|
دائرة الممكن عمودية الإستعارة
بقعة شاسعة مسكونة بأناس أرادوا لبرجهم أن يختصر الأفق، فخلقوا نمطهم العمراني الخاص، الذي يسمح لهم بالتحرر من الإسم المسجونين فيه، ليعيدوا تسمية مكانهم كما يريدون، فكان برج بابل يجمعهم في تمرد على اللغة الأولى، ولسان الأصل. لكنه تمرد ناقص، فالبرج كان قد بُني على الأرض، في أفق تاريخي مقفل، فوقع، وبدد سكانه، الذين عادوا إلى أرضهم اللغوية الأولى، ونسوا أن بين الأرض وبرجهم فعلاً آخر، يجمع الإثنين في طبيعة جديدة، فيشعرون بحريتهم، بتعاضدهم، قبل أن يحل أوان التبديد، ويضحون جثثًا هامدة، كانت قد بنت، وأبدعت في وقت سابقٍ. هؤلاء نسوا فعل الكتابة. اللغة طبيعة مقفلة، أفق يشكل مأمنًا للإنسان في حدوده الهندسية الدائرية. طريق من طرق الأساطير القديمة، تجبر كلاً منا على اجتيازها فيلزم مكانه، ويندمج مع آخرين مثله، سجناء دائرة الممكن. داخل هذا القيد يتشكل الفكر الأفقي، إذ أن مكوِّناته تتشابه ولا تختلف، إلا في بعض الحالات، التي توصف بأنها منحرفة، تعاني من شذوذ لغوي ما، فقد تكون حالة من تخطي حدود الإمكان والتماثل. إذًا، اللغة مسكن مغلق، شُيِّدت حوله خطوط هندسية مختومة بألفة الفكر واندماجه. ولكن هل تتصدع ثوابت هذا المسكن، فيهجره المقيمون فيه أو بعضهم على الأقل؟ يقف الفكر، الناشئ في مسكن كهذا، عند حد الأفق المغلق، وبفعل الاندماج المضطرب، الجبري، يتم الاحتكاك بينه وبين الآخرين، فيحاول كل واحد من هؤلاء صنع بُعده الخاص، خطًا يجمع بين جبرية الممكن والتفلت منه داخل هذا الأفق، فيكون لكل واحد بعده العمودي، لكل واحد أسلوبه. الأسلوب بعدُ الفكر العمودي والمنفرد الحر، فبتكوِّنه يخلق الكاتب، الذي يشكل، بفعل بيولوجيته وماضيه، وحدته، أشياءه، تألقه، وسجنه الخاص، فيصنع تفلته الاجتماعي، اللغوي، المكوِّن لطقسه الشخصي، الخارج من أعماقه الأسطورية والجسدية، فالأسلوب هو صوت يزيِّن جسدًا مجهولاً وسريًا بأمزجة غير مألوفة. الأسلوب ليس سوى بعد عمودي، منغرز في ذاكرة الكاتب، يصنع غشاوته من خلال التصادم الحاصل بينه والمادة، فيجمع الأسلوب تجربة الكاتب الصادرة عن تجاذب بين مقصده وبنيته البدنية، ويكون بذلك نوعًا من أنواع الإستعارة كسِرٍّ، ليس يفك رموزه إلا حامله، إذ ليس في إمكان الطبيعة المقفلة-اللغة كشفه، لأنه خارج عنها، محبوس في جسد الكاتب. هذه العمودية السرية ليست كالكلام، أي ليست تمظهرًا أفقيًا سريعًا، بفعل العادة، ولكنها تمظهر كثيف، تزداد كثافته كلما تراكم الحطام الغريب عن اللغة وتخومها في جسد الكاتب وكلما تبلورت غايته بشكل أوضح. بمصدره الجسدي، يقع الأسلوب خارج الفن، كمفهوم يدل على الميثاق المعقود بين الكاتب والمجتمع. فهذا الأخير ليس سوى الشكل الآمن للأفق اللغوي الاجتماعي، وعند الخروج منه، بالأسلوب، يشعر الكاتب بالانسلاخ عن طمأنينته، عن الرحم اللغوية الساكنة، وهذا ما يُحدث لديه نوعًا من الرهبة والوحدة الاجتماعية واللغوية، يزيد من أسلوبه حدة وقوة، إن استمر في عزلته العمودية، وتتقلص عموديته، ويندمج بأفقيته، إن فضَّل طمأنينة الفن على عزلته العمودية تلك. لكن هذا لا يعني أن الأسلوب يدمر اللغة، بل يخرقها فقط بحريته المعزولة، لأنهما، في ما بعد، يشكلان طبيعة جديدة للكاتب، حيث لا يتمكن من الاختيار بينهما، بين عزلته التامة، واندماجه الكامل. اللغة بجوهرها النافي تخطُّ الحد الأساسي للإمكان، والأسلوب يكوِّن الضرورة التي تربط أمزجة الكاتب بلغته، فتكون طبيعته الجديدة نوعًا من المزاج الأفقي والممكن العمودي. داخل هذه الطبيعة، في إمكان الكاتب أن يجد نفسه على مسافة قريبة من طمأنينته الأفقية وعزلته العمودية، إذ يميل في بعض الأحيان إلى واحدة أكثر من الأخرى، ويقترب أكثر من واحدة دون أخرى، لكنه يبقى على علاقة بالإثنين، لأنه ليس في إمكانه البتة أن يختار بحرية تتخطى سرَّ الأسلوب ورحم الإمكان اللغوي. في علاقته هذه، يبقى الكاتب رهينة الشكل، إذ أن أفقيته وعموديته ليستا سوى شكلين، تاليًا قيمة شكلية لخرق أبعاده العمياء. ولكن بين اللغة والأسلوب تكمن حقيقة شكلية يلتزمها الكاتب، وتتكون فرديته من خلالها، فالكتابة تبدع كاتبها. في هذا البعد الثالث، غير الهندسي، تظهر هوية الكاتب بشكلها المستقل عن المعايير اللغوية الأفقية، وعن الثوابت العمودية، فيتبيَّن للكاتب أن عليه التمتع بعلامات مستقلة عن "براءة اللغة" ومستفيدة منها في الوقت نفسه من أجل الوصول إلى اختيار هدفها الإنساني الحر، والاقتراب أكثر من مساحات الآخر التاريخية، الذي عاش، أو يعيش، في الظرف التاريخي نفسه. فالكتابة، كما يقول بارت، "فعل تكاتف تاريخي"، إذ يربط فعل الخلق بالمجتمع، ويكون فعلاً حرًا، يطمح حامله إلى تغيير أبعاده وتحويلها لتصبح أكثر تناسقًا مع غاية الكتابة كتدليل على الحرية المرتبطة بالنيَّة الإنسانية وتصدعات التاريخ الكثيرة. هل يهجر الكاتب، بفعل الكتابة هذه، مسكنه الأفقي ويعلن لاضرورة عموديته؟ بعد التحام الكاتب بكتابته، يقرر تحديد ماهية الطبيعة، التي كانت قد شكَّلتها لغته وأسلوبه معًا، فيختار الكاتب أخلاقية بعده الجديد، بتحديد بعداه، الأفقي والعمودي، في الخارج الاجتماعي. لكنه ليس بتحديد فاعل، أي أن الكاتب لا يحدد الجماعة التي يتوجه اليها بكتابته، بل أنه تحديد فكري واعٍ فقط، أي كما يقول ساتر، "أحاول أن أتخيل نفسي أنني قارئي الخاص - كل الكتَّاب يقومون بذلك - [الكتابة] تطلب منا التسرب، مثاليًا ونقديًا في جسد الآخر، القارئ، الذي، في العمق، يضع يده بشكل كامل على الموضوع، الذي يصبح هو الخلاَّق". فعل الخلق هذا قائمٌ على استعمال لغة الكاتب الخاصة، المرتبطة تراكميًا بأفقيته وعموديته، والملتصقة أيضًا بهذا الاجتماعي الذي كان قد تشكل بفعل التفكير اللغوي الأفقي. نقع تاليًا، في نوع من الغموض، فنتساءل عن حرية الكاتب وعمله في اتجاه المسكن الآمن الذي انطلق منه في رحلته الشاقة تلك، رحلة الكتابة. نجد أن الكاتب، على رغم تفلته العمودي الأول، وعلى رغم تهربه في بعده الثالث-الكتابة، لا يزال سجين مسكنه الآمن. نشعر تاليًا، بإلتباس حول رحلته الشاقة هذه. فهو من ناحية يصطدم بالأفق اللغوي الاجتماعي، ويبتعد عنه، ومن ناحية أخرى، يحاول تحديد مساحته الأخلاقية داخل هذا الأفق، كأنه يبحث عن حريته داخل سجنه، أو أنه يكوِّن سجنه أو مسكنه الخاص. يخرج الكاتب من لغة الأفق، ويصنع لغته الممكنة، الممتدة في تاريخه الأفقي، والمتعلقة باستعارته العمودية الشخصية، وهذا ما نراه في كثير من النصوص الأدبية، التي يخلق كتَّابها لغتهم الخاصة، كأنهم بذلك يسبكون مفتاح سجنهم، فيتحررون منه ليدخلوا سجنهم الخاص، الأكثر أمانًا، والأكثر إحتواءً لعموديتهم، تاليًا الأكثر استيعابًا للكتابة. يرحل الكاتب عن مسكنه الأول، بعد زعزعة ثوابته الأفقية بعموديته، ويبني مسكنه الجديد، خارج اللغة الأولى أو داخلها، ولكن بنوع من الحرية الآنية، التي يحياها الكاتب بمسؤولية، ناتجة من اختياره للغته. وهذا ما عبَّر عنه الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي بقوله: "الآن/ أبحث لقومي/ عن لغة". فاللعبي كان يفتش عن لغة ثورية جديدة متحررة من بربرية ظرفه التاريخي، وتحرر جسده من سجنه الداخلي. فحرية الكتابة مرتبطة بثقل تاريخ حاملها، وبذاكرة مدلولات الكلمات، فـ"للكلمات ذاكرتها"، التي تلعب دورًا في اختيار الكاتب لها. اختيار الكاتب للغته الجديدة، يجعله سجين هذه اللغة وكلماتها، كما كان سجين الأفق الذي انطلق منه، ولا تزال مفاعيله مستمرة حتى عتبة سجنه الأفقي الجديد. هذا لا يعني أن الكاتب لم يتمتع يومًا بحرية تامة، على رغم هذه الرحلة الخطيرة كلها، بل بمجرد اختياره، يلحظ حريته، فلو كان لسكان برج بابل كتابتهم، لما سقط البرج إلا بعد لحظة حريتهم الآنية. في خضم الكتابة يحيا الكاتب وحدته وحريته للحظة، ويشعر، كما يقول ميشال بوتور، بأنه أصبح لديه "عموده الفقري" الخاص به، فجسد الكاتب له دوره في رحلة الكتابة، لأنه هو أيضًا جزءٌ من اللغة، الأفقية، والعمودية، وتفكيرهما. رحلة الكتابة، رحلة شاقة، شبيهة بفيلم سينمائي مرعب، غريب المعالم، عنيف المشاهد. ففي مسكن مقفل الأبواب، بلا نوافذ، تحس الشخصية الرئيسية بذعرها، وتبحث عن منفذ بعد اختناقها بطمأنينة الأفق الزائفة، فتفكر في هدم أسس اللغة، لكن لا قدرة لها على ذلك، وإن قدرت فلا تتحمل انفصامها عن ذاتها. ذلك أن رعبها سيتضاعف لأن ذئاب العزلة تتربص بجسدها، فيصنع ذعرها ووحدتها الكتابة كفكرة هدامة، تريد لإستعارتها أن تحيط بإمكانها للحظة، لبرهة من الحرية لا تنتهي إلا عندما يكتشف الكاتب أنه جثة، أنه جثتها، جثة الكتابة نفسها. *** *** *** |
|
|