|
رواية الصحراء1: حداثة عدمية؟
دوى صوت إبراهيم الكوني في فضاء الرواية العربية حوالي تسعينيات القرن الماضي وشد القراء بمادة غزيرة لها طعم خاص: نبرة جديدة في قص سلس مشوق، وموضوع مألوف يلتبس فيه الحنين بالنفور، يحيل إلى مناخ طلقته الحداثة فإذا به يتزيا بزي غاو فيه من البراءة الأولى شحنة من خيال وسذاجة ملأى بالمعنى، ومن عالم الفكر شطحات مغرية. ثم انتشرت ترجماته في بلدان شتى بحيث أصبحت تحتل، في ألمانيا مثلاً، حيزًا غير يسير من رفوف مكتبات البيع والقراءة، وكبر رقم مبيعاتها بحيث تصدَّر فترةً لائحة المبيعات الروائية المترجمة. مما أكسب صاحبها في العالم العربي مزيدًا من الشرعية، فإذا به يقلد جائزة الرواية العربية الصادرة عن المجلس الأعلى للثقافة في دروته الأخيرة المنعقدة في القاهرة منتصف كانون الأول 2010. جائزة مستحقة ومحقة في المشهد الروائي العربي. وتسأل مترجمها الألماني عن سبب نجاح هذه الأعمال في بلده بالتحديد ودون غيره من بلدان أوروبا، فيجيب: إنه عالم الصحراء بآفاقه اللامتناهية وأساطيره الثرية على شح موارده وشظف عيشه، يقتحم زمن المدينة التي على ضيق أفقها تعج بحركة لا تنتهي، وبوفرة إنتاج يبلغ حد البشم (في جوار فقر مدقع) وبفلسفة استهلاكية منعتقة من كل عقال وكذلك بريب من مستقبل لم يعد العلم ضامنًا لصلاحيته. أتى عالم الصحراء هذا نموذجًا يدعم فلسفة البيئة المزدهرة في هذا البلد، بديلاً معقولاً من نمو اقتصادي ملتبس النتائج. وتجادل: كل هذا صحيح! بل قد نضيف إليه عاملين مساعدين. أولهما أن رواية الصحراء انبثقت فجأة في مشهد روائي عربي موضوعه المستحب المدينة العربية على أبواب الحداثة، وامتداد صورتها وصورتها النقيضة معًا في الريف، وهو مشهد ألفه القارئ الغربي وربما اعتبره، في صيغته الواقعية الغالبة، صورة عن مرحلة سابقة من تراثه الأدبي، أي بتعبير آخر «بضاعته ردت إليه». وثاني العاملين أن صوت الكوني يصدر عن هامش جغرافي (أطراف الصحراء الليبية والجزائرية) وبشري (مجتمع الطوارق) يكسر رتابة النتاج المركزي ونمطيته، بل إنه يخبر عن تعددية بشرية وثقافية يبدو أن الفكر الثقافي – والممارسة السياسية – نحاها مرحليًا ليعبئ كل طاقات المجتمع حول فلسفة قومية، مبسطة غالبًا، لا بد منها في مواجهة التحديات الكبيرة القائمة. وقد يذهب البعض إلى القول بأن نتاج الكوني إنما هو انبثاق المكبوت والمسكوت عنه في ثقافة عربية تنصاع لوحدة الصوت. وقد يضيف إنها استبطان لغة مغايرة للغة عربية مهيمنة بقصد إزاحتها عن موقعها. وواضح أن في هذا القول الأخير صدى لما يقال عن كُتاب عرب فرنكفونيين في مجابهتهم للغة الفرنسية، وصدى آخر من موقف بعض الأمازيغيين تجاه لغة عربية رسمية لم تترك في بلدان المغرب العربي للأمازيغية موقعًا ذا بال (أطروحة عمل جامعي قدم مؤخرًا لنيل الدكتوراه من جامعة ليون الثانية). ولا يستطيع أي مفكر جاد أن يغض الطرف عن هذه التساؤلات أو يتجاوزها على أنها مجرد كلام مدسوس أو «كلام حق يراد به باطل». فالتعددية الاجتماعية والإتنية والثقافية واللغوية والعقائدية محك رئيسي لبناء مجتمع متحرر ومنفتح قابل للتطور، لا سيما في فترة يحاول فيها نمط الحكم الاستفرادي، مدعومًا بتيار معاد ومكمل في الوقت نفسه، آخذ برؤية دينية مطلقة ومكتملة منذ البدايات، يلغي كل صوت مباين على أنه دعم واع أو لاواع للهجمة الغربية، وهذا واقع لا مجال لإنكاره. تناقض غير أن السؤال المطروح حول إقبال الجمهور الألماني على عالم إبراهيم الكوني يبقى دون جواب. فإن قبلنا بأجوبة المترجم وإضافاتها، على علاتها، نبقى عاجزين عن فهم أمر ينم عن تناقض مطلق بين رؤية الكوني للعالم والحداثة التي يبني عليها المجتمع الألماني – بل قل الغربي – فرادته، حداثة هي نفسها مطمح المثقفين العرب. صحيح أن النبرة المتجلية في أعمال الكوني، والقدرة السردية الفريدة التي توفر للقارئ متعة الانصات ودهشة الولوج إلى عالم بكر ساحر، قد تلهيان هذا القارئ عن الغور إلى مبنع القول وفلسفته. إلا أن المتأمل بدون تحيز في ركيزة فكر الكوني يلمس، ما وراء الكفاءة الأدبية، نظرة إلى الوجود وإلى المرأة تتنافى وفكر الحداثة الغربية، بل فكر كل من يتلمس في النهضة الأوروبية المؤسسة للحداثة بعدًا إنسانيًا يتجاوز الحدود الجغرافية والثقافات. يحتفي الكوني بالصحراء وأساطيرها وثقافتها المحملة برؤية خاصة للوجود. ولا يضير هذا الاحتفاء إشارة بعضهم إلى أن قول الكوني لا يعبر عن رؤية ابن الصحراء (الطوارق) بقدر ما يعبر عن رؤية الكوني مبدعًا لعالمه الخاص. فلكل روائي حقه في تخيل حر ينبع من صميمه، في تأويل إرث مشترك يحمله فلسفته وهواجسه. حجر العثرة في الأمر هو أن هذا الاحتفاء دعوة إلى الأخذ بالعدمية من موقف عقائدي مطلق لا ينبع من التجربة الإنسانية الواقعية، إذ لا تقرر أعمال الكوني أن الموت هو المصير المشترك الحتمي لكل ذي نفَس. فذلك قول قديم لا جدة فيه ولا حرج على من شاء أن يأخذ به. بل إنها تدعو – بمعنى الدعوى – إلى اعتبار السعي إلى العدم الذي منه انبثق الوجود ذروة اكتمال الوجود الإنساني: دعوى تتردد في أرجاء النص الكوني منذ بداياته في قصة نزيف الحجر مثلاً (راجع مقال ريما سليمان في كتابنا المترجم إلى العربية في المجلس الأعلى للثقافة: جمالية المكان في الأدب العربي الحديث 2003). ولا تقوم هذه الدعوى على تجربة وجودية أو جدل نظري يطمئن إليهما الفكر وإن ارتأى عكسهما، بل على حقيقة تستمد شرعيتها من قائلها وتبرر نفسها بنفسها. ولا يوهمنا استدعاء الروائي عددًا كبيرًا من الأساطير التأسيسية المقتبسة من مختلف الثقافات بأنه حوار بين الراوي والفكر الإنساني (راجع في الكتاب نفسه مقال لوك ديهفيلس). إذ إن هذه النظريات والفلسفات والعقائد تتجاور على جفاء وتتقاطع دون تآلف لا يوحد ما بينها إلا موقف فردي قسري. ولعل الإحالة المستمرة على عالم دوستويفسكي دليل كاف على قولنا. يكثر الكوني من الاستدلال به، غير أنه يجرده من ركيزته الحياتية: رؤية طافحة بعشق الحياة، تتقاطع فيها أصوات جدلية كثيرة – من عدمية إلى إيمانية إلى تصوفية ومشككة – بها تتجلى بتعقد جزيل مأساة الوجود الإنساني وعظمته، مع ما تستدعيه من بحث شاق عن خلاص يتوسمه الكاتب الروسي في وجه المسيح الذي تخونه مؤسسته. ولا يستبقي الكوني من «حكمة» دوستويفسكي المتجذرة في الحياة إلا بعدًا مجتزءًا يعلي من شأن الزهد. فإن صح أن اكتمال الوجود وذروته في السعي إلى العدم، فكيف يرى فيه الفكر الألماني المؤسس على بروميثية واضحة وجهًا من وجوه حداثته؟ وأغرب من ذلك موقف الكوني من المرأة. شرها وشر المال سواء، والأول أفظع لأنه أصل الوجود. الحكمة عنده في صرم كل علاقة بهما. يكفي للتأكد من ذلك أن نقرأ روايته التبر. فالراوي كما مهره يسقطان، بركونهما إلى حب «أنثى» (كذا)، في الشر المطلق ويترديان إلى أرذل العمر قبل أن يلقيا حتفهما المستحق. المرأة مجرد أنثى، شأنها شأن الناقة، هي منبع الشر وأصله. يفيض هذا القول عن الدعوة إلى العفة أو الزهد ليقوم إدانة مطلقة للمرأة بوصفها مجرد أنثى لا حياة بدونها، وينسجم مع الدعوة إلى العدمية. لا مانع أن نرى في ذلك شيئًا من رومانسية سهلة، ولكن كيف لرجل ينحدر من امرأة ويبني بها ولا يكتمل وجودًا وفكرًا وعاطفة إلا بها ولا يرى فيها إلا الشر؟ يستعيد القارئ بابتسامة متسامحة قولاً يسند إلى علي بن أبي طالب في ساعة غضب: "المرأة شر كلها وشر ما فيها أنها شر لا بد منه". ولكن كيف له أن يتبنى موقف بطل الكوني، وهو لسان حال المؤلف، دون أن يستذل نفسه؟ سؤال ينسحب على القارئ العربي أولاً وهو الذي يسعى إلى حياة شخصية فردية سليمة تؤسس لمجتمع متكامل يلبي الحاجات لينمي الطاقات ويفتحه على آفاق الإنسان الرحبة. وينسحب أكثر على القارئ الألماني – بما فيه القارئة – الذي يرى في المساواة حتى المغالاة بين الجنسين سمة أساسية لوجوده الاقتصادي والفكري والعاطفي لا يستقيم إلا بها، بل إنه يرفع الدعاوى ضد من يغمز من قدر المرأة، ويعتبر أن خلافه الأساسي مع «الفكر الإسلامي» (بتعميم القول)، هو في الدور المتاح للمرأة سلفًا في هذه المجتمعات. إن في الاحتفاء الأعمى بأدب إبراهيم الكوني لمفارقة كبرى، تستدعي أسئلة عديدة. منها سؤال حول الأدب، لا عن حرية إنتاجه وبدونها ينتفي كل سؤال، بل عن قدرتنا على تلقينا الأدب على أنه موضوع طريف أو شكل غير مسبوق، ما يعيدنا إلى إشكالية الشكل وتقنيته ممرًا إلى الحداثة. وسؤال ثان عن تصورنا لذاتنا الفردية والجمعية التي قد لا نراها إلا في صورة الآخر. وسؤال آخر لا أخير عن صورة لنا يبحث عنها بعض القراء الغربيين، وكثيرًا ما يستمد منهم كتابنا بعض شرعيتهم. نعم! لا تزال رحلتنا إلى العالمية طويلة. *** *** *** السفير
|
|
|