سامية عياش... شاعرية المعنى والمبنى

 

محمد باقي محمد

إليك أي سامية على البعد عربون محبة

في نصِّها الموسوم بـ المرآة [النص آخر المقال] يحيلنا العنوان إلى مفهوم الانعكاس، فأيُّ صورة ستعكسها المرآة إذ ننظر إليها!؟ أهي صورتنا الراهنة، أم صورتنا القديمة تلك المعجونة بالذكريات!؟ وهل الانعكاس هنا فعل ميكانيكي، يحيل إلى الظاهر، أم فعل نفسي يذهب عميقًا في تشوفات النفس البشرية وانكساراتها!؟ ثمَّ ألا تشي هذه التساؤلات بنجاح القاصَّة في تخيُّر عنوان يروم التشويق، وذلك عبر مسافة مُفترضَة بينه وبين متنه، ليورط قارئه في لعبة مُضمرَة تنتهي به إلى قراءة النصِّ، ويُشكِّل عتبة نصية مُمهِّدة بآن، محققًا بذلك وظيفة سيميائية، وأخرى معرفية، مناطتين به أساسًا!؟

وفي الأطروحي يتبدى الإنساني شفيفًا آسرًا، ثمة فتاة في زهراتها العشرين ربما أو أكثر قليلاً، تستيقظ باستيقاظ الصباح، وصوت الدرويش الراحل محمود في إحدى قصائده يبللها بفرح نديٍّ، فتتلمَّس أطرافها المتكسِّرات على حواف السرير، وتنهض بجذعها عنه، ثم تعود برأسها إلى الوسادة، فيما قصائد استأثرت بقناديل العمر تطفر من البؤبؤين، إحداها للإماراتية فاطمة الناهض، والثانية لنبي العصر الأكبر علي أحمد السعيد المعروف بأدونيس، ناهيك عن ثلاث لشاعر اجتمع على المدرسة والظاهرة بآن تحت اسم محمود درويش، تفجعت برحيله المنطقة قبل حين، لتُضيف هي عليهن مقطعًا نُشر غبَّ وفاته، وتشتغل على الأليف من التفاصيل الصغيرة والعادي، فترفعها إلى مقام الرهافة، كأن تدفع فتاتها اللحاف عن جسدها... أن تتنفَّس بعمق في وجه الأسئلة الملحاحة... وأن تغلق باب الحمَّام على أسرارها التي قد لا تتعدى حلمًا أبيض عن فارس أبيض يمتطي حصانًا أبيض، ليُسْلمها إلى حقول الغبطة السارحة، فتتحرى سحنتها في المرآة برضى، وتنثال قطرات الماء على الملابس إذ تعمِّد وجهها به، ومن الأعماق تتعالى أغنية لفيروز عن نوم يعزُّ، وفرار منه إليه، ثم تتوالى الأسئلة عن النشوة، وإمكان الاستيقاظ على لذة مُغايرة، من غير أن تتشظى البهجة التي تتفاجأ بأنف طويل مائل، وعينين مُشبعتين بزمن يلوب على عجل، تطلان عليها من المرآة، أو أن تأسى النفس على عريس غادرها ذات مخافة ودهشة، غبَّ أن أجابته على سؤاله المُلغز، أن ما هو الزوج أو الزواج، بأنه إمكان أن يرى المرء ذاته في مرآة الآخر! ولأنها أدركت بأنها لن تجد روحها في مرآته انسحبت بصمت، لينغلق النصُّ على سؤال حائر "ترى أي يد تلك التي سيُقيَّض لها أن تسحبك أيتها الذات من ذاتك... أيُّ روح!؟"

وفي التنفيذ اتكأت الـ "عياش" على مبدأ شهير، يقوم على تحويل التجربة إلى ذكرى، والذكرى إلى تعبير فني، في تلخيص لجوهر العملية الفنية، من غير أن تأبه لغياب ما بين هذا وذاك من تفكيك فتحليل واستخلاص، ثم ترتيب الأجزاء ترتيبًا قصديًا مُضمرًا ليشي بمقولة القصِّ، ومن غير أن نجد الطريق إلى الإمساك بها على زلل، ربما لأنها قدَّمت أغنية للحياة، أو لأنَّ وظيفة الفنِّ تذهب إلى إقناعنا بأنَّ الحياة قابلة لأن تُعاش على تناقضاتها!

ولأنها أوكأت نصَّها إلى ضمير المخاطب، لتُحيلنا إلى الأساليب الحديثة في القصِّ، تراخى إعمالها لمبدأ الحذف والاصطفاء، ذلك أنَّ النصَّ – أساسًا – يحتفي بالتفاصيل، ويبني أمجاده – إذا جاز التعبير – عليها ، ثم عمدت إلى كشف مُتدرج عن كنه المتن، ليُفصح عن مراميه، ربما لأنَّ زمن القصِّ في أسِّه لم يكن يتجاوز هنيهات تلي الاستيقاظ من النوم، ما جعل إمكان اللعب عليه غير مُتاحًا إلا في حدود، كما في تذكُّر الفتاة لخاطب طلبَ يدها قبل أيام، فأحالتنا إلى سرد استعادي في غير موضع، وأحالت الفيزيائي من الزمن إلى المُنكسر، ناسخة عنه نسق التعاقب، الذي يسير عادة من الماضي نحو الحاضر فالمستقبل، فأتاح لها اللعب بحدود على التقديم والتأخير، وضخَّ في المتن المزيد من التوتر الدرامي!

أمَّا لغة الـ "عياش" فهي تميل إلى التوصيف، ربما لأنَّ الحدث جاء على الشاعري، فتوهجَّت المفردات لترقى إلى توهُّج المرجع الواقعي، ما سمح لها بالاشتغال على المجنح ذي الأفياء والظلال والتوريات، فصوت الشخصية المحورية يعلو ليقتنص البدايات، وأطرافها ترمي بمُبرِّرات الفرح في مكان قصي، ويدها تنفيها من ساحة النوم، والزنابق وحدها تنبىء بأنَّ الماء كالمعدن!

لقد اقتنصت لغة الـ "عياش" من قصيدة النثر – مع تحفظنا على التسمية، إذ لماذا لا تكون قصيدة فقط، وعندها نحكم عليها بالجمال من عدمه!؟ - فيضًا غنائيًا دراميًا ليس له حدود، فتاخمت الشعري في تكثيفه، وزاحمته على صوره، من غير أن تطغى الصور على المعنى، فتغيِّمه أو تغيِّبه!

فيما جاءت على الكثير من تفاصيل المكان، المشغول بدلالة حالات النفس، فمنحته حضورًا نفسيًا، يُضاف إلى حضوره الواقعي، الذي يبيء الحدث والشخوص، بيد أنها لم ترقَ به إلى فضاء قصصي، يندغم بمصائر شخوصه، ويقف معهم على السطر ذاته كندٍّ، أو كمُزاحم وبطل!

وفي الخواتيم أغلقت القاصة متنها بسؤال رهيف كحدِّ مُدية، سؤال غير مُتوقَع، يذهب أبعد من المرآة، ربما ليعكس قلق المرأة في مجتمع تظله منظومة ذهنية ذكورية لا ترحم، ويُبهظه مفهوم الزمن، بما هو عدو أزلي لكل ما هو بريء وجميل، لينضويَ على المدهش، الذي يتوفر على المفارق والصادم، ولتلوح في الأفق بارقة تحيلنا إلى نصٍّ اجتمع على نقطة تقاطع في تشابك عناصره وبؤرة تفجير، ما اقتضى التنويه!

*** *** ***

نص مرآة لسامية مصطفى عياش

صوت داخلي يوقظكِ، يقتنص البدايات ويعلو، يكرر ذاته عشرات المرات، ويثير نشوة قديمة:

"والآن، أقفزُ
صاحيًا وأرى وأسمع. كلُّ هذا الزنبق
السحري لي: بالزنبقِ امتلأ الهواء كأنَّ
موسيقى ستصدح."

يهيأ إليكِ أنها المرة الأولى التي تستيقظين فيها بتلك الرغبة في الحياة! فهل أثاركِ يا حلوتي أن يبعث شيء من درويش كأعجوبة ليغني وينشر فيكِ فرحًا خلتِ أنه لا يأبه بكِ؟ وهل يكفي بعض الفرح كي تتناسي فيه طعم الغياب ولعنته؟

يتمطى شيء ويمشي في جسدكِ الصغير، يخال بعد تفكير ما أنها تلك الزنبقات التي يصفها درويشك. أطرافكِ تتلمس حوافَّ السرير وترمي كل مبررات الفرح في مكان قصي، إذ ما الذي سيهم الروح الآن سوى الفرح ذاته؟ ترفعين رأسك ثم تلقينه بسرعة فوق الوسادة. يتحرك البؤبؤان حيث علقتِ قصائد أخذت لبَّ قناديل العمر.

قصيدة لفاطمة الناهض عن البحر، وأخرى لأدونيس، وثلاث قصائد لمحمود درويش أضفتِ إليها مقطعًا مما نشر بعد وفاته، كبرتِ خطها كي لا تنسي في غمرة المدى:

"كي أوسِّعَ هذا المدى
كان لا بُدَّ لي:
- من سنونوة ثانية
- وخروج على القافية
- وانتباه إلى سعة الهاويةْ".

تزيلين الغطاء عنكِ، وتمشين في يومكِ بموسيقى الزنابق تلك.

تأخذين الأنفاس العميقة في حين تتقافز الأسئلة أمامك كعصافير شقية...

تغلقين باب الحمام؛ فالأسرار لا تخرج عن واحد...

تنظرين لوجهكِ في المرآة وتبتسمين. هي عادتكِ لتختبري صدق دقائق الفرح، وحين تتسع الشفاه يمنه ويسرة تغمركِ موجة من الرضا، فتغسلين وجهك بماء يتناثر على ملابسك ليبلل قلبك!

تجربين تذوق الأشياء مغمضة العينين، فتتحرك الشفتين بأغنية فيروز التي لم تجرئي من وقت بعيد على غنائها: "من عز النوم بتسرقني... بهرب لبعيد بتسبقني!".

إذ كم تقلقكِ تلك اليد التي تمتد على غير العادة لتنفيكِ من مساحة النوم اللذيذة وتدخلك في دهاليز البقاء في ألق النشوة وإمكانات اليقظة بلذة مغايرة! وكم تغريكِ باللهاث خلف ذاتكِ التي تظنين – بقليل من الأسى، وكثير من التفاؤل – أنكِ لم تجديها رغم كل ما فقدتِ من قليل وكثير!

ياه! أتراه جميل أن تجدي ذاتكِ الأخرى؟ غير تلك التي في المرآة، والتي لها أنف طويل تشم الحكايات فتبدو غيرها، مليئة بتفاصيل الحلم. غير تلك العينين أيضًا، إذ ترينها مشبعة بجنون يعجِّل الزمن ويدوِّره كما في نواعير حماة. تهزين رأسكِ للأعلى والأسفل، ثم تقتربي من المرآة بتساؤل يخطر على البال توًا: صحيح يا صغيرة، لِمَ كل هذا الشغف الغريب بصوت الماء في حماة تحديدًا، يعني الماء هو هو، وصوته لا يتغير. وحدها الزنابق من تقول لك إن الماء كالمعدن، أجناس...!

"من عز النوم بتسرقني، بهرب لبعيد بتسبقني..!".

تكركرين بالضحك... تذكرين العريس الذي جاءك من أيام، حين سألكِ: ما الزوج في نظرك؟ فابتسمتِ. أغمضتِ عينكِ كأنكِ في ذروة حسٍّ لا يعني سواكِ، وفضحتِ القلب حين قلتِ: إنها أن تجد ذاتك في مرآة لا تعكس صورتك!

ملامحه بدت مشدودة تنتظر أي ارتخاء يفرج عنها، ففتح فاه قليلاً، ثم تناثرت حروفه في الهواء: "ههه، لم أقل أجيبي بشحٍّ..!؟".

عرفتِ أنه لا مرآة فيه لروحكِ، فابتسمتِ، وانسحبتِ من الجلسة دون كلام.

تتحسسين وجنتيكِ، وترفعين خصل شعركِ النازلة على جبهتكِ، وتغسلين وجهكِ.

تعود الأفكار للحركة كبهلوان أمامكِ، لكن يدَّ أحد إخوتكِ يلغي حوارًا لا يتوقف إذ يطرق الباب، فتفتحينه بعدما تمتمتِ: "يا ذاتي، أي يد ستسحبكِ مني...، أي روح؟".

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود