|
بسم
الله الرحمن الرحيم العَـولَـمَـة
والهُـويَّـة[1] الهوية
لا يمكن لها أن تُوجد إلا عبر الاختلاف. إن رفض
الآخر هو تدميرٌ نهائي للأنا. –
پول ريكور العولمة
ليست مؤامرةً كبرى، ولا مخططًا استعماريًّا
خبيثًا، ولا بلاءً محضًا، بل هي واقع موضوعي
أنتجه العقلُ البشري. وهو يعج بالتحديات
ويفرض نفسه، بحيث لا يمكن لنا تجاهُله ولا
تجاوُزه (نحن نفرِّق هنا بين العولمة، كواقع
موضوعي، وبين العولمة، كإيديولوجيا). ومسألة الهوية تثور في
مقابل العولمة، لأنها تفرض للهوية معنًى
جديدًا. ومهما قيل عن الزمان والمكان الذي دخل
فيه المفهومان وعي البشر، فإن الحقيقة المهمة
التي يجب استحضارُها دائمًا هي أن العولمة،
كواقع موضوعي، هي خلق إنساني، وأن هذا الخلق
الجديد هو الذي أثار موضوع الهوية وأدخلَه
وعي البشر بهذه الطريقة الصاخبة (صاخبة في
مجتمعاتنا، لأننا لم نحسم خياراتنا الثقافية
حسمًا نهائيًّا)، بما أحدث من تغيير في معنيَي
الزمان والمكان. العولمة تحدٍّ للهويات
الجماعية. ويمكن لنا القول إن صراع العولمة
والهوية مشكلة عالمية على مستويات مختلفة.
لكن الثقافات الحية تستطيع التكيف بإعادة
بناء الهوية من أفق العالمية، بصياغة
إستراتيجيات إنسانية. إن أبسط تعريف للعولمة هو
مفهوم القرية العالمية. كما أن الهوية، في
أبسط التعريفات بها، هي التفرد. وهذا
التفرد هو منتج تاريخي: "والله
أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أمَّهَاتِكُم لا
تَعْلَمُونَ شَيئًا" (النحل 78)، دون أن يعني
ذلك أنها، أي الهوية، أسيرة للتاريخ. فكل مَن
له معرفة معقولة بتاريخ البشر يعرف كيف تطورت
الهويات ومتى نشأت الانتماءات. فالهوية، على
الرغم من أنها تدين للتاريخ، تشبه جينوم Genome
الكائن الحي. فهي ليست مفهومًا مُصْمَتًا
ثابتًا أو جوهرًا، بل مقولة احتمالية،
قابلة للتطور عبر التكيف الدائم وقادرة عليه،
تمامًا كما يحدث في عالم البيولوجيا، عبر
إستراتيجيات الانفتاح والتأصيل والتحول وما
قد يصاحب ذلك من خلخلة وأزمات. ويمكن لنا
القول إن هناك أربعة عوامل لعبت دورًا مميزًا
في صناعة الهوية: 1.
الذات: بما تحمله من موروث
وعادات وتقاليد وخيال وتاريخ وفنون وآداب. 2.
المكان: باعتباره الفضاء
الذي فيه نولد وننمو ونتلقى تعليمنا وقيمنا،
وفيه نبني شخصياتنا وأجسامنا وخبراتنا، وفيه
تتفتق مواهبنا وقدراتنا ويتشكل فهمنا للوجود
والزمان والمكان، بفضاءاته وتشابكاته
الثقافية وعلاقاته الاجتماعية والنفسانية. 3.
السرديَّات الكبرى:
وهي من أهم الأدوات التي نعرِّف بها ذواتنا.
فهي مكِّونة وحافظة لمعاني الهوية المتجسدة
في الخطاب الجمعي، الذي يشمل المحظورات
والأوامر وأحكام القيمة والمُثُل والحكايات
الخرافية، التي يجري امتصاصها عبر الوالدين
والمدرسة ووسائل الإعلام والمؤسسات
الاجتماعية الأخرى والتي تكوِّن "وعيًا
اجتماعيًّا". وهي تؤدي دورًا مركزيًّا في
تكوين الهوية وصونها. 4.
الآخر: فالهوية لا معنى لها
إلاَّ بالتجاور مع الآخر، وكنْه الذات لا
يتكامل إلا عن طريق الآخر، والهوية لا تتحقق
إلا في مجال الاتصال بالآخرين. ويمكن لنا
القول إن هوية الفرد الواحد تتبدل بحسب
اتصالاته ومواقفه ومواقعه المختلفة. فالهوية
معطى من الآخرين وانعكاس، ظاهر وكامن،
لمواقفنا منهم وردود فعلنا عليهم وردود فعلهم
علينا. إن هذه العناصر الأربعة
المنتِجة للهوية قد خلخلتْها العولمة: فقد
تغير معنى الذات، واختلفت العلاقة بالآخر،
واختلطت السرديَّات، وسقطت الجغرافيا؛ أصبح
حضور الآخر كثيفًا وملحًّا ودائمًا، وأخذ
المكان بالتصاغر، حتى توحَّد ويوشك أن يضيق،
وتوشك السرديَّات الكبرى أن تتوحد من خلال
الترجمة المتبادلة للتراث الإنساني، وتوشك
الذات أن تفقد ملامحها الخاصة والمميزة
كلَّها تحت وقع وسائل النقل والاتصال
الجماهيري mass media
التي تجتهد في عرض النماذج الإنسانية
المختلفة، وأساليب الحياة المختلفة، على
مدار الساعة، إن لم تكن مثل هذه الأحداث قد
اكتملت بعد. فمما لا شك فيه أن حجر
الأساس لتحول كبير في مفهوم الهوية يليق
بالعالم الجديد قد وُضِع. وتبدو مسألة
الهوية، في هذا السياق، كعملية تكيف مع
العالم المقبل. وما يرافقها من صخب وضجيج يشبه
ما حدث عند المنعطفات الكبرى في التاريخ
الإنساني كلِّها: إذ لم تولد دولة المدينة من
غير ضجيج وآلام، ولم تولد الدول القومية من
غير ذلك، ولم تولد الإمبراطوريات الكبرى من
غير معاناة. إننا على أعتاب عصر جديد،
والدخول إليه ليس ترفًا ولا خيارًا، بل هو صيرورة
حتمية للجميع. والخيار الأوحد هو أن تدخل
الذات كذات فاعلة تساهم في صناعة هذا العالم
وتلوينه، فتصبح جزءًا من اللوحة الإنسانية
الكبرى؛ وهذا لا يكون إلا بالحضور الفاعل.
فالحضور الطبيعي للهوية يكون بحضور الفعل،
لا بحضور التاريخ؛ إذ إن حضور التاريخ لا
يمكِّن من إعادة إنتاج الهوية. ولن يفيدنا هنا
أن نردد ما قيل من قبل، مما يعني تجميد الهوية
بدعوى الخصوصية؛ وهذا سيحول أصحابها إلى
أدوات. لا يمكن لنا، في إطار فهم
معقول للتاريخ والإنسان، أن نجعل الهوية
معطًى ثابتًا لا يتغير وأن نتجاهل الديناميات
الحية في الثقافة التي يمكن لها إعادة
تخليق الهوية بالدمج والاستعارة والصهر
والأقلمة والتوفيق بين العناصر المختلفة،
القديمة والجديدة، الداخلية والخارجية،
التاريخية وغير التاريخية، الذاتية
والموضوعية. إن الحفاظ على الهوية لا يمكن له
أن يعني إلا الاتساق في العناصر الشخصية لذات
(فردية أو جمعية) فاعلة. وهذا يتطلب إعادة
تأويل الثقافة في ضوء المستجدات العالمية.
فالدفاع عن الهوية لا يتأتَّى بالانغلاق ورفض
الآخر، وإنما بإعادة بناء التراث بعين الفاعل
الحي الذي يعرف الماضي، يعيش الحاضر، يستشرف
المستقبل، ويثق بعقله وإنسانيته. إن دعوى الخصوصية نوع من
إيديولوجيا الهوية يخلط بين الهوية والماهية.
وهو دعوة إلى الانغلاق واعتراف بالعجز عن
إعادة البناء في زمان ومكان جديدين. وهو يعني
أن التفاعل الوحيد الممكن مع المختلف هو
الحرب، التي قُرِعَتْ طبولُها بدءًا من 11
أيلول باستدعاء معنى الحروب الصليبية من
ذاكرة التاريخ. لكن السنوات القليلة التي
قطعناها في هذا الاتجاه أثبتت إلى أية درجة
كان هذا الخيار مكلفًا وعبثيًّا ومستحيلاً.
وبصرف النظر عن الأكلاف الإنسانية التي لا
تثمَّن، فقد تعقدت المشكلات، وتفاقمت
الأوضاع، وزادت المخاطر، واضطرب أمن العالم. إن التجربة التاريخية
المريرة والدراسات الاجتماعية الواسعة تثبت
استحالة بناء هوية عالمية على أسُس عرقية أو
دينية ضيقة، تعتمد الهيمنة، وتقوم على
الإقصاء، وتتوسل القوةَ كأداة وحقَّ
الڤيتو كامتياز قانوني غير قابل للنقاش. إن
جميع الذين يعتقدون بإمكانية هذا الخيار أناس
لم يعوا عظة التاريخ ولم يفهموا دروسه. إنهم،
كما يقول پول ريكور، يسيئون فهم معنى الوجود
وجوهر السياسة. لقد فشلت المؤسسة العسكرية
الأمريكية، على الرغم من ميزانيتها الفلكية (التي
تعادل نصف الإنفاق العالمي العابث على
السلاح، إن لم تخنِّي الذاكرة) في السيطرة على
"المقاومة" العراقية، وفي كلِّ أسبوع،
تتصاعد الأكلاف، كما يذكر تقرير الـBBC
الأسبوعي. كما أصيب "الجيش الذي لا يُقهَر"
بالحيرة والإحباط، وخسر تاريخه وقيمته كضامن
لوجود المشروع الإمپريالي (إسرائيل) أمام
إرادة المقاومة التي أبداها مقاتلو حزب الله (تموز
2006)، وبدأت الأثمان التي يدفعها الـNATO
في أفغانستان تتضاعف عند كلِّ مطلع شمس. فكما "لا تُجعَلُ الخمرُ
الجديدة في زِقاق قديمة"، على حدِّ قول
السيد المسيح (إنجيل متى 9: 17)، كذلك لا يمكن
بناء العالم الجديد على الأسُس القديمة التي
أنتجت العالم الذي يتهاوى، غير المأسوف عليه،
والذي يتم فيه قتلُ الإنسان للإنسان بأبشع
الصور ولأتفه الأسباب، من غير ضوابط أو قيود،
واستغلالُ الإنسان لأخيه بأخسِّ الأساليب،
وتدميرُ التربة وتلويث الهواء وإفساد
البيئة، نزولاً عند نزعة استهلاكية غير
منضبطة تتولد عن جشع مرضيٍّ مقيت. إن سفك الدم واستغلال البشر
وإفساد العالم ليس قَدَرًا إنسانيًّا، بل هو خيار
ثقافي. وعلى أعتاب العالم الجديد، نحن
مدعوون إلى إعادة النظر في خياراتنا
التاريخية، بالتطلع إلى قيم إنسانية شاملة
تجعل العالم أكثر أمنًا والتفاعل الإنساني
أكثر جدوى. إننا نوشك على صناعة هوية
إنسانية جديدة كتطوير لهويات العالم
القديم. ويُشترَطُ في هذه الهوية: 1.
أن تقوم على "كلمة السواء":
وهي مطلب قرآني، وأراها الآن مطلبًا عالميًّا
تتوقف عليه نوعيةُ الحياة الإنسانية. إن
الامتيازات المحلِّية والعالمية هي مصدر
الفساد والشرور في العالم (راجع موقع: عالم
دون ڤيتو): "قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ
سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ
نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ
شَيئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا
أرْبَابًا من دُوْنِ اللهِ فَإن تَوَلَّوْا
فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأنَّا مُسْلِمُونَ"
(آل عمران 64). هذه الآية كانت مستهل رسالة محمد
إلى زعماء العالم في القرن السابع الميلادي. 2.
أن تؤمن بالتعدد والتنوع المفتوح من
غير ضوابط أو قيود:
على الرغم مما يخطر في أذهانكم الآن، فإني أرى
أن السائد من التفسير اغتيالٌ لروح القرآن،
وإن كان ربما بطريقة غير واعية، لاعتبارات
تتعلق بتطور اللغة والتاريخ. وبحسب إيماني،
فإن القرآن كتاب الكون والإنسان؛ وبقدر
فهمنا للكون والإنسان يمكن لنا أن نفهم
القرآن. والقرآن يقول: "إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى
وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ
اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ" (الحج 17). فلا رقيب على
العقيدة، ولا سلطان على الضمير، ولا حسيب على
الإيمان؛ و"التفتيش" غير مشروع، وهو غير
ممكن بسبب طبيعة الإيمان، لكن تركة الآباء
تُعمي الأبصار وتُثقِل الكواهل. 3.
أن تكون إنسانية:
فلا يحول العرق أو اللون أو الجنس أو الطبقة
أو أي تصنيف آخر دون اكتسابها، بل تكون متاحةً
للجميع على التساوي. والقرآن يطرح مثل هذا
التصور للعقيدة والإيمان. يقول تعالى: "يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن
ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ
اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات 13). أي أن الجهد
البشري هو أساس الكرامة والاستحقاق عند
الله، لا اللون ولا الجنس ولا أي انتماء. 4.
أن تنظر إلى الحياة الإنسانية
باعتبارها تقدمًّا مستمرًّا وزيادة دائمة: إن النعمة الكبرى أمامنا
وليست خلفنا. وإن قانون الله وسنَّته الثابتة
هي التغير الدائم المتجه إلى الأحسن المفتوح
على الخير. يقول تعالى: "مَا نَنسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ منْهَا
أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (البقرة 106).
فالتطور هو قانون الوجود، على ما نرى فيه من
مخاطر وتهديد سببها الأول إشكالية الارتكاز
وفقدان التوازن (التي شرحها الأب پاولو
دالوليو). والذي يعرف تاريخ التقنية يعرف كيف
استقبل الناس وسائط النقل الحديثة وكم أدخلتْ
على حياتنا من تحسين من بعدُ. 5.
أن تجرِّم كلَّ محاولة لاحتكار
الحقيقة:
فالحقيقة لا يمتلكها أحد، ولا يتفرد بنطقها
نص أو شخص، وإنما بوسع الجميع الاقتراب منها
وتجلية ملامح منها. وكل محاولات الاستحواذ
النهائي على الحقيقة وتجييرها لصالح شخص أو
مذهب أو دين هي دلالة الجهل المطبق والعمه
المبين: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ
النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ
النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى
شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ
كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا
كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" (البقرة 113). 6.
أن تعتبر الخيرية قيمة كونية والنفع
مفهومًا مقدسًا:
فالله قدوس لأنه خير، والأنبياء كذلك،
والأديان كذلك. وقانون الخيرية هو الذي يحكم
التاريخ الإنساني، والبشر يستبْقون من
تراثهم الأشياء بقدر ما فيها من الخير. لكن
الخيرية المقدسة، بحسب القرآن، ليست هي
الخيرية المؤقتة الضيقة، بل هي الخيرية
العامة الدائمة. وبقدر ما تتسع الخيرية
تقترب من المقدس. 7.
أن تعتبر النفع والفائدة (بالمعنى
السابق) هي معيار الخطأ والصواب والحق
والباطل:
فالزمان والخيرية كافيان للحكم على المذاهب
والأديان والمعتقدات. فلا مبرِّر للقتل أو
القتال؛ فهو خسارة مادية بالقضاء على التنوع،
وندم، أي آلام نفسية ومعاناة: "أَنزَلَ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ
بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا
رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي
النَّارِ ابتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ
زَبَدٌ مثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ
الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ
فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ
النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ
يَضْرِبُ اللهُ الأَمثَالَ" (الرعد 17).
فالدين الحق هو الذي ينفع الناس – كلَّ الناس.
وإذا كانت أدياننا ليست كالشمس التي تضيء على
الجميع، فلننظر إلى أية درجة بدَّلنا أدياننا
وحرَّفناها، سواء على مستوى الألفاظ أو على
مستوى المعاني أو على مستوى الغايات الكبرى. 8.
أن تعطي قيمة للآية الكونية أكثر مما
تعطي للآية الكتابية:
دون أن يعني ذلك عدم احترام الكتاب، وإنما
اتِّباع دعوة القرآن بالتماس الحقيقة
المكتوبة فيه في الواقع الموضوعي: "سَنُرِيهِمْ
آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ
أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (فصلت 53). فما أصبح
مطلبًا فوكويًّا (نسبة إلى ميشيل فوكو) في
النصف الثاني من القرن الماضي لافتتاح حداثة
جديدة، أو ما بعد حداثة، كان أمرًا قرآنيًّا
في القرن السابع الميلادي. 9.
أن تعطي للعقل والعلم مصداقية كبرى:
باعتبارهما التقنيتين الإنسانيتين
المتوفرتين للاقتراب من الحقيقة، على اعتبار
أن العقل هو استبقاء النافع، أي عَقْلُه (=
ربطه)، وأن العلم هو افتراض السنَّة في الوجود
والتزامها. والقرآن يعتبر نفسه خطابًا إلى العقل
ونداءً إلى العقلاء؛ وهو يُعلي من قيمة
العقل ومكانة العلم، حتى ليضع الكفرَ محلَّ
اللاعقل مرة: "فَمَن يُرِدِ اللهُ أَنْ
يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ
وَمَن يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ
صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا
يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ
يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ
لاَ يُؤْمِنُونَ" (الأنعام 125)؛ "وَمَا
كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ
بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى
الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ" (يونس 100).
والقرآن يعتبر العلم والعلماء أكثر الناس
قدرةً على تكوين أعمق الإيمان به وأقدرهم على
فهم آياته، ومن ثم التعرف عليه ومعرفة كتابه:
"وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن ربِّكَ هُوَ
الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ" (سبأ 6)؛ "قُلْ
آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ
إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ
لِلأذْقَانِ سُجَّدًا" (الإسراء 107)؛ "أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ
مخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ
جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مخْتَلِفٌ
أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ
النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ
مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا
يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ
إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ" (فاطر 27-28). 10.أن تنظر للمقتربات المختلفة في
التراث الديني الإنساني باعتبارها طرقًا
مختلفة للاقتراب من المقدَّس. هذه محاولة لخطاطة أولية
لهوية إنسانية تليق بالإنسان المكرَّم،
وتليق بالعصر الإنساني الجديد، الذي أخذت
تظهر أشراطُه. أنا لست واهمًا ولا حالمًا. أنا
أعرف ما يسود في الواقع من سوء الممارسة
وتحجُّر التفسير وعبادة النص، لدرجة تضيِّع
الأهداف الكبرى في كلِّ دين. لكني أؤمن بما
أقول، وأعتقد أنه روح الأنبياء، وجوهر الكتب
المقدسة أو "الوصية الكبرى في الناموس" (إنجيل
متى 22: 36)، وأنه مستقبل البشر. أنا إنسان قرأ التاريخ وعرف
اتجاهه وأبصر إرادة الله فيه. وأحب أن أذكر
لكم أن الاتحاد الأوروبي لم تؤسِّسه حكمة
التوراة ولا وصايا الإنجيل ولا عصر التنوير،
بل عصا التاريخ الغليظة وسنَّة الله الغالبة
في أن الذي لا يتعلَّم بالكلام والعظات سوف
تعلِّمه الأكلاف التي يدفعها ثمنًا
للحماقات، إذ يخوض الحروب الدينية والمذهبية
والحروب الإقليمية. والأوربيون تقاتلوا كما
لم تفعل أمَّة من الأمم قط: فقد عملوا حروبًا
ثلاثينية، وحروبًا مئوية، وحروبًا قومية،
وحروبًا عالمية (وهم يقتسمون العالم). وكان
الاتحاد ثمرة هذه الآلام والدماء. وهذا مسار
تطور البشر أجمعين. وأنا أعتقد أن الاتحاد
الأوروبي أولى تباشير العالم الإنساني
الجديد. وأرجو أن يتمكنوا من قبول الأتراك
ليعطوا لاتحادهم المعنى الإنساني الذي نأمل.
ولكن حتى لو فشلوا، سيقوم غيرهم بهذه المهمة،
وسيفوتهم هذا الشرف: "واللهُ غَالِبٌ عَلَى
أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُون" (يوسف 21). ***
*** *** |
|
|