاع قهر المستحيل والوصول للجزَّة، لكن المشكلة أن الملك ارتاع، ورفض الملك تسليمه صوفة الخروف الذهبية، إذاك تدخلت ميديا الرهيبة للمرة الرابعة ربما إن لم يكن العدد أكبر من ذلك، واستطاعت تذييل الصعوبة، وسلَّمت ياسون جزة الخروف، وهربت مع ياسون إلى سفينة آرغوس التي تم بناؤها وفقًا لتعليمات الإلهة أثينا، ولكن ما فعلته ميديا لكي تستطيع أن تخلص بروحها مع ياسون من مطاردة جنود الملك لهو أمر يعجز القلم عن وصف مدى فظاعته. إذن عقدا قرانهما ووصلا إلى المملكة حيث كان عمه الذي اغتصب العرش من أخيه، واشترط حصوله على العرش أن يأتي بالجزة، والأمر كان خديعة لأنه كان يعلم مسبقًا أن الحصول عليها مستحيل فإذا به يجد ياسون أمامه وبيده الجزة الذهبية. إذًا كما الملك أيتس صاحب الجزة قد رفض تسليمه الجزة بعد تغلبه على المستحيل، نجد الملك بيلياس عمُّ ياسون يرفض بدوره تسليمه عرش المملكة، وهنا أيضًا تتدخل ميديا بطريقة فظيعة ولا توصف من حيث القسوة التي تتضمنها للتخلص من هذا الملك الطاعن في السن، وتنجح بمهمتها لكي تمنح لياسون العرش. ولكن ما لم يكن بعلم كل من ياسون وميديا ردة فعل مرؤوسي الملك بيلياس الذي كان مغتصبًا للعرش لكنه كان محبوبًا من قبلهم، وثارت ثائرتهم مما جعلهما يهربان إلى كورتثوس، حيث عاش ياسون عشر سنوات أنجب خلالها أبناء من ميديا. لكن المأساة عندما تبدأ فأين تنتهي؟! لقد وقع ياسون في حب غلوسه ابنة ملك كورنثوس، وهكذا بدأ ياسون يعيش في قصر ملك كورنثوس ليتهيأ للزواج من ابنته غلوسه، وهنا ولأول مرة تخفق ميديا بعد كل هذه الانتصارات الرهيبة والمذهلة في استرجاع ياسون إليها!! فما الذي حصل؟! السؤال الذي يطرح نفسه أولاً: من هي هذه المرأة "ميديا" التي تتمتع بكل هذه القدرات الخارقة وهذه القوى الجبارة حتى تستطيع إنقاذ حبيبها وزوجها ياسون، وتجعله يحصل على ما يريد بطرق قاسية وفظيعة نتشكك من كونها تنتسب لامرأة الأمر الذي نوّه إليه الدكتور ساليس أن المرأة ليست كما تصورها لنا سينما هوليود تلك المرأة الناعمة والمثيرة جنسيًا، لا فانتقامها مروع إذا ما جرحها أحدهم في حبها، فإنها تتحول إلى لبوة مفترسة... إنها قوة البغضاء والانتقام، لكنني لن أقف عند هذا الحد من تفسير الدكتور، لأبدأ أولاً في معرفة من تكون ميديا؟! بادئ ذي بدء كانت ميديا كاهنة للإلهة هيكيت... ولعلكم تتساءلون من تكون أيضًا هذه الإلهة؟ تجيب موسوعة الأديان فتقول: كانت سلطة هيكيت في المناطق الجحيمية هائلة، وكانت تُسمَّى براتيانيا الموتى أو الملكة التي لا تُقهَر. وهيمنت على عمليات التطهير والتكفير. وكانت إلهة وسائل السحر. وأرسلت شياطين إلى الأرض لكي يعذبوا البشر. كانت هي نفسها تظهر ليلاً بصحبة حاشية من كلاب الجحيم. والأماكن التي كانت تسلكها في الغالب هي تقاطع الطرق، ونحن نعلم وفق قراءاتنا أن تقاطع الطرق بالنسبة للسحرة هو مركز لتجمع وتكاثف الطاقة لأن التقاطع يحوي اجتماع طريقين واحد عليك أن تتخلى عنه وآخر عليك اختياره، لذلك كثيرون يمارسون الطقوس السحرية في تقاطعات طرق خصوصًا في الغابات أو سواها... نعود إلى هيكيت فعدا ظهورها عند تقاطع الطرق كانت تظهر بالقرب من القبور أو مسارح الجريمة. وهكذا كان يمكن مشاهدة صورها عند تقاطع الطرق على هيئة أعمدة أو تماثيل للإلهة بثلاثة أوجه – وكانت تدعى هيقاتي الثلاثية – إلخ. إذن عرفنا الآن شيئًا من حقيقة "ميديا" ومصدر قوتها الفظيعة الخالية من الرحمة أو أدنى حس في الشفقة إذا ما أرادت الحصول على شيء أو أن تنتقم من شيء!! السؤال الذي يطرح نفسه، بم انتقمت من ياسون عند تنفيذه لعقد القران رغم محاولاتها اليائسة في استعادته إلى حضنها، لكن وكما يقول الدكتور ساليس على ما يبدو أن الحب يجعل مفعول السحر فاشلاً لا تأثير له!! انتقام ميديا نال اليأس من ميديا إذن، وهنا استسلمت للأمر الواقع، ولكن ليس هكذا بدون حساب، وأمام من؟! أمام ميديا الرهيبة!! إذن تصنع أروع ثوب زفاف لعروس في العالَم، مليء بخيوط من الذهب المسحور، وتتوجه إلى القصر بينما ياسون في بيته، وتقدم التهاني للعروس، معربة لها عن حسن نواياها، وأنها تريد في النهاية ياسون سعيدًا، وبما أن هذه سعادته فعليها التضحية، وترجو منها قبول هذه الهدية المتواضعة من ميديا المتواضعة والمسكينة التي استسلمت لقَدَرِها. ولكن كلَّ ذلك لعبة من ألاعيب أمكر امرأة في العالم. ما أن ترى غولسه ابنة ملك كورنثوس الثوب حتى يخلب ذهنها بجمالِه وفتنته، فترتديه، وهي في غاية الفرح والسعادة والنشوة التي ما أن تبلغ مبلغها من سرورها هذا حتى تشتعل خيوط الذهب التي تلف الثوب من كل جهة وتأتي النار على غلوسه. يُجنَّ جنون والدها ملك كورنثوس الذي يهرع لنجدة ابنته وسط النار لكي ينزع عنها هذا الثوب الملعون فتلتهمه هو الآخَر النار ويموت هو وابنته ميتة مروِّعة! إذن، نفذت ميديا الانتقام الأول، والآن تتوجه في دربها المشتعل بنار الانتقام إلى ياسون الذي لا يعلم مما حصل أي شيء، وتعترف له بحبها أن تراه سعيدًا لذلك شاءت أن تقدم له هدية زواجه من غلوسه، قبل أن تغادر كورنثوس إلى المنفى راجية بدموع زائفة أن يقبل هدية زواجه، وكان صندوقًا مغلقًا بالمسامير لكنه يثير فضول أي إنسان إلى درجة هائلة في فتحه، يشكرها على امتنانها له وعلى تسامحها وهديتها، وما أن تغادر ميديا، حتى يفتح الصندوق بسرعة جنونية! يا للمصيبة! ماذا يوجد في داخل الصندوق؟!! رؤوس أبنائه الذين أتوا من زواجه بميديا خلال إقامته العشر سنوات في كورنثوس. يجن جنونه، يفتح الباب ليلحق بميديا وليقتلها. لكن من هو حتى يقتل كائنًا مثل ميديا. وتقول الأسطورة إن هذه الأخيرة تلقَّت من جدها الإله هيليوس (الشمس) عربة مجنحة ما أن وصل ياسون إليها حتى ارتفعت وطارت في السماء، والأدهى من ذلك أن الأسطورة تقول إنه رجع ليأسه إلى سفينته آرغوس واستلقى على سطح السفينة. وفي الليلة نفسها، وقعت الصارية الأساسية فوقه ساحقة إياه!
البعد السحري للأسطورة الحقيقة أن الأسطورة تتناول مفهومًا في غاية الحساسية والتعقيد ويتعلق بما يسميه البرازيليون بالسحر الأسود، ولعل البعض يذهب بعيدًا في هذا الموضوع بخصوص النهاية الكارثية لحضارة الأطلنطيس. لست بصدد الشطح بالخيال، ولكن يمكن تناول الموضوع من جهة الأنثوي كما شاء الدكتور فيكتور د. ساليس. فمن منطلق قصة آدم وحواء، حين أكلت حواء التفاحة تملَّكَتْها قدرة سحرية في حقيقتها سوداء ولكن على نحوٍ لاواعٍ قامَت بتقديمها إلى آدم الذي تناول تلك التفاحة المشؤومة، أي وقع هو الأخير تحت تأثير هذا السحر، وهنا بدأت مصائب البشر بسبب هذا السحر الأسود. وهذا أمر في غاية التعقيد فالمشاعر والأفكار كلها طاقات والسحر يعتمد بشكل مباشر على الطاقة، ومن هنا فعندما تكون المشاعر والأفكار والنوايا سلبية فهي تمارس فعلاً سلبيًا يتجلى على نحو سحري من خلال مشاكل في حياتنا اليومية أو فخاخ عجيبة غريبة، وإحباطات، إلخ. كلنا يعرف ما للحسد على سبيل المثال من قوة تدميرية، وهكذا... والقضية، عندما يتحدث البعض عن قديسين أو روحانيين فهي ليست قضية مثالية، وإنما ببساطة هي قضية وعي ويقظة لئلا نقع تحت سطوة هذا السحر، ولعل أهم طاقة فاعلة هي الطاقة الجنسية، وهي تستخدم لغايات سوداء أيضًا، تثبت بعض الدراسات أنها أفضت بمن قام بممارسات كهذه، ولعل أشهرهم تاريخيًا ذلك الشخص الذي مارس القدرة الإخفائية في القرن التاسع عشر وهي طريقة هندية في الاختفاء لها ممارسات وعقيدة خاصة اسمه "أليستر–كراولي"، وكما يقول أومرام ميخائيل إيفانوف في كتابه التنين المجنح فقد أراد "أليستر–كراولي" أن يجري تجربة مشابهة لتلك الموجودة في "التيبت" فانغمس في تعقيدات السحر الأسود، وانتهى به الأمر إلى إصابة بعض النسوة البريطانيات بالجنون، حيث كنَّ موضوع تجارب بالنسبة له. امتلك هذا الرجل الوسيلة، ولكن، بأي ثمن حصل عليها. في المقابل فالبرازيل عرفت السحر الأبيض من خلال الـ Umbanda، والطاقة عينها حين تمارس على نحو سلبي تصبح الـ Quimbanda – ولعل ميديا عندما تطير في السماء هي صورة واضحة لما يسميه البرازيليون بشخصية الـ Bruxa أي الساحرة الشمطاء التي تمتطي مكنسة طائرة. إنها نفس الصورة يقدمها لنا اليونانيون لهذه الشخصية الشريرة. والقضية خاطئة منذ البداية، ذلك أن اقتران ياسون بميديا كان على أساس سحر أسود، وجنى بالنهاية تلك النهاية الفاجعة والمأساوية. والأمر أبعد من ذلك، فهو يتناول عالمنا كله الآن بشكل أو بآخر، ذلك أن عالمنا يتحالف مع هذه الطاقة بغية غايات أحد لا يعرفها، ولكن النهاية ها هي الأسطورة تخبرنا بها بشكلٍ واضح. وفي الحقيقة، يمكن تأليف كتاب كامل حول موضوع هذه الأسطورة. عذرًا، هناك أفكار كثيرة ليس بوسعي أن أعبر عنها الآن، لكن، أخيرًا وليس آخرًا هناك مثال جميل يطرحه الروحاني "ماكس هاندل" أحد أهم أعضاء جمعية الروزا كروز الإيزوتيرية، إزاء هذه القضية العسيرة، فالعمل مع الطاقة السوداء لهو أشبه بالأشجار والنباتات الخضراء التي تمتص غاز الكربون السام وتعمل على تحويله إلى أوكسجين تعمل على إطلاقه إلى السماء، وهذا ما يقوله الروحاني "ماكس هاندل"، لكنه يشدد على ضرورة تحلينا بالحكمة واليقظة والوعي لكي نعرف كيف نحول هذه الطاقات السلبية إلى طاقات إيجابية في حياتنا اليومية، راجيًا للجميع كل طاقات الحب، فالدكتور ساليس يذكر أن طاقة الحب أقوى من أية طاقة أخرى، على أن تكون في جو من الحكمة واليقظة والوعي. البعد السيكولوجي للأسطورة ما ذكرتُه آنفًا له صلة بشكل أو بآخر بموضوعنا ياسون وميديا، فإذا درسنا هذه الأسطورة من الجانب السيكولوجي فإن ميديا على حد تعبير كارل يونغ هي الأنيما السلبية لياسون، والأنيما كما هو معروف هي الأنثى الداخلية فينا، ولها جانب سلبي، ويقول أحد دارِسي يونغ إن الظهور الأكثر براعة للأنيما السلبية نراه في بعض الحكايات الخرافية بهيئة أميرة تطلب إلى خطَّابها أن يحلوا لها سلسلة من الأحاجي والألغاز أو ربما، يختبئون منها. فإذا أخفقوا في تقديم الحلول، أو تمكنت من اكتشافهم بعد اختبائهم، يكون مصيرهم الموت، وهي تنتصر دومًا. إن الأنيما التي تتخذ هذا الستار تورِّط الرجال برهانات مدمِّرَة. وبوسعنا أن نلحظ آثار خداع هذه الأنيما في جميع الحوارات العصابية ذات الصبغة الفكرية الزائفة التي تمنع الإنسان من التماس المباشَر مع الحياة وتعقيداتها الحقيقية. إنه يتأمل في الحياة إلى درجة يتعذَّر عليه أن يحياها إذ يفقد عفويته كلها وأحاسيسه التلقائية. *** *** *** |
|
|