|
عن
المثقفَّ
الحقيقي لا
أذكر
عددَ مشاركاتي في جلسة
حَضَرَها حسن قبيسي، إلا أني أستطيع، في ثقة
تامة، استخلاصَ نسبة تقريبية لعدد الكلمات
التي نطق بها كلَّ مرة. في البداية، كان يلتبس
عليَّ أمرُ صمته، لكني سرعان ما أدركت أن سكوت
العارف أفعل وقعًا من دخوله نقاشًا لم يصل إلى
العمق المطلوب. كان صمته يضبط
الجلسة ككاميرا مسلَّطة على محاسب في مطعم!
فالصمت الذي يطفو على حمم الكلام لا يقل هيبةً
عن حضور البراكين! الغلط في حضوره محظور. حركة
من عينيه تكفي لتصويب النقاش. أما ابتسامته
الساخرة فبمثابة "بطاقة صفراء" للمتكلم!
– إلا إذا كان المتحدث لا يعرف حسن قبيسي،
فيكون قد جنى على نفسه ودخل "العرين" –
وما أدراك ما "عرينه"! قلعة منطقية وخيال
متدفق، تدخلهما الفريسةُ كضبع جامح، لتخرج
منهكةً كفأر في متاهة لا مخرج لها، ولتكتشف أن
مَن كان صمته ذهبًا لا بدَّ من أن يكون كلامه
ماسًا. أحيانًا يشك
المرءُ في "لبنانية" حسن قبيسي. إذ كيف
لأستاذ جامعي ومفكر وباحث ومترجم من الدرجة
الأولى – وهذه ليست شهادة منِّي –، كيف يمكن
لمن يمتلك ذلك كلَّه ألا يملأ الدنيا ويشغل
الناس بـ"بطولاته" و"بهوراته"؟! هل
هذا من شيم اللبنانيين؟! في حين نرى جيوشًا من
الكتاب الذين يتسقَّطون بعض الكلمات من
الأزقة ويطلقون عليها اسم "روايات"، أو
يهلوسون بعد سكرة ويسكي ويسمُّون نتاجهم "دواوين
شعر"، ثم يعاتبون الكبير والصغير على عدم
الوقوف صاغرًا في حضرتهم، ويغزون الصحف
والشاشات بكلِّ الوسائل، "المحترمة" و"غير
المحترمة"، وعلاوة على ذلك يتهمون الصحافة
والإعلام بمحاربتهم، ويشتمون الفعاليات
الثقافية والسياسية لإهمالهم وعدم تكريمهم
ودعمهم... بينما لا صورة لحسن قبيسي في صحيفة –
حتى يوم وفاته! ألا يكفي هذا لنعيد النظر في
"هوية" صاحب المتن والهامش؟ أو لنعيد
النظر في آليات استيعابنا لمعنى الحياة
المواكِبة للفكر والفن والثقافة في لبنان
ومفاهيمها؟ ألا ينبِّهنا رحيلُ حسن قبيسي إلى
خسارة نموذج نادر للمثقف الحقيقي، وإلى
أننا قابعون في مستنقع لا يرى في الثقافة سوى
مطيَّة وصولية أو prestige،
على الرغم من كونه وهمًا! ***
*** *** عن
السفير، 12/07/2006
|
|
|