فرنسا كما عرفتُها!
فكرُها ينوس بين العالميَّة والعصبيَّة
الفرنسيَّة عائقٌ أمام العالميَّة وسارتر من أهم وجوه القرن العشرين
مهمة المفكِّر هي الاعتراف بالحقيقة مهما كانت صعبة!

 

حوار مع إدوارد سعيد

 

قبل فترة قصيرة من رحيله، وبعد صراع مع مرض اللوكيميا اللمفاوية المزمنة دام عقدًا ونيفًا من الزمن، وافق المفكر الفلسطيني–الأمريكي إدوارد سعيد على أن يجري حوارًا استثنائيًّا مع الباحثين اللبنانيين–الفرنسيين كريم إميل بيطار وروبير فاضل، مُخِلاًّ بالوعد الذي كان قطعه على نفسه بعدم إجراء أيِّ حوار تبعًا لظروفه الصحية. والحوار الذي لم يُنشَر في أية صحيفة أو مجلة نَشَرَه الباحثان في كتابهما المشترك الصادر في باريس بعنوان نظرات إلى فرنسا (دار Seuil).

في هذا الكتاب يشارك ثلاثون مفكرًا وباحثًا من العالم، متحدثين من وجهة نظرهم إلى فرنسا، سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، محلِّلين "الأزمة الوجودية" التي تعيشها فرنسا راهنًا. ومن الذين شاركوا في الكتاب عبر حوارات أو دراسات: محمد أركون، بطرس بطرس غالي، جورج قرم، كارلوس فوينتس، ڤاتسلاڤ هاڤل، ستانلي هوفمان، ثيودور زلدِن، وسواهم.

يكتسب هذا الحوار الأخير مع إدوارد سعيد طابعًا خاصًّا، نظرًا إلى أنه يأتي بمثابة "وصية إلى فرنسا"، ويحمل بُعدًا رمزيًّا مهمًّا. فالمفكر الراحل وجَّه كلماتِه الأخيرة إلى فرنسا ومفكِّريها – هو الذي خبر الثقافة والأدب الفرنسيين في عمق، على الرغم من إقامته في الولايات المتحدة، وكان من المثقفين النادرين الملتزمين نهجًا فكريًّا عالميًّا. وتكمن فرادة هذا الحوار في كونه يكشف وجهًا شبه مجهول من صاحب الاستشراق. هاهنا مقتطفات من هذا الحوار غير المنشور.

* * *

 

يتحدث إدوارد سعيد عن علاقته الشخصية بفرنسا وبدايات تعرُّفه إلى ثقافة هذا البلد – وكان والده شارك إبان الحرب العالمية الأولى في الحملة العسكرية الأمريكية التي أتت لمساندة فرنسا – قائلاً:

في خصوص شخص مثلي، ترعرع في فترة الانتداب البريطاني في فلسطين ومصر، لطالما شكَّلتْ فرنسا الخيار البديل. وكان لي كثير من الأصدقاء الناطقين بالفرنسية، لاسيما في Victoria College في القاهرة وفي نوادي القاهرة حيث كنت أتمرن على لعب التنس. وبالتالي من الطبيعي أن تصبح اللغة الفرنسية عندي اللغةَ البديلة والثقافةُ الفرنسية الثقافةَ البديلة. إلا أن معرفتي بفرنسا كانت سطحية – إذ لم يسبق لي أن زرت ذلك البلد – وكانت تقتصر على ما جَلَبَه أبي من ذكريات: فرنسا حب الحياة، وبلد الجنس والنبيذ، وهذه الكليشيهات كلها. والغريب أني انتظرت مجيئي إلى الولايات المتحدة، في مطلع خمسينيات القرن الفائت لمتابعة دراستي الثانوية، لأبدأ بالغوص في الأدب الفرنسي. وأذكر أن اتصالي الأول بالأدب الفرنسي حصل في سنِّ المراهقة، عبر نص الجدار لسارتر. وقد تأثرت كثيرًا بآفاق هذا الكتاب الفلسفية والفكرية، وأدهشتْني التعددية التي ينطوي عليها، لاسيما بالمقارنة مع الأدب الأمريكي. ففي الفترة عينها، كنا نقرأ جون شتاينبك؛ إلا أن أسلوب سارتر ونظرته إلى العالم مختلفان تمامًا – وقد سحرني هذا الاختلاف. وما إن بلغت السابعة عشرة من عمري ودخلت جامعة پرنستون، حتى التحقت بعدد من الدروس التي تتمحور حول الأدب الفرنسي – وكان يلقِّنها أستاذان رائعان – وكانت تدور حول الرمزية والرواية الفرنسية الحديثة، إضافة إلى ما بعد الرمزية والسوريالية. وكانت المحاضرات خالية من أية نقاشات أو حوارات، كانت مجرد دروس نظرية غنية بالمقبوسات وعدد من المراجع كان يوصى الطلابُ بقراءتها في نهاية كلِّ حصة. لقد جُذِبتُ كثيرًا إلى مفهوم التاريخ الثقافي في ذلك الوقت وتأثرت به. وسمحت لي قراءاتي باكتشاف فرنسا، هذا البلد الذي لم أذهب لزيارته زيارة مطولة إلا في العقد الثالث من عمري.

ويضيف:

خلال السنوات الأولى التي عملت فيها أستاذًا في جامعة كولومبيا – وقد عُيِّنت في منصبي هذا منذ 40 سنة، أي في العام 1963 – عاودت الاهتمام بالأدب الفرنسي، فوجدت فيه بديلاً عن النظام الذي نشأت عليه ودرست فيه، أي التقليد الأنكلوأمريكي الوضعي، الذي يتسم بضيق الآفاق التاريخية. وعندي، كان التقليد "الروماني" هو البديل، وعلى رأسه فرنسا وإيطاليا. ومن خلال مؤلَّفات أشخاص من قبيل الجامعي إيريك أورباخ وهاري لڤين، أستاذي السابق في هارفارد ومؤلِّف كتاب هو من أهم الكتب عن الرواية الفرنسية في القرن التاسع عشر، تمكنت من توسيع دائرة اهتمامي بالأدب الفرنسي من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين، كما وبالنقد الأدبي، فكنت الأمريكي الأول الذي تناول مدرسة النقاد الفرنسيين الجديدة في كتبه، وذلك ضمن مقال مطوَّل عن لوسيان غولدمان. وقد اهتممت بفكرة أن غولدمان كان تلميذ جورج لوكاتش في الثلاثينيات، وأنه كان ينتمي في تلك الفترة إلى أنصار "النقد الجديد"، وهي مجموعة تختلف عن النقد الأمريكي بكلِّ ما للكلمة من معنى: كانت مخالفة تمامًا للفلسفة، وتشدِّد على الجمالية على حساب البقية. وفي موازاة ذلك، لم أتوقف عن قراءة سارتر ومرلو پونتي والتقليد الفينومينولوجي، الناتج في معظم الوقت عن هُسِّرل، وأحيانًا أخرى عن هيدغِّر. ولعبت فرنسا دور الأرض الخصبة لهذا النمط من التفكير، ذلك أن الفرنسيين كانوا يلعبون دور الوسطاء بين الفلسفة الألمانية والتقليد الأنكلوأمريكي.

وأخيرًا، أتى العام 1966 وجلب معه حدثًا هائلاً يعيشه المرء مرة واحدة في العمر: إذ عُقِدَ حينذاك المؤتمرُ المنتظر – وعنوانه "لغات الانتقاد وعلوم الإنسان" – في جامعة جون هوپكنز، واستطاع، للمرة الأولى، استقطاب كبار المؤلِّفين الذين قرأت أعمال بعضهم أو سمعت عن بعضهم الآخر، ولاسيما جان هيپوليت ورولان بارت وجاك درِّيدا وجاك لاكان وجورج بوليه وجان پيير ڤرنان وتزڤيتان تودوروف وجيرار جينيت... ويعود الفضل في دعوتي إلى المشاركة في هذا المؤتمر إلى مقالاتي التي سمحت لي بالحضور مع هؤلاء الكبار كلِّهم على مدى أسبوع. وفي الواقع، أدهشني أمران متناقضان: الأول هو بُعد نظرهم ولامحدودية فكرهم: فقد كان في إمكانهم أن يتحدثوا في طريقة متكلِّفة عن الفلسفة اليونانية أو الألمانية أو عن أيِّ موضوع آخر؛ والثاني قدرتهم على التحول إلى أشخاص متعصبين لفرنسيتهم، حتى إن بقية المفكرين كانوا يشعرون باحتكار المفكرين الفرنسيين للموضوعات المطروحة للنقاش، علمًا بأنهم كانوا يطرحون جدليات تعني العالم بأسره، ويتحدثون عن نيتشه وفرويد وهيدغِّر. وقد خُيِّل إلى المشاركين الآخرين في المؤتمر – أي الأجانب (بعض الإيطاليين والأمريكيين) – أن المفكرين الفرنسيين يوجهون الكلام بعضهم إلى بعض لنيل الإعجاب المتبادل بينهم، غير آبهين لبقية الموجودين! كان ذلك مذهلاً حقًّا!

أستطيع أيضًا أن أعزِّز كلامي بنكتة حدثت لي مع رولان بارت: فنظرًا لبُعد حرم جامعة جون هوپكنز عن بُلتمور، كنا ننزل جميعًا في الفندق نفسه، ونلتقي يوميًّا، وفي كلِّ صباح تنقلنا المركبة نفسها إلى الجامعة. وعلى الطريق، اعتدت الجلوس بالقرب من رولان بارت، لذلك كان من الطبيعي أن نتبادل الحديث. اهتممت كثيرًا بالمحاضرة التي ألقاها خلال ذلك المؤتمر والتي دارت حول فعل "كتب" écrire، الذي وصفه بالفعل "غير المتعدي" intransitif. وخلال أحد نقاشاتنا الصباحية، أخبرته أن أعماله تشبه، في كثير من نواحيها، أعمال أحد النقاد الأمريكيين المشهورين والفريدين من نوعهم، كنث بورك. بدا بارت مهتمًّا جدًّا بالموضوع، حتى إنه دوَّن اسم بورك وطلب مني أن أزوِّده بلائحة تضم أهم كتبه، فاستجبت لطلبه قبل أن نعود إلى حديثنا. وبعد سنتين، التقيت مجددًا برولان بارت في مؤتمر كان منعقدًا في شيكاغو. ألقينا التحية واحدنا على الآخر بحرارة، وتحدثنا عن أمور مختلفة، قبل أن أسأله إذا تسنَّتْ له فرصةُ المقارنة بين أفكاره وأفكار بورك. وإذا به يجيب: "أفكار مَن؟" لقد فاته كليًّا الأمر، واضطررت إلى الإصرار على مطلبي أكثر من مرة، على الرغم من أهمية بورك ونقاط التشابه بينهما. وأظن أني كنت في صدد تناقُض شكلي إلى أقصى درجة: فمن ناحية، هناك التعصب إلى الانتماء الفرنسي، الذي أصفه بالمتطرف والذي كان يمنع المفكرين الفرنسيين من النظر إلى خارج حدود عالمهم الفكري أو الاهتمام بالكبار من سواهم؛ ومن ناحية أخرى، هناك انفتاح فعلي على بقية العالم في بعض الأحيان. فعندما كان كلود ليڤي شتراوس يتكلم على الفكر مثلاً، كنت أشعر أني أستمع إلى مفكر عالميٍّ بكلِّ ما للكلمة من معنى. وبالطبع، ذلك هو الاستثناء الذي يثبت القاعدة السائدة، وهي العصبية الفرنسية. وليڤي شتراوس كان يدحض هذه الفكرة؛ فهو قد تأثر كثيرًا بالإثنولوجيا الأنكلوأمريكية. وپيير بورديو كان أيضًا استثناءً في هذا المجال، نظرًا إلى تتبُّعه كلَّ ما يجري خارج الفلك الفرنسي. لكن سواهما من المفكرين كانوا منغلقين على ذواتهم، ولا يهتمون إلا بشخصهم. ولا أدري كيف أفسِّر هذه الشوائب! قد يكون السبب عقليتهم أو النظام التربوي والبرامج التي تتخطَّى حدود المقبول في صرامتها.

وردًّا على سؤال: "نظرًا إلى المكانة الخاصة التي يحتلها المفكرون في المجتمع الفرنسي، هل ترى أنهم يستغلون مكانتهم تلك ويستثمرونها في المكان المناسب بغية الدفاع عن قضايا مهمة، أم أن المسألة تُختصَر في المظاهر؟ هل نشهد اليوم تراجعًا للنفوذ الفكري الذي تتمتع به فرنسا، لاسيما بالمقارنة مع الفترة التي تلت الحرب مباشرة؟"، يجيب سعيد:

لم يستطع المفكرون الفرنسيون المعاصرون لي من لعب دور جوهري – واللغة هي أحد الأسباب التي أعاقتهم. فقلة قليلة منهم فقط متمكِّنة من لغة أخرى غير الفرنسية، كالإنكليزية على سبيل المثل. (والمفكرون العرب يعانون أيضًا من عائق اللغة؛ فهم يعجزون عن التعبير بغير اللغة العربية ويكتفون بذلك، متسائلين، مثلهم مثل المفكرين الفرنسيين: "لِمَ عسانا نعقِّد حياتنا بتعلُّم لغات أخرى؟!") إن هذا النمط من التفكير مؤسف للغاية! ولكن هنا أيضًا، يمكن لي أن أذكر أمثلة مضادة وأسماء لامعة، مثل تودوروف: فأصول هذا الكاتب البلغارية لم تمنعه من أن يصبح مفكرًا فرنسيًّا، وهو من النادرين الذين يقرؤون اللغة الإنكليزية ويتكلمونها ويفهمونها. إتيين باليبار يُعتبَر أيضًا من الناطقين باللغة الإنكليزية؛ وهو يعطي دروسًا، بين الحين والآخر، في الولايات المتحدة، حيث تُرجِمَتْ كتبُه وباتت موضع قراءة ودراسة. لكن أفكار الآخرين – حتى المفكرين اليمينيين الأشهر في فرنسا، مثل ألان فِنْكلكراوت أو برنار هنري ليڤي – لا تتعدى حدود العالم الناطق باللغة الفرنسية، ولا تلقى صدًى واسعًا في العالم.

"لكن هؤلاء يحشدون جمهورًا واسعًا من خلال الشاشة الفرنسية الصغيرة؟" – يجيب سعيد في هذا الصدد:

نعم، هذا صحيح. فـ"جمهورهم التلفزيوني"، إذا جاز التعبير، أكبر من جمهورهم الأكاديمي والجامعي. في المقابل، خُيِّل إليَّ لوهلة أن رجلاً مثل ريجيس دوبريه قد يلعب دورًا مهمًّا خارج فرنسا: فقد منحه عملُه في أمريكا اللاتينية ومؤلَّفاته حول دور المفكر خلفيةً دولية. إلا أن كتبه لم تلقَ الصدى الذي يليق بها في الولايات المتحدة، وقد تكون اللغة السبب من وراء ذلك. وأتذكر الآن قصة تتعلق بدوبريه وباللغة. منذ سنوات، عندما صدر كتابي المثقف والسلطة في باريس (Seuil، 1996)، التقينا في برنامج تلفزيوني، أنا ودوبريه وفِنْكلكراوت. (وللمناسبة، شعرت أن الرجلين لا يستلطف واحدهما الآخر!) وبالعودة إلى صلب الموضوع، غمر الغضب دوبريه عندما علم أني وصفتُه في أحد مقالاتي بالكلمات الآتية: بـ"المفكر اللامع والمتعدد الآفاق". فقد استخدمت كلمة "متعدد" versatile بمعناها في اللغة الإنكليزية، أي الرجل المنفتح والقادر على تناوُل مواضيع مختلفة في كتاباته؛ لكنه اعتقد أني استخدمت الكلمة بمعناها الفرنسي، أي "الشخص المزاجي، المتقلب الآراء"...

ويتحدث عن إميل زولا، الروائي والمفكر الملتزم، قائلاً:

لم أعاود قراءة كتابات إميل زولا منذ فترة طويلة، لكني قرأته من خلال أحد زملائي الذي يعمل أستاذًا في قسم الأدب الفرنسي في جامعة كولومبيا. إن سيرة زولا التي وضعها هنري ميتران – ذلك الرجل المتضلِّع في كلِّ شاردة وواردة تتعلق بزولا – هائلة؛ وقد سمحت لي أعمالُه أن أتعرَّف أكثر إلى زولا. بالطبع، سبق أن قرأت رواياتِه إبان فترة دراستي، مثل جرمينال ونانا وسواهما، وأعرف أن زولا كاتب موهوب. لكنه لا ينتمي إلى الكتَّاب الذين أعاود قراءتهم مرارًا وتكرارًا، على غرار مارسيل پروست وغوستاڤ فلوبير، الذي يُعتبَر نقيضَ زولا على مستويات عدة – وهنا تأتي المقارنة في غير محلِّها. دعني أعترف، إذن، أن إعجابي بزولا المفكر الملتزم يفوق إعجابي بزولا الروائي. فالسياق الذي تجري فيه أحداث روايات زولا مغاير تمامًا للسياق الذي نعيش فيه اليوم. ما أحببته في زولا هو مداخلاته العامة والدور الذي لعبه كأحد الوجوه التي تركت بصماتٍ واضحةً في الثقافة الفرنسية. والمثير للاهتمام في ذلك الرجل هو ناحيته الفرنسية البحتة، وقدرة قضية ما على التأثير فيه ومسِّه من الداخل، وذلك بشهادة من المجتمع برمَّته، إضافة إلى قدرته على دفع الأمور نحو مزيد من العدالة، كما حصل مع نصِّه "أتهم" accuse. وستبقى كلمة "مفكر" penseur مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بزولا.

مقولة ألبير كامو

وعن ألبير كامو وعن رأيه بمقولته الشهيرة: "إذا خُيِّرتُ بين العدالة وأمِّي، أختار أمي"، التي تجسِّد العلَّة التي يعاني منها العالم المعاصر، حيث يندرج الجميعُ تحت راية ذويهم وجماعتهم ويغلِّبون النسَب على الانتساب، ويفضلون الولاءات القبلية والمجتمعية والشخصية على القيم والعدالة، يقول سعيد:

أنا أعارض هذا الانقسام، وأعتقد أن التصنيف مغلوط أساسًا. وأظن أن ذلك يُعزى أولاً إلى غياب أي تعارُض طبيعي بين "العدالة" و"الأم". لِمَ يُفترَض فينا أن نختار؟ ولِمَ لا يمكن لنا اختيار العدالة والأم معًا؟ من جهة أخرى، نحن نرتكب خطأ باعتقادنا بأن الدفاع عن العدالة قد يدفعنا إلى التخلِّي عن أمِّنا. فالعدالة بذاتها أمر طبيعي للغاية. وفي نهاية المطاف، وحدها العدالة تستطيع تخليص الأمهات من كلِّ شرٍّ يتربَّص بهن. إن الدفاع عن العدالة لا يعني بالضرورة مخالفة الولاءات والانتماءات الفطرية والأساسية. ومن خلال هذا السؤال، تبرز بعضُ النقاط التي تقف عائقًا بيني وبين كامو.

في كتابه الثقافة والإمپريالية، يقارب سعيد ألبير كامو مقاربةً مستحدثة، من خلال تحليل اللاوعي الكولونيالي، ويبيِّن أن كامو خضع، إما بوعيه كلِّه أو من دون وعي، لسيطرة العقلية الكولونيالية. وهو يشير أيضًا إلى أن الرجل العربي الذي قتله مرسو في رواية الغريب كان شخصية مجردة، نجهل عنها الكثير... يقول سعيد عن كامو:

أعتقد أن كامو كان رجلاً موهوبًا، إلا أنه بالغ – إلى حدِّ التصنع – في إظهار أخلاقياته. كامو كان واعيًا أخلاقيًّا، لكني حاولت إظهار كيف أن انعدام النزاهة وحال الهروب والنظرة المخالفة للتاريخ التي ألقاها على المكان الذي عاش فيه – كيف أن تلك الأمور كلَّها شوَّهتْ هذا الوعي الأخلاقي. وأعني بذلك أن كامو لم ينقل العلاقة الفعلية بين المستوطِن والمستوطَن كما هي في الجزائر. وعنده، شكَّلت الكولونيالية سياسةً سيئةً مارسَها نظامٌ سيئ وحكومة فرنسية سيئة، لكنه لم يكن يرى أن ذلك يندرج في سيرورة تاريخية طويلة، تستند إلى التجريد المنظَّم وإلى بناء عقلية كولونيالية. وأعتقد أن ذلك أشبه بالوضع الذي نشهده في إسرائيل، وفي سلوك بعض المفكرين تجاه هذه المسألة بالتحديد. وما لا أستطيع فهمه هو أن الكثيرين من الفرنسيين مازالوا يرون في كامو مثالاً للكاتب "الأخلاقي" والمفكر "التقدمي". وقد أدركت الأمر عندما درس ابني كامو في المدرسة. كان يقرأ رواية الغريب حينئذٍ، وسألته عما إذا كان الكتاب مدروسًا بحسب سياقه، وإذا ما كانوا يتعرفون خلال الحصص المخصَّصة لدراسته إلى الخلفية والكاتب والحياة في الجزائر... لكن الدروس لم تكن تجري على هذا النحو! ففي معظم الأحيان، يتم تجاهُل هذه الأمور كلِّها، ويظهر كامو، بالتالي، بوصفه الكاتب الأخلاقي الفرنسي الكبير في القرن العشرين. لا شك أنه، في حالة كامو، قد يغرينا التركيزُ على الأسلوب فقط: فنحن في وجه كتابة نثرية رائعة، في وجه "كتابة بيضاء"، كما سمَّاها بارت. ومن المؤكد أن كامو كان يعيش في بيئة صعبة جدًّا، في بيئة منغلقة على فرنسيي الجزائر. لكننا لا نجد في شخص كامو وعيًا لجهة استغلال شمال القارة السمراء. بينما الكاتب الفرنسي أندريه جيد كان يعي تمامًا وجود هذا الاستغلال. وأنا لست أستغيب كامو: فلطالما قلت، ولا أزال، إنه كان كاتبًا موهوبًا جدًّا، لكنه يخفي أمرًا ما، وهذا لا يريحني. فمن الطبيعي أن نرى فيه، كما نرى في أندريه جيد، مثالاً يُحتذى به لجهة الثقافة الفرنسية. إلا أني أعتقد أن وضع جيد يختلف تمامًا: كامو كان يعتبر نفسه مؤلفًا أخلاقيًّا وكاتب مقالات؛ أما جيد فكان، قبل كلِّ شيء، من أنصار مذهب المتعة hédonisme، وكانت أعماله منفتحة جدًّا ومتأثرة بهذه المتعة، على طريقة أوسكار وايلد.

وعن جان پول سارتر الذي عاد فجأةً إلى الطليعة، بعدما كاد العالم أن ينساه، وعن الإرث الذي تركه، يقول سعيد:

مهما كثرت الإشاعاتُ عنه، وعلى الرغم من سيئاته كلِّها، يبقى سارتر، بنظري، أحد أهم الوجوه الفكرية التي عرفَها العالم في القرن العشرين. وقبل الحديث عن سارتر الروائي، تجدر الإشارة إلى أنه كان ناقدًا أدبيًّا وفلسفيًّا فريدًا. وفي هذا الإطار، تطاردني أعمالُه من كلِّ ميل وطرف. أذكر منها كتابه الرائع عن فلوبير، أبله العائلة، وكتابه عن بودلير والمقالات الأخرى التي تناولتْ باقةً متنوعةً من المؤلِّفين. وأظن أن أعماله تأتي في صدارة التحقيقات النقدية. وقد عرفنا سارتر أيضًا كروائيٍّ وكاتب مسرحيٍّ رائع. فكيف ننسى رواية الغثيان وسواها من روائع المسرح التي تحمل توقيعه. ميزة سارتر أنه كرَّس معظم حياته ليطرح على نفسه، كما على غيره، أسئلةً حيوية. وقد برهن عن شجاعة كبيرة في تعاطيه مع الأمور، فتطرَّق إلى موضوعات شبه محرمة في المجتمع، مثل ڤيتنام والجزائر. غير أن ذلك لا ينفي وجود بعض الشوائب والإبهام حول مسيرته الفكرية على بعض المستويات. ونذكر في هذا الإطار موقفه حيال القضية الفلسطينية.

"تميل مواقف سارتر حيال الصراع العربي–الإسرائيلي إلى شيء من الغموض والتناقض، خصوصًا بالمقارنة مع التزامه المطلق تجاه القضيتين الڤيتنامية والجزائرية، أو المديح الذي قام به في المقدمة اللاهبة التي وضعها لكتاب فرانتز فانون ملعونو الأرض." ويضيف سعيد:

... أو عندما نتذكر إعجابه الكبير بجان جونيه وبالعمل الرائع الذي أهداه إياه.

وعن امتناع سارتر عن إظهار المزيد من الدعم للقضية الفلسطينية يقول:

أعتقد أن سارتر تأثر بالحرب العالمية الثانية – وهذا طبيعي جدًّا. لقد أدرك فظاعة "المحرقة" Holocauste التي أتت بمثابة ضربة أعادتْه إلى الواقع وعززتْ وعيَه السياسي والفكري. والأمر عينه ينطبق ميشيل فوكو، على الرغم من حداثة سنِّه آنذاك. فكلاهما شعر بعد الحرب أن إنشاء دولة إسرائيل خطوة طبيعية ومحقة، تأتي بمثابة تعويض عن معاداة أوروبا للسامية، وقد تسمح بالتخفيف من وطأة الشعور بالذنب الذي يعذِّبهما ويعذِّب غيرهما بسبب الفظائع التي ارتُكِبَتْ في حق اليهود الذين تعرضوا للإبادة الجماعية خلال الحرب، على اختلاف جنسياتهم، فرنسيين كانوا أم ألمانًا أم بولنديين. ومن هنا، عجز سارتر عن استيعاب وجهة النظر العربية. ونادرًا ما اهتم بالعالم العربي، وكان ذلك غريبًا بعض الشيء. فكان يرى في عبد الناصر رجلاً اشتراكيًّا، من جهة، وفاشيًّا يشبه الألمان، من جهة أخرى. لم تنشأ يومًا علاقة فعلية بين سارتر وبين الثقافة العربية، ولطالما غلب الانزعاج عليها – وهذا ما لا أفهمه، وهو أحد الأسباب التي دفعتْني إلى مقابلته في العام 1979. أردت أن أفهم الحقيقة: فصلة سارتر بالفكر العربي كانت ضعيفة، في الوقت الذي كان على علاقة متينة ببعض الإسرائيليين، على غرار إيلي بن غال وپيير ڤكتور، اللذين أخذاه في رحلة إلى إسرائيل وأعطياه صورة إيجابية عنه... أما العالم العربي والثقافة العربية فلم يعرفهما البتة. ذلك كله كان غريبًا بعض الشيء. لكننا بشر، ولكلٍّ سيئاته! هناك أمور تمسُّنا وتؤثر فينا أكثر من غيرها. لقد أخطأ سارتر في قضايا كثيرة، ولم تؤثر فيه معاناةُ الشعب الفلسطيني. صحيح أن موقفًا كهذا مخيِّب للأمل، لكنه لا يكفي لنفي موهبته ومواقفه الشجاعة حيال قضايا أخرى.

سارتر والعداء لأمريكا

وعن عدائية سارتر وسيمون دُه بوڤوار المتطرفة للولايات المتحدة – وهو شعور ذو طبيعة جوهرية، لا يستند إلى انتقادات شرعية لسياسات أمريكية معينة – يقول سعيد:

أزعجني ذلك، خصوصًا أن هذه العدائية لا تستند إلى انتقادات شرعية، حتى إنها لا تستند إلى معرفة حقيقية بالولايات المتحدة. ومن الواضح أن سارتر ودُه بوڤوار كانا يجهلان هذا البلد. والأمر كذلك عند غيرهما من المفكرين الفرنسيين: فغالبًا ما تنبع عداوتُهم للولايات المتحدة من جهل فعلي لهذا البلد. وهذا ما دفعني، في مرحلة ما، إلى كتابة مقالة تحت عنوان أمريكا الأخرى، التي صدرت في صحف عالمية عدة، ومنها صحيفة le Monde diplomatique الفرنسية، في آذار 2003. أعتقد أن من الضروري أن نتذكر دائمًا أن بوش وإدارته لا يمثلان سوى أحد أوجُه الولايات المتحدة الكثيرة والمختلفة. كنت أود لو أن سارتر ودُه بوڤوار أوليا أهميةً أكبر للوجه الآخر من أمريكا. جان جونيه، مثلاً، الذي التقيت به للمرة الأولى في جامعة كولومبيا، اهتم كثيرًا لهذا "الوجه الآخر": فقد نظر عن كثب إلى الحركة المضادة للحرب التي نشأت في نهاية الستينيات، وإلى النشاطات التي قام بها طلاب اليسار والجذريون، وحتى الـBlack Panthers. جان جونيه كان متميزًا من هذه الناحية، على خلاف الكثيرين من المفكرين الفرنسيين التقليديين والتافهين في عدائهم لأمريكا، لأن شعورهم ذاك ما كان يستند إلى معرفة كافية بهذا البلد أو إلى انتقادات شرعية ومفصَّلة.

وعن تأثير مفكِّري ما بعد الحداثة في فرنسا على طلاب الجامعات الأمريكية التي أبدت اهتمامًا كبيرًا بمفكرين من أمثال فوكو ودرِّيدا وبودريار الذين يحظون باحترام أكبر في الولايات المتحدة منه في فرنسا، يقول:

إنه لسؤال صعب. إذا أخذناهم، كلاًّ على حدة، سأقول إن فوكو لا يحظى بالتقدير الذي يليق به كباحث وكجامعي. فالكثيرون من الأمريكيين يعتقدون أن فوكو هو فقط هذا الرجل الذي أطلق العنان لموضوعات أثارت ضجةً كبيرة، كالرغبة المثلية والجنس والجنون – وهي موضوعات منحت فوكو مكانةً كبيرة، وجعلت الناس ينسون أنه جامعي كبير وفيلسوف رائع في الدرجة الأولى، "فيلسوف جذري"، بحسب تصنيف نيتشه. هذا هو الوجه الذي أثار إعجاب جيل دولوز في فوكو والذي بقي مهمَّشًا بعض الشيء في أمريكا، حيث يطغى الفكرُ المنظم والأنظمة الصغرى على البقية. عندما يتعلق الموضوع بمفكرين مثل درِّيدا وفوكو، فدرِّيدا ومفهوم "التفكيك" déconstruction يقعان اليوم في قلب نوع من "البدعة" الموجودة في الجامعات الأمريكية. وقد ركَّز الكثيرون على ذلك المفهوم، من دون أن يفهموا أعمال درِّيدا الأولى. وأعتقد أن أعمال درِّيدا اللاحقة عكست، بطريقة أو بأخرى، التأثير الأمريكي، فتحوَّل إلى كاتب يتَّسم بغموض أكبر. ومنذ ذلك الحين فقدت أعمالُه رونقَها لأنها كانت تفتقر إلى الصراحة. إن مشكلة هؤلاء المفكرين لا تكمن في المبالغة في تقديرهم بقدر ما تكمن في أن بعض النواحي من أعمالهم – وأشدد على "بعض النواحي" – تحولت إلى مجرد آليات متحركة. وبالتالي، بات من السهل الحصول على كميات هائلة من "نسخ" درِّيدا وفوكو، بدلاً من تكوين أشخاص يحاولون فهم درِّيدا وفوكو وانتقاد أعمالهما بالأسلوب نفسه الذي نقلاه في تعاليمهما. على صعيد آخر، أُصبتُ بخيبة كبيرة عندما علمت أن جاك درِّيدا قبل دكتوراه فخرية من "الجامعة العبرية" في إسرائيل... ولعل توقيعه على بيان يدين بقسوة السياسات الإسرائيلية هو بالضبط ما خيَّب أملي. وقَّع على البيان وقبل لقبًا فخريًّا منحتْه إياه جامعةٌ تابعة لبلد وَصَفَه بنفسه أنه يقمع الفلسطينيين وينتهك حقوق الإنسان ويضرب بالقانون الدولي عرض الحائط! في خصوص درِّيدا وبودريار، لا وجود لحجم التاريخ وأهميته. عندما يعلن بودريار أن عهد السرديَّات الكبرى وزمن التحرر وعصر الأنوار ولَّت، أنا لا أوافقه الرأي بتاتًا. فالكثير من الناس في العالم، وفي الولايات المتحدة، يتأثرون حتى اليوم بكلِّ ما له صلة بالعدالة والحرية والأمل والقيم الأخرى. ونظرًا إلى ذلك، أعتقد أن ما يروِّج له بعضُ مفكري ما بعد الحداثة لا يخلو من ازدراء كلِّ مَن يؤمن بهذه القيم واستخفاف به. وهذا هو السبب عينه الذي يمنعني من الموافقة على مفهوم "نهاية التاريخ" لفوكوياما، الذي يبسِّط الأمور كلَّها إلى حدِّ التفاهة. أين الاعتراف بجهود الإنسان إذن؟ أنا ألمس نوعًا من الكسل عندما أسمع أشخاصًا يأتون ليقولوا إنهم فقدوا كلَّ اهتمام بتلك الأمور وبقضايا العالم الفعلية وبمعاناة البشر، وإنهم باتوا يهتمون بأفكار أخرى، كالمسرح والمظاهر والروايات القصيرة والمآثر التقنية...

ويتطرق إدوارد سعيد إلى موقف بعض المفكرين من الصراع العربي–الإسرائيلي الذي يعيد إلى مسألة "العدالة وأمي"، بحسب مقولة كامو، خصوصًا أنه في عالم اليوم يتقدم النسَب على الانتساب، فيقول:

أعتقد أن العلاقة التي يحاول بعضهم إيجادها بين قضية ما والسبب الذي يدفعهم إلى الدفاع عنها هي، في معظم الأحيان، علاقة طبيعية تنبع من انتمائهم ونسبهم. كنت أتمنى أن ينبع خيارهم من قناعة شخصية. فالاختيار يفرض ألا يُهرع المرء إلى مساندة "معسكره" تلقائيًّا. عندما انتقدتُ القيادة الفلسطينية في شدة، أثنى ريجيس دوبريه على موقفي النادر. ذلك أن معظم المفكرين يميلون إلى الدفاع غير المشروط عن معسكرهم – وهذا ليس مفهومي لدور المفكرين: فمهمتهم الأولى تبقى الاعتراف بالحقيقة، مهما كانت صعبة، وإن دفعتْ شعبَهم إلى التشكيك فيهم. وفي نهاية المطاف، يعجز المفكر عن إتمام مهمته على الوجه الصحيح عندما يكتفي بإخبار جمهوره أو جماعته ما ترغب في سماعه وما يُطمئنها، ويثبِّت قناعاتها السابقة والمكتسبة. وأظن أن هذا الفرق يستحق أن نتوقف عنده. إنه مسعى وراء النقاوة وتحقيق إنجاز ما. ثانيًا، كنَّا نجد عند بعض المفكرين – حتى الكبار منهم، ماعدا بعضهم طبعًا – حاجةً ماسةً إلى الإيمان بشيء ما. حتى عندما كانوا يتكلمون عن العَلمانية، استطعنا أن نستشف فيهم صورةً خياليةً غير عَلمانية؛ وغالبًا ما رأينا دفعًا شبه دينيٍّ يحثهم على المضي قدمًا. لربما كان هذا الدفع بديلاً عن الإيمان الكاثوليكي. لكني أعتقد أن المشكلة تكمن على هذا المستوى: هناك حاجة إلى الإيمان بنظام سماوي ودفع شبه دينيٍّ وسعي وراء تحقيق إنجاز تام، مهما كان الثمن. ثم إن صورة المفكر الذي يلعب دور المحقِّق، ويهتم بمشكلات الدنيا وبتفاصيل خاصة، ويكرِّس نفسه للنظر في الظروف التي يعيش فيها الناس الأقل حظوة، ويقوم بدراسة القضايا الاجتماعية على مرِّ التاريخ، ويزور الأماكن المهملة عادةً والأحياء الفقيرة، حيث يعيش المهاجرون والطبقة العاملة – أي المفكر الذي يتسلح بالشجاعة لمواجهة البؤس الاجتماعي – هذه الصورة، إذن، باتت عملةً نادرة في فرنسا، على الأقل قبل وصول بورديو، لأن بورديو غيَّر مجرى الأمور، ولربما كان وحده الذي عالج مسائل ترتبط بالثقافة الشعبية والحياة اليومية بكلِّ ارتياح – على الأقل أنا لا أعرف سواه. فبورديو كان يتوجَّه إلى الشعب ويسعى إلى استقطاب جمهور واسع. في الوقت نفسه، كان يحترس من وسائل الإعلام؛ إلا أن حذره هذا لم يمنعه من الذهاب للبحث عن جمهوره والتواصل مع الشعب.

معاداة السامية والعنصرية

وعن بعض المظاهر المُخِلَّة في فرنسا، مثل بروز الشعور بمعاداة السامية والرهبة، المَرَضية أحيانًا، من الإسلام والعنصرية ضد العرب يقول سعيد – وهو الذي كتب في الاستشراق أن معاداة السامية والعنصرية ضد العرب ناجمتان عن الخلفية الفكرية نفسها والعقلية عينها:

لا يمكن لنا الفصل بين معاداة السامية وبين العنصرية ضد العرب – هذا مؤكد. فجذور الاستشراق هي نفسها جذور معاداة السامية، أي النظريات العرقية والأفكار المغلوطة حول اللغات السامية ومفهوم "العِرق السامي" والفكرة السائدة التي تقول إن اليهود شرقيون فقط. بقي اليهود في فرنسا وبريطانيا "شرقيين" لمدة طويلة من الزمن، وكان يُنظَر إليهم كفئة غير قابلة للاندماج، تمامًا كما يُنظَر إلى بقية الشرقيين اليوم: فئة غير قابلة للدمج في المجتمع. إن أشهر الشخصيات اليهودية في الأدب الإنكليزي وَرَدَتْ في مسرحية تاجر البندقية وفي رواية دانيال ديروندا لجورج إليوت. وفي العملين، نحن أمام شرقيين، لا يهود من السكان الأصليين، بل غرباء. ولطالما بقي الوضع على هذه الحال في فرنسا.

ويضيف:

إن مكافحة العنصرية، تحت أشكالها كلِّها، بدأت لتوها. لكني أعتقد أن من الممكن تخطِّي تلك الأفكار المسبَّقة، لاسيما في فرنسا. ففي الولايات المتحدة، عندما نحاول الاهتمام بتاريخ الانشقاق، وتاريخ معارضة العقائد المتشدِّدة، وتاريخ العنصرية المضادة، ومكافحة الأفكار المسبقة، والصراع من أجل العالمية والانفتاح على العالم، تبقى "فرنسا الأنوار" هي المرجع الأول الذي يخطر في بالنا. هذا لا يعني أن المشهد كان خاليًا من أية تناقضات، بل على العكس. فهذه التناقضات تتبلور مثلاً من خلال ڤولتير، أحد رموز عصر الأنوار، على الرغم من معاداته للسامية، هو الذي كان يروِّج للعَلمانية ويقوم باتفاقات جانبية مع البابا في الوقت نفسه! ولكن، على الرغم من ذلك كلِّه، نقل لنا ڤولتير مبادئ الصراع من أجل العالمية والعدالة. وأعتقد أن هذا الصراع سيبقى خالدًا، مهما تغيَّر الزمان.

إنما المذهل والغريب في فرنسا هو أنكم ستجدون دائمًا، في وجه العنصرية والعصبية المحلِّية والعقول المحدودة، تيارًا يتسم بالتسامح والعظمة وخطابات تدعو إلى إرساء العدالة والحرية، ما يساعد على خلق إنسان مثل توسان لوڤرتور. إن توسان لوڤرتور كان، بطريقة أو بأخرى، ابن الثقافة الفرنسية: فهذا الرجل الأسود قرأ "إعلان حقوق الإنسان والمواطن"، على الرغم من ثقل العبودية ومن يديه المكبَّلتين، وقرأ أعمال ميرابو وتأثر بعصر الأنوار... فتحركت أحاسيسه وانكسرت الأصفاد، لينتفض الإنسانُ الموجود في داخله في سبيل محاربة العبودية في هايتي. هكذا كُتِبَتِ الأسطرُ الأولى من قصة تروي ثورةَ شعب أراد الحياة فاستجاب له القدر.

*** *** ***

ترجمة: ديما فقيه
عن الحياة، 30/06/2007

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود