|
أرجوحة
العقل والنقل مَن
يلوذ بالعقل ومَن يحتمي
بتصوراته ومفاهيمه؟ هل يقف العقل على الجهة
المقابلة – أقصد في وجه الخرافة والأسطورة –
أم أنه يتبضَّع حمولتَه "البريئة" في
معظمها من التراث؟ أنا لا أقصد الجواري أو "ملك
اليمين" وإعلاء الذكورة والمنبرية اللغوية
المجوفة وغير ذلك. فأنا لا أريد للعقل أن
يتردد أمام قضايا العدل والمساواة وأنْ لا
فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، سواء كان عبدًا
أو سيدًا. نحن عادة لا نسأل كثيرًا في شأن هذه
الخروق الصغيرة لأننا أشد انشغالاً بالنصِّ
الخطابي وحده. لن نسأل عمَّن سرق أو قتل أو زنا
أو أثار الفتن والحروب، عمَّن خان وتسلَّط
وسام الرعية الخسف والويلات – فهذا كله غير
مهمٍّ إذا قال النص كذا وكذا باسم "مصلحة
الأمة"! نحن دائمًا نسكت ونتغاضى لخاطر
الصالح العام؛ دائمًا لدينا "صالح عام"
يؤجل عمليات المحاسبة، ودائمًا لدينا "مرحلة
حرجة" تمر بها الأمَّة – ولا ساعة مرت دون
مرحلة حرجة! فهناك طبقة قعدت وتغاضت متذرعةً
بمبررات مزعومة أو مفتعلة؛ أي أنها قعَّدت
المظالم ومظاهر النفاق. الصراع ليس
قصيرًا: دار طويلاً بين جماعة العقل وجماعة
النقل، إلى أن تسيَّدت الثانية، بدءًا من
الغزالي أبي حامد إلى جماعة النقل المعاصرين،
فارتاح الناسُ من المشادات، وارتاحت
الأفهام، وارتاح الحكام أيضًا. صار معروفًا
أنه وقت تميل الأمَّة للضعف ينمو فيها ميلٌ
لغلبة النقل على حساب العقل – ولو عكسنا
الآية لصحَّت. الأفهام النقلية لن يعنيها
كثيرًا أمرُ المجتمع أو أمر مؤسساته. ينحصر
دورُهم في إرهاق التاريخ المتطلِّع للأمام
بإرادة منتقمة. أما العقل فيكشف العيوب،
ويفضح المستور، ويرتِّب خلائق الله بحسب
استعداداتهم الحقيقية، – وهذا يُعتبَر
اعتداءً على أصحاب الامتيازات. ليس في قاموس
العقل طُرْشٌ وعبيد مسوقون نحو مصائر محتومة.
العقل يقطع الدرب على الدعوات العرقية
والطائفية، وحتى الدينية، ويضع الجميع أمام
مسؤولياتهم الإنسانية مباشرة – وهذه كبيرة
جدًّا على مجتمعات متشبِّعة بخلفية صحراوية! توأما العقل
المسؤولية والحرية، وبالتالي الكرامة. وهذه
لا تحمل أيَّ معنًى في مجتمع قطيعي، انفعالي،
يعطي لمن يشاء ويحرم مَن يشاء. العقل يدفع
بقوة نحو الحياة، فيما النقل يدفع نحو إبقاء
الراهن المدعَّم بامتيازات طبقية وعرقية
ومذهبية. فالمهم إخراج البشر من دائرتهم
الإنسانية وحقوقهم الأساسية. يتم تعويضهم
دوريًّا بثواب مخبأ في الجنان الوارفة
بالأطايب والحسان! حتمًا سيترتب عليهم في هذه
الحال، حتى ينالوا ما وُعِدوا به، أن يصبروا
ويطيعوا ويدافعوا عن "السادة العظام"
الذين وعدوهم، باعتبارهم متمتِّعين
بنورانيات أزلية سقطت في حلوقهم وهم نائمون
نقطةً نقطة! ومع الوقت، يتحولون إلى أنوار
راجفة بالورع والتقوى، باسم الحرص عليهم –
ولو حدقتَ لن ترى غير اللون الأحمر! يبتدع الفقهُ
كلَّ مرة أساليب شيطانية لإقصاء العقل
وتهميشه، وأحيانًا سحقه. بعضهم أعلن عن
نواياه علنًا بأن "العقل ضالٌّ مُضِل".
أو نقول أيَّ كلام عدوانيٍّ لنتَّهمه كما
تتهم الديكتاتوريةُ الحريةَ في بساطة، كما
تتهم حقوقَ الإنسان بالخيانة وبأنها سلعة
غربية غازية تتضاد قطعًا مع "الخط الوطني"! إن أية محاولة
لإعلاء خصوصية الإنسان تتعارض مع الحالة
القطيعية والعشائرية والمذهبية. المهم أن
يمرع أي شيء غير الإنسان على لسان كلِّ مَن
قعد على كرسي لا يستحقه أو وجد في جيبه مالاً
لا حق له فيه. هناك مَن يمرع الخطاب القومي
الملتبس أو الخطاب الديني السطحي أو ينبش
التراث لتسميك أوهامه. وفي الحقيقة، لا أحد
معنيٌّ بالصالح العام، لا أحد معني بالحقيقة.
ستفهم هذا عندما ترشو لتصير قاضيًا يحارب
الرشوة تحت اسم موالاة مفاهيم كبرى وشعارات
عريضة لا وجود لها خارج اللغة التي تفيض عن
الألسنة بمهارة ملونة. دم المريض والفقير
والجائع والمحتاج يتحول إلى مناجم ثرَّة
وأمجاد خالدة. وإنك لتلتقي هذه "الأمجاد"
كلَّ يوم على أبواب الفِرَق الحزبية نهارًا،
وأبواب المساجد مساءً، وأبواب الأقبية ليلاً!
سيشمون فورًا إذا كانت تفوح منك رائحةُ الشك
– وعند ذاك عليك أن تتوارى مباشرة في سرداب أو
زنزانة أو في قبر! ما هو مدروس
ومضبوط بالرقم لن يكون في صالح هذه "الامتيازات
النورانية". أن تمسك بعنق الآخر أسهل
عِبْرَ لغة أرضية أو لغة سماوية؛ وإذ ذاك تمد
رجليك وتستريح من البحث والفكر وحقوق الإنسان
دفعة واحدة! وما عليك، إذا أنت نابه، سوى
التأقلم مع الشروط المناخية الجديدة برشاقة.
ليس مهمًّا ما ستدرُّه الطبيعةُ في قَدَر
البشرية؛ المهم أن الأوراق كلَّها ممسوكة بيد
واحدة. فـ"الحرية" و"المسؤولية" و"الواجب"
عبارات غير مستحبة أصلاً في ذاكرتنا، وغير
مستحبة في حاضرنا أيضًا. وانطلاقًا من هذا
الحاضر الممتعض من لفظة "الحرية" سيتشكل
المستقبلُ كله. ليس ثمة مفاجآت أو فذلكات أو
تهافتات غريبة أو حتى شعوذات! ليس مريحًا
حاضرٌ غير محكوم بالكراهية والبغضاء. ما نراه، أو ما
يجب أن نقرَّ به، أن الوقائع المادية تدوس في
قسوة بأحذية نحاسية على الصدور اللاهثة خوفًا
– إلا مَن كان لديه هذا الإيمان وهذا التراث
وهذا الماضي الزاهي أو، باختصار، هذا الدين
الذي يتضمن كلَّ شيء في حياة الإنسان! أصلاً
ليس في حياتنا شيء لا يتضمَّنه الدين: الدين
يقدِّم رؤية عامة، كاملة شاملة، للزمان
والمكان؛ ومع أنه من الماضي (أقصد خلفنا)، إلا
أنه يتحكم في حاضرنا ويقف فوق رؤوسنا طوال
الوقت. هو واقف، أو أوقفوه وسمَّروه عند
النقطة التي راحت وصارت من الماضي غير الحافل
بتحديات الحاضر ومستجدَّاته الملحَّة.
والمعرفة الواقفة ستترهل وتهترئ في مكانها
إذا أصرَّت على الوقوف وعدم مغادرة النقطة
التي ولدت فيها، مهما سوَّرناها بالقداسة
ومنحناها سمة الإطلاق. وهل كان التخلف، في
حدِّ ذاته، غير معاندة أية محاولة تغيير أو
تبديل؟ المقدس الذي قدَّسناه محكوم بعوامل
نشأته الأسطورية الغابرة التي لن تكترث
كثيرًا بحيوية الأمَّة الحاضرة وبقابليات
التحول الحاملة لبذرة التجاوز من داخل
الأمَّة. فإذا لم تفعل، ستحكم على حالها
بالموت حتمًا. على الأمَّة أن تبحث في داخلها
عن هذه البذرة الموَّارة بالحياة. ليسوا أصحاب
المصلحة وحدهم الحريصون على إبقاء الراهن
الذي ينخل عليهم الامتيازات والأمجاد! فهناك
المستغلون المنتفعون الذين سيقفون في عناد في
وجه أيِّ تحول، مهما كان شأنه. أغلبهم
يبدِّلون مسارَ التضحية في سبيل الأمَّة إلى
التضحية في سبيل الله أو سبيل مصالحهم
الخاصة، المستفيدة بقوة من أبدية الراهن
وأزليته وقدسيته أحيانًا. سيتشكل، مع الوقت،
نوعٌ من استلاب اقتصادي معزَّز بثوابت من
خارج الاقتصاد يمارسها على الناس سدنةٌ مهرةٌ
في تلوين الثوابت وتكريس فلسفة الجمود وثقافة
الموت. ما هو اقتصادي سيحيل، مع الوقت، إلى ما
هو اجتماعي، ومن ثم إلى ما هو نفسي، فيتقرَّن
ويقسو مع الزمن، ويصعب تقشيره عن جلدة النفس
الموهومة بكرامة الإنسان وأنماط وجوده
المعبأة من خارج ثقافة العصر الذي نعيشه. هذه البنية
النفسية التي تعيش خارج زمنها، بكلِّ حمولتها
الأسطورية والخرافية، هي ما سيشكل الموقف
النهائيَّ في عناد في وجه الراهن. تتخوف من
خلل نفسي، أو من خلل في توازُنها النفسي الذي
تتوهَّمه، فتتكئ على معزِّزات تاريخية غابرة
ارتضاها الذين سبقوا في أزمنة سبقت. يعبِّر
القومُ عن هذا التخوف اليومي بحالات القلق
الوجودية والتوترات المستمرة في حياتهم. هي،
في نهاية الأمر، محاولات تحصينية دفاعية
مزيفة تجاه أخطار متوقعة وغير مفهومة وتجاه
آلام صامتة يعانون منها دائمًا وسط بنية
مستبدة، متحكمة، طاغية، لا حيلة لهم في
تبديلها أو مجابهتها. هنا يتحول ما
يُدعى بـ"التوازن النفسي" إلى قيمة
عاجزة لا تقوم بمهمتها في التخفيف من الوجع
الداخلي. باختصار، سيفقد الآدمي قدرته على
احترام نفسه، سيحس أنه كائن من غير وزن،
فتحكمه سوداويةٌ مزاجيةٌ تتهدَّده باستمرار.
يتوهم أنه لا يعيش حياته، بل حياة بديلة لا
يحبها. عجزه عن التصدي والفعل يدك أسوار
إنسانيته بكلِّ بساطة. لكن مَن سيقرر حالته
النفسية؟ ستقررها ثقافةٌ نازلةٌ عليه من فوقه
أو طالعة عليه من تحته، أي أنها من خارجه
دومًا؛ ثقافة لا تُعنى بإنسانيته على
الإطلاق، بل تطالبه بحراسة حظوظ غيره
وامتيازاته النورانية! ضمن هذه
المناخات التي تستلبه وتستلب إنسانيته،
يتكون لدى الآدمي ميلٌ سحري وخرافي لحلِّ
مشكلاته العالقة بينه وبين وجوده بالكامل.
ومع شدة المحاولات، تتسيَّد عليه الأحكامُ
الخرافية الحالمة والتطيُّر وسطوة الأولياء
وجيوش الجن الرابضة حوله، وتنتابه بكثرة
الأماني الحاقدة. هكذا، بقدرة عجيبة، نحوِّل
الطبيعة حتى إلى كائن متفهِّم لأحوالنا،
متعاطف معنا: مجرد حالات رؤومة ممنوحة لنا من
غير أن نضيف من جانبنا لهذه الأماني الخرساء
أيَّ فعل جادٍّ حقيقي؛ أي أننا نؤنسن ما
حولنا، بما في ذلك السماء الزرقاء التي تحرم
وتعطي، طبعًا وفق مقدَّرات عبثية غير مفهومة،
في محاولة فاشلة لإضفاء قدر من الانضباط على
سلوك الطبيعة والسيطرة على الفوضى والمزاجية
فيها. ودور البشر في هذه العلاقة لن يتعدى دور
المستسلم المتقبل لقدرية مكتوبة عليه. هي
حيلة البنية العقلية المتخلِّفة تجاه عوالم
غالبة قاهرة غير منصفة. وعند ذاك، يتسلط
الآباء ويتسلط الذكور والمعلمون والعرف
ورجالات الدين وشيخ القبيلة والمالك لسُنَن
البقاء. هي علاقة تسلطية مسلحة، لا حيلة لنا
أمامها سوى الرضوخ والطاعة والتزلف واجترار
حالات دونية مهينة سابقة، عبر محاكمة خائفة
تودي بالمرء إلى الاستسلام لقدريَّته وللقلق
على مصيره. وبالطبع، حتى
يتخلَّص من شعوره بالعجز ومهانته وانعدام
إحساسه بالأمن، سيلجأ لآلية مضادة تعظِّم
قاهرَه على أمل استبعاده واستعادة توازُنه.
عند هذه النقطة سيفقد تمامًا، بضربة واحدة،
ملامحه الإنسانية. لا بدَّ أنها مرحلة طويلة،
واعية وغير واعية، حتى تتقرر هذه
الاستعداداتُ الذاتية فيه، وتنبث ثقافةُ
الخنوع في نسيجه، فتصير كل ما لديه. لا بدَّ من
خطوة أخيرة للخروج من مأزقه الوجودي وقت يعلن
بصوت عالٍ أنه تافه ونذل وغير جدير بإنسانية
لا يستحقها، مقابل حالات عارمة بالمجد
والكمال والفذاذة الحكيمة العارمة بسُبُل
القوة. فما العمل؟ ما
حيلته أمام شخص أو إيديولوجيا متفوقة أو
غالبة؟ لا بدَّ من إضفاء صفات تبرِّر
سيطرتها، صفات عليه أن يخترعها، كالفذاذة
والرحمة والتفهم لأوضاعه الخاصة والعامة،
حتى لا يفقد التعاطف مع نفسه على الأقل، نفسه
الجبانة كما يصفها، نفسه الخائفة المهزوزة
المترددة. ستبدو حمولته بائسةً تستحق الشفقة
إزاء ما يطوِّقه من فوقه ومن تحته؛ ومع كلِّ
خطوة، سيؤكد على أسطورة ذات عليا جبارة
واثقة، في مقابل انفعالاته الهوجاء وغرائزه
الحمقاء. ليست لصالح
أرباب القوى كلَّ مرة هذه الاستكانة المحمودة
من أهل السماء والأرض، لأنها، على المدى
الطويل، ستمكِّننا، كلَّ بضعة أجيال، من
ملاحظة ما يشبه فقاعاتٍ متمردةً تشير إلى حجم
آليات البطش الشغَّالة على رقاب البشرية التي
يصعب تعطيلها. وستكون ضريبتها بقدر سماكة
الوَخَم الرابض على أفهام الناس، فتنكشف في
سهولة الجهةُ المستميتةُ في إبقاء الإنسان
دون كرامة ولا حرية ولا مسؤولية. والسلطات، من
جهتها، تشجِّع مباشرة ومداورة المحاولات
الحمقاء التي تبخِّس الفرد وتصغِّر إمكاناته
وقابلياته وخصوصيته، تمامًا كما يصغِّر
الرجلُ إمكاناتِ المرأة. وهو ما سيشجع على
عطالة الأمَّة وجمودها وشيوع البنية
الخرافية والأسطورية كبديل وهميٍّ لحلِّ
مشكلاتها. هي بداية عصر
انحطاط جديد تنسحق فيه آلياتُ الفكر والعقل –
ونحن لا نكف عن الصياح والتوسل أننا في حاجة
ماسة إلى مخلِّص ذي مواصفات غير بشرية، أو هي
أكثر من بشرية وأقل من ألوهية. لكننا لا نعدم
أبدًا وجود نماذج لذاك المخلص؛ وإذا لم نجد،
ننبش في التراث والذاكرة المفخَّمة بالأبطال
العظام العادلين الأسطوريين. وسيسهِّل علينا
البحثَ أنَّ مَن سبقونا ونبشوا قبلنا وجدوا
ضالَّتهم المفصَّلة على طول قاماتهم
وأمانيهم، ثم أضافوا وقصُّوا، حتى صاروا على
المقاس تمامًا، ثم ناحوا عند قبر التراث
ولطموا! إذن، لا بدَّ من
مخلِّص عادل ومستبد ومطلق الصلاحية. أما كيف
هو "عادل" و"مستبد" فلا أعرف! موضة
جديدة للتسلط الملون: أب، حاكم، ما يشبه الإله
– المهم، شبهة إلهية! لا أحد ينكر قسوة التسلط
في البداية. لكن ما إن نألفه ونرهق حالنا
بالإهانة والإثم حتى يصبح قيمةً ماجدة. هو شبه
تواطؤ بين العاجز وبين القوي، يتم بموجبه
وضعُ حقوق العاجز في تصرف القوي ليستمتع
كلاهما. وحتى يتحقق ذلك، ستحتاج هذه النعائم
إلى وقت يطول أو يقصر، كثيرًا أو قليلاً. ***
*** *** |
|
|