الرِّسَالَةُ الثَّانِيَة
إلى لُبْنَى
غياث المرزوق
سَنَةٌ
وتَسْآلٌ
وأجْنِحَةٌ تَحُطُّ على ضِفافِ القَلْبِ
تَبْتكِرُ النَّخِيلاْ
***
عَيْناكِ
آهٍ لَوْ تكُونانِ المَرايا
لأرَى الفُراتَ يَهُزُّ نَرْجِسَةً
تُسَمِّيكِ الهَدِيلاْ
وَأرَانِ أكْنِزُ خَمْرَكِ الفَوَّاحَ
فِي قَبْوٍ
تُسَمِّيهِ البِلادُ على شَوارِعَ
لَسْتُ مِنْها
أوْ مَراكِبَ لَمْ أُشَاهِدْ
كَيْفَ خَاصَمَتِ الرِّيَاحَ
وَصَاحَبَتْ زَبَدًا ثَقِيلاْ
***
يَالِي وَوَجْهٍ مِنْ زَبَرْجَدَ
أيْطَلَيْ ظَبْيٍ
وَزَنْبَقَةٍ تُقَبِّلُهَا حِبَابُ الطَّلِّ
تَكْتُبُهَا النِّصَالُ عَلَى المَبَاسِمِ
/... كِلْمَةً
وَمَعَرَّةُ النُّعْمَانِ تَرْكَبُ ظِلَّهَا
وَالمُسْتَحِيلاْ
***
هَا
أنْتِ عَامٌ أبْيَضٌ
أوْ أخْضَرٌ
يَدْنُو لِكَيْ نَدْنُو
فَنَكْتُبَهُ قَصِيدَتَنَا البَتُولاْ
***
وَسَحَابَةٍ
حَامَتْ عَلَى جُزُرٍ مِنَ المَاضِي
وَنَامَتْ فِي خَوَابِيَ
لَمْ تَدَعْ لِلْوَصْلِ حِصَّتَهُ
وَلَكِنْ
أثْقَلَتْ جَفْنَيْكِ أوْ جَفْنَيَّ
مَاءً سَلْسَبِيلاْ
***
وَأنَا أُقَامِرُ بِالنُّبُوءَةِ
أرْتَدِي عُشًّا مِنَ الذِّكْرَى
وَأُعْلِنُ فِي القَبَائِلِ
أنَّ مَرْحَلَةً سَتَشْهَدُ أنَّنَا طِفْلانِ
يَرْقُصُ فَوْقَنَا طَيْرٌ
وَيَضْحَكُ بَيْنَنَا دَمْعٌ
وَسُنْبُلَةٌ تُفَتِّشُ عَنْ خِبَاءٍ
كَيْ يُسَامِرَ نَسْلُهَا
قَمَرًا دَلِيلاْ
***
وَأغُطُّ فِي بَلَدٍ بَلِيدٍ
أسْرَفَتْ رِجْلاهُ فِي القَيْدِ المُحَنَّطِ
مُنْذُ عَادٍ أوْ ثَمُودٍ
أمْتَطِي كَالفُلْكِ بَحْرًا
بَعْدَهُ بَحْرٌ وَيَابِسَةٌ
يُعِدَّانِ الشَّوَارِدَ فِي نِهَايةِ هذِهِ الدُّنْيَا
فَأُبْصِرُ شَادِنًا مِنْ بَابِلٍ
تَرِدُ البِدَايَةَ وَالأُصُولاْ
***
لِلْهَوَى شَيْئَانِ يَعْتَمِرَانِ صُورَتَهُ الرَّثِيمَةْ:
قَلْبٌ وَسَهْمٌ
لِلنَّوَى سَهْمٌ إضَافِيٌّ يُطَرِّزُ صُورَةً أُخْرَى
فَتَكْتُبُنِي الدِّمَاءُ عَلَى الدِّمَاءِ
وَأصْطَفِي شَجَرًا وَتَكْوِينًا
وَشُطْآنًا تُحَدِّقُ فِي النَّوارِسِ
وَالنَّوارِسُ تَخْمِشُ الجُرْحَ القَدِيمَ
عَلَى شِفَاهِ المَوْجِ
تَنْتَظِرُ النَّشِيدَ مُرَتَّلاً تَرْتِيلاْ
***
هَا
أنْتِ عَامٌ أبْيَضٌ
يَدْنُو لِكَيْ نَدْنُو
فَنَكْتُبَهُ قَصِيدَتَنَا البَتُولاْ
***
عَامٌ تُؤَرِّخُهُ عَلَى البَوْحِ
النَّيَازِكُ
أوْ تَرَانِيمٌ يُغَنِّيهَا حَفِيفُ الدَّوْحِ
تَسْمَعُهُ المَلائِكُ
أوْ فَرَاشٌ يَسْتَبِيحُ اللُّغْزَ مِنْ مُقَلٍ
فَتَعْشَقُهُ اللَّيَالِكُ
وَانْكِسَارُ الضَّوْءِ فِي عَسَلٍ
ليَفْتَتِحَ الدُّخُولَ إلَى البَنَفْسَجِ
يَرْتَميْ
حُلُمًا عَلَى حُلُمٍ
وَيَخْتَتِمَ الرِّسَالةَ وَالرَّحِيلاْ
***
عَامٌ سَيُولَدُ مِثْلَ زَيْتُونٍ
عَلَى العَيْنَيْنِ أخْضَرُهُ
وَسُمْرَتُهُ
تُذَكِّرُ بِاخْتِباءِ الشَّمْسِ فِي خِدْرٍ
تُغَازِلُ ضِحْكَةَ الصَّفْصَافِ
والصَّفْصَافُ يَنْقُشُ فَوْقَ صَفْحَةِ وَجْهِهَا
لامًا
فَبَاءً
ثُمَّ نُونًا
ثُمَّ أوَّلَ أبْجَدِيَّتِنَا
وَآخِرَهَا السَّلِيلاْ
***
هَا
أنْتِ عَامٌ أخْضَرٌ
يَدْنُو لِكَيْ نَدْنُو
فَنَكْتُبَهُ قَصِيدَتَنَا البَتُولاْ
***
عَامٌ يَجُودُ بِمَا يَجُودُ الجُودُ
وَالحِكَمُ العَتِيقَةُ تَسْتَقي
فَيْضَ الحَدَاثةِ والشَّوَاشِ
فَتَسْتَبي
نَثْرًا وأشْبَاهًا لِقَافِيَةٍ
وَهذا الغَيْثُ
يَفْصِلُنِي عَنِ الزَّمَنِ الغَبِيِّ
فَلَا أجِدْ
فِي البُعْدِ غَيْرَ يَرَاعَةٍ تَبْكِي
وَتَسْألُ عَنْ بِلادٍ
كُنْتُ أعْرِفُهَا وَتَعْرِفُنِي
/... فَتًى
نَسِيَ القَصِيدةَ فَوْقَ دَالِيَةٍ
وَرَاحَ لِيَلْعَنَ الصَّنَمَ الحَرُونَ
وَسَادِنًا شَبِقًا
وَعَشْتارًا تَلُوذُ بِصَمْتِهَا
عَرَبًا مَنَاطِقَةً
وَأشْبَاحًا زَنَادِقَةً
/... وَلا أدْرِي
أكُنْتِ تَرَيْنَ زَوْبَعَةً مِنَ المَوْتِ القَبِيحِ
تَهِيجُ صَوْبَ مَفَارِقِ الأطْفَالِ
كَيْ يَثِبُوا
فَنَذْكُرُهُمْ شَظَايَاْ
أوْ تَرَيْنَ دَمًا
يُوَزِّعُ هذِهِ الدُّنْيَا عَلَى مَهَلٍ
وَألْسِنَةً تُطَارِدُهَا سِيَاطُ الجُوعِ
فِي كُلِّ الزَّوَايَاْ
***
فَالحَرْبُ مَسْألَةُ القَطِيعِ لِمَنْ يَدُكُّونَ الجِيَادْ
وَالحَرْبُ خَاتِمَةٌ الجُنُونِ
وَبِالجُنُونِ
يُحِيلُهَا السِّمْسَارُ مَائِدَةَ الجَرَادْ
وَطَبِيعَةٌ ثَكْلَى
وَإرْمٌ لا تَقِرُّ بِمُسْتَقَرٍّ أوْ عِمَادٍ
هَا هُنَا دَمْعٌ
هُنَاكَ لَقَالِقٌ
تَجْثُو عَلَى شَطٍّ مِنَ الزَّيْتِ المُمَلَّحِ
تَسْتَمِدُّ الرُّوحَ فِي عَبَثٍ
وَتَزْحَفُ كَالسَّلاحِفِ فَوْقَ هَامَتِهَا
فَتَجْرُفُهَا النُّفَايَاْ
وَهُنَاكَ فِي طَرَفٍ مِنَ الإسْفِنْكْسِ جُنْدٌ سَاذَجُونَ
عَلَى بِسَاطِ الرَّمْلِ يَزْدَرِدُونَ أرْغِفَةَ التُّرَابِ
وَيَحْتَسُونَ القَارَ، يَنْتَظِرُونَ سَاعَتَهُمْ
/... وَأزْعَقُ بِالفُرَاتِ:
"سَمَاءُ دِجْلَةَ –اِبْنِ أُمِّكَ– خَانَهَا الحَكَمَانِ"
يَحْتَرِقُ الصَّدَى
كَهَشِيمِ عَادَتِنَا
وَيَسْحَمُّ المَدَى
وَيَمُطُّ أذْرُعَهُ الدُّخَانْ
فَبِأيِّ آلاءٍ تُكَذِّبُنِي اليَدَانِ
وَمَا تَبَقَّى مِنْ بَقَايَاْ
***
لُبْنَى
تَرَكْتُ مَدِينَةً تَحْبُو كَأرْمَلَةٍ بِفُسْتَانِ الحِدَادِ
وَحَلْمَتَاهَا تَنْزِفَانِ عَلَى الرَّمَادِ
وَطَائِرُ الفِينِيقِ يَرْتَجِلُ انْتِفَاضَاتِ السَّوَادِ
وَلا سَوَادَ أشَدَّ مِنْ عَسَسٍ
يَقُدُّونَ الضَّحَايَاْ
/... تَحْتَ مِقْصَلَةٍ مُجَنْزَرَةٍ
تَمُرُّ
وَتَحْصِدُ المَوْتَى وَمَنْ صَاتُوا
وَتُدْمِي خُبْزَ مَنْ بَاتُوا
بِسِجْنٍ لَسْتُ أذْكُرُهُ
وَأذْكُرُ دَمْعَةً
هِيَ مَا اسْتَرَاحَ الظِّلُّ فِيهَا
مِنْ فَيَافِيهَا
تَعُجُّ عَجَاجَةٌ
صَالَتْ
وَجَالَتْ
وَاسْتَكَانَتْ
تَرْسُمُ النَّهْرَ الحَزِينَ
وَأصْدِقَاءً طَيِّبِينَ
وَشَاعِرًا حَمَلَ الصَّبَايَاْ
/... نَحْوَ أشْرِعَةٍ
وَأبْحَرَ فِي عُبَابٍ لَسْتُ أذْكُرُهُ
وَأذْكُرُ سَاحِلاً يَلْتَفُّ كَالأفْعَى
وَقُرْصَانًا تُحِيطُ بِهِ السَّبَايَاْ
/... لَيْلَةً أوْ لَيْلَتَيْنِ
وَشَهْرَزَادُ تَنَامُ مِلْءَ جُفُونِهَا
وَأنَا أُعَلِّمُهَا الحَكَايَاْ
***
لُبْنَى
خَرَجْتُ مِنَ القَبَائِلِ
فِي دَمِي لُغَةٌ وَتَارِيخٌ
وَتَحْضُنُنِي الخِيَامُ عَلَى الرَّصِيفِ
وَأحْضُنُ البَدْوَ القُدَامَىْ
وَدَخَلْتُ أسْتَبِقُ المَنَاسِكَ
أحْتَمِي بِعَبَاءَةٍ
وَيَدَيْنِ تَحْتَرِقَانِ فِي نَايٍ
وَأعْزِفُ مِنْ لُحُونٍ مَاتَ صَاحِبُهَا
فَيُطْرَبُ قَاتِلٌ
وَأنَا القَتِيلُ، أنَا القَتِيلُ
وَهَا زَمَانٌ لَنْ أُوَدِّعَهُ عَلَى زَبَدٍ
فَيَهْجُرَنِي كَمَنْ هَجَرَ الغَرَامَاْ
***
لُبْنَى اعْذُرِينِي
تِلْكِ فَاتِحَةٌ
أُرَتِّلُ بِاسْمِهَا سُوَرًا
وَأقْرَأُ مِنْ كِتَابٍ لا يُفَارِقُنِي
وَأُهْدِيكِ السَّلامَاْ
تِلْكِ خَاتِمَةٌ
خَتَمْتُ عَلَى شَفَا خَمَّارَةٍ أُفُقًا
وَأخْتِمُ رَاحَتَيَّ عَلَى كُؤُوسٍ
لَسْتُ أذْكُرُهَا
وَيَذْكُرُنِي النَّدَامَىْ
***
هَا
أنْتِ فِي بَلَدٍ
أرَاهُ عَلَى سَفِينِ الشَّوْقِ يَحْمِلُنِي
وَأسْألُ عَنْ هَوَاءٍ
كُنْتُ أحْمِلُهُ كَأُغْنِيَةٍ وَزَادٍ:
- هَلْ تُلَوِّثُهُ العَنَاكِبُ أمْ كِلَابُ البَحْرِ؟
- لا أدْرِي تَمَامَاْ
***
يَا
ابْنَةَ الأُمِّ اسْمَعِينِي
وَاسْمَحِي لِيَدِي تَخُطِّ القَلْبَ فِي هذَا النَّشِيدْ
عَامَ الطُّفُولَةِ والنَّدَى
عَامًا تُرَتِّبُهُ الحَمَائِمُ فَوْقَ أغْصَانٍ تَمِيدْ
***
يَا
حُلْوَةً
مَا زِلْتِ طَيْفًا
سَوْفَ أحْفُرُهُ عَلَى حَجَرٍ بِذَاكِرَتِي
وَأنْشُرُهُ بَشَائِرَ فِي لِحَاظٍ
تَعْشَقُ الزَّمَنَ المُضِيءَ
وَتُنْعِشُ النَّجْمَ الأفُولاْ
***
هَا
أنْتِ عَامٌ أبْيَضٌ
أوْ أخْضَرٌ
يَدْنُو لِكَيْ نَدْنُو
فَنَكْتُبَهُ قَصِيدَتَنَا البَتُولاْ
***
عَامٌ
وَتَكْتُبُهُ الطَّبِيعةُ فَوْقَ هَامَةِ شَمْعَةٍ
عَامًا جَمِيلاْ
***
*** ***
دبلن، ديسمبر (كانون الأول) 1989،
يناير (كانون الثاني) 1990