حكايات مقهى مالاكوف الحزينة
قراءة في الفضاء النصِّي

قلولي بن ساعد

 

لا تهدف هذه القراءة إلى مناقشة الخيارات الإيديولوجية والقناعات المترسِّبة في الذاكرة الثقافية لصاحب مجموعة حكايات مقهى مالاكوف الحزينة القصصية بفعل عوامل وملابسات عديدة ليس هاهنا مجال الحديث عنها. كما لا تهدف أيضًا إلى التركيز على حميد عبد القادر، الصحفي والباحث المهموم بتاريخ الحركة الوطنية و"حماقات" الفاعلين في حرب التحرير الوطنية، الذي ذاع صيته من خلال كتابيه الأساسيين: عبان رمضان: مرافعة من أجل الحقيقة وفرحات عباس: رجل الجمهورية. إنما ستدور هذه القراءة على الوجه الثاني لحميد عبد القادر، وجه المبدع الذي أصدر منذ سنوات رواية الانزلاق، ثم بعد ذلك مجموعته القصصية حكايات مقهى مالاكوف الحزينة[1].

سنقوم بقراءتنا هذه من وجهة نظر ما تسمِّيه جوليا كريستيڤا بـ"الفضاء النصِّي"، كما تمثَّلتْه هذه المجموعة وكما هو مبلور في المطارحات النظرية لهذه الناقدة الفرنسية، البلغارية الأصل، رغبةً منَّا في إنجاز ما يحفز على التفكير في قراءة نقدية تستوفي الإنجاز النقدي الباهر الذي ما فتئت تلح عليه هذه الباحثةُ من أجل إدراك أفضل وتمثُّل أعمق لما يجري على صعيد العلوم الإنسانية وفتوحاتها المعرفية الممارَسة على مستوى الخطاب الثقافي، وذلك للخروج بالنصِّ الإبداعي إلى آفاق رحبة، بدلاً من إبقائه ضمن دائرة النقد المعياري التذوقي، العاجز عن التحكم في المفاصل الأساسية لتحولات الخطاب الإبداعي، وللمساهمة في بلورة خيارات نقدية جديدة لواقع ثقافيٍّ نصوصيٍّ لا يستقر على حال.

أمر آخر لا بدَّ من الإشارة إليه، وهو أن مفهوم "الفضاء النصي" قد بدأ في السنوات الأخيرة يعرف طريقه إلى النقد العربي. ويمكن لنا اعتبار حميد لحميداني في كتابه بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، وحسن بحراوي في كتابه بنية الشكل الروائي، والطاهر رواينية في دراسته "سيميائية الفضاء في رواية الجازية والدراويش" لعبد الحميد بن هدوقة، وشريبط أحمد شريبط في دراسته "بنية الفضاء في رواية غدًا يوم جديد" لعبد الحميد بن هدوقة أيضًا، تُعَد من أوائل الأبحاث والدراسات التي اقتحمت هذا المجال بكثير من آليات الاستيعاب والتمثل والقدرة على التحليل المشروطة بصلاحية الاستخدام والتوظيف المنهجي واستنباط النتائج، ملامَسةً للحدود القصوى لتمثُّلات الفضاء النصِّي في القصة والرواية معًا.

ومنه، يجدر بنا، قبل الولوج إلى أشكال وتمثُّلات الفضاء النصِّي للقصص التي احتوتها المجموعة، الإشارة إلى أن هذا المفهوم عند جوليا كريستيڤا يختلف اختلافًا جذريًّا وعميقًا عن مفهوم آخر سبق للروائي والناقد الفرنسي ميشيل بوتور أن أشار إليه وخصَّص له فصلاً كاملاً من كتابه الأساسي بحوث في الرواية الجديدة. فعلى الرغم من أن كلاهما يستعمل المصطلح نفسه – "الفضاء النصي" –، لكن مفهومه يختلف عند كلٍّ منهما من حيث المدلول وآليات الاشتغال. فجوليا كريستيڤا، على سبيل المثال، حينما تحدثت عن "الفضاء النصِّي للرواية" espace textuel du roman، كانت تعني به الرؤية التي يتم بها النظر إلى العالم الروائي والقصصي من فضاءات وأمكنة تؤطِّر الأحداثَ وتوجِّه مصائرَ الشخوص. تقول:

الفضاء النصِّي مرصود بوجهة النظر الوحيدة للكاتب التي تهيمن على مجموع الخطاب، بحيث إن النصَّ بكامله متجمع في نقطة واحدة والخطوط كلها تتجمع في العمق حيث يقبع الكاتب. وهذه الخطوط هي الأبطال الفاعلون الذين تُنتِج الملفوظاتُ السردية بواسطتهم المشهدَ الروائي والقصصي.[2]

بينما الذي يقصده ميشيل بوتور بـ"الفضاء النصِّي للرواية" هو:

الفضاء النصِّي الذي تشغله الكتابة ذاتها باعتبارها أحرفًا طباعية على مساحة الورق وتشمل طريقة تصميم الغلاف ووضع المطالع وتنظيم الفصول وتغيرات الحروف المطبعية وتشكيل العناوين.[3]

هذا المفهوم، في تقديرنا الشخصي، لا يبتعد كثيرًا عن مفهوم "المتعاليات النصية" عند جيرار جنيت، بل يتقاطع معه. ومهما يكن من أمر، فاللافت للنظر في هذه المجموعة القصصية أن زخم الأحداث يتموضع في إطار مكانيٍّ محدد في النصوص بدقة، هو مقهى مالاكوف وأمكنة أخرى جزئية (يسميها لوري لوتمان "التقاطبات المكانية")، هي البيت والبحر وبلدة بني مزغنة وڤيلا لاجودان وغيرها. ومنه تفضي الملاحظة إلى أن القصة عند حميد عبد القادر يتموضع شكلُها الفني والحكائي على ما تقتضيه طبيعةُ الفضاء النصي بمدلولاته الواقعية والرمزية.

ففي قصة "وفاة رجل سيء"، يقدم لنا القاص الواقع السياسي، ببُعده الجغرافي والمكاني، بالاتكاء على حادثة الاستيلاء على السلطة وصراع "الأخوة الأعداء" عشية الاستقلال بين الحكومة المؤقتة وجيش الحدود، بما في هذه الحادثة من ظلال وأقوال وشهادات متواترة إلى حدِّ التناقض. وقد بدا واضحًا، مند البداية، أن فضاءات نصِّية، مثل مشارف العاصمة ومقهى مالاكوف وڤيلا "الرجل السيئ"، كما تصفها القصة، بما هي أمكنة وفضاءات في كثافتها النصية، يمكن لنا اعتبارها الفضاء الطبيعي والرمزي الذي يختزن زخم الأحداث بصورها الوصفية ومشهديتها الدالَّة على تملُّك "السارد–الخارج نصي" (أي الكاتب) لمواد الكتابة وأسمدتها؛ ونعني بذلك الخلفية التاريخية التي تشكل المرجع الأساسي للملفوظ السردي عند حميد عبد القادر والتي تكاد أن تهيمن على النسيج النصي لقصص هذه المجموعة، باستثناء قصة "القصة العجيبة والمأسوية للعاهرة البريئة وعاشقها الحزين". ولا أدل على ذلك من قول السارد: "عندما وصلت قوات غارديماو إلى مشارف العاصمة، نصب العقيد خيمته وانتظر اللحظة الحاسمة"، أو قوله أيضًا: "هذه قصة صعود العقيد إلى سدَّة الحكم يرويها المحاربون القدامى في مقهى مالاكوف والأماكن العامة حتى لا تندثر".

إن مقهى مالاكوف والأماكن العامة والأحياء تحيل إلى ما تصفه جوليا كريستيڤا بـ"الخطة العامة للراوي أو السارد–الخارج نصي، أي الكاتب، في إقامة الحدث بواسطة الأبطال"[4]. حتى إن كريستيڤا تشبِّه الفضاء بـ"الواجهة المسرحية". ومع أن تحليلاً من هذا القبيل يتطلب معرفةً عميقةً بما يشكِّل خصوصية النص السردي، من جهة، وبكتابة التاريخ كرواية (كما يرى جان فرانسوا ليوتار)، وذلك حتى لا يتم تحويل النص السردي إلى وثيقة تاريخية وحتى لا يتم التطابق بين الرواية أو القصة، كجنس أدبيٍّ مستقل، وبين التاريخ، كعلم قائم بذاته (هو موضوع النقد التاريخي والسوسيولوجي)، إلا أن هذه القراءة تطرح في وضوح الولوج عبرها، من خلال الصور والجمل ولولبية السرد، إلى "الفضاء النصي كمنظور"، بتعبير جوليا كريستيڤا؛ وهو

[...] فضاء يشير إلى الطريقة التي يستطيع السارد–الخارج نصي بواسطتها أن يهيمن على عالمه الحكائي، بما فيه من أبطال يتحركون على واجهة تشبه واجهة خشبة المسرح.[5]

من هذه الزاوية، يصبح النص السردي مستقلاً بذاته عن مرجعية كاتبه، ولا يتم أي خلط بينهما، بل يمكن اعتبار علاقتهما علاقة تناظُر.

ومن هنا فإن استدعاء توظيف المكان كفضاء نصيٍّ وتوظيف الممكنات التي تتيحها "التقاطبات المكانية" (بتعبير لوري لوتمان) يمكِّناننا من تجاوُز القراءات التاريخية والسوسيولوجية التي تحوِّل أدواتها الإجرائية إلى إطار للإجهاز على خصوصية النص السردي والقضاء عليه في علاقته بالتاريخ وإفراغه من جوهره الفني بوصفه مبررًا وحيدًا لإثبات شرعيته الفنية.

ففي قصة "لقاء الماضي"، يعود السارد بذاكرته إلى زمن القمع وتكميم الأفواه داخل حيز سردي يراوح بين شكلين من الأشكال الحكائية ميَّزهما الناقد جان پويون في كلامه على السيرة الذاتية – وقد رأينا أن هذا النص يعكسهما في وضوح – هما "الذكريات" و"التذكارات":

الذكريات souvenirs، حيث يسعى السارد–الخارج نصي ليكون مع الذي كانه، والتذكارات mémoires لرؤية نفسه للحكم عليها وتبريرها ومجادلتها، مما يعني ضرورة انفصاله عن ذاته والنظر إليها من خلف.[6]

في هذا السياق، استعاد السارد وقائع تعود إلى مرحلة ما قبل الانفتاح الديموقراطي الذي عرفتْه الجزائر وأماكن، مثل البيت والبحر وبلدية قيوفيل ومقهى مالاكوف، كانت مسرحًا لها، كقول السارد: "حينما رأيته يدخل مقهى مالاكوف كان الطقس باردًا"، أو قوله:

في البيت تناولنا الغداء في صمت. لم يتكلم والدي، وكذلك أمي. لم نكن نسمع سوى طقطقة الملاعق وهي تغوص في حساء السمك الذي طبخته أمي. وفجأة سمعنا طرقات على الباب، وكانت عنيفة ومتتالية. سقطت الملعقة من أصابع أمي، ونظر والدي إليَّ كأنه يطمئنني. وبينما تلاحقت دقات الباب متواصلة مسرعة عنيفة، نهض والدي وفتح الباب. وجد رجال الشرطة أمامه غلاظًا قاماتهم طويلة. أمسكوه من قفاه. ضربوه ضربًا مبرحًا. نزل الدم من أنفه. سال على قميصه. لأول مرة أرى الدم. كان دم والدي. [...] كنت أنتظر أن أكبر وأركب مع والدي قارب الصيد وأصطاد السمك وأدخل مقهى مالاكوف لأجلس مع الصيادين.

تبدو هذه الجمل والمقاطع التي اخترناها في عناية شديدة مولدةً للآثار التي تنتجها الكتابةُ السرديةُ في تماسها المباشر مع فضاءات مثل البيت، البحر، مقهى مالاكوف، باعتبار هذه الفضاءات المكان الطبيعي المكوِّن للنصِّ السردي الذي يعمل على إنتاج النص وتمظهراته اللسانية والخطابية، وتحديد مكوناته الخبرية والوصفية، وتنظيم صوره الحكائية، من خلال انفتاح النص السردي على نصوص إجناسية، مثل الذكريات واليوميات والنص السيرذاتي، للعودة بالذات إلى حالة الرعب الطفولي والدموي، كون النص الأدبي، كما يتصوره التحليل النفسي،

[...] نصًّا يتجذر في انفعالات وعواطف الطفولة وينفصل عنها كي يحوِّلها إلى موضوع جمال. فالطفولة هي نفسها نصٌّ مفقود تكتبه الذاكرةُ عبر تحويله إلى نسخة مزوَّرة عن ذاته [...][7]،

بتعبير الباحث المغربي فريد الزاهي. وبالقدر نفسه، يرسم القاص جداريةً أخرى لشريحة من الحياة تتحرك وتخطو على ركح الفضاء المميز للسارد؛ ونعني به مقهى مالاكوف في قصته "تأملات رجل يائس". إذ يفتتح السارد–الخارج نصي نصَّه على مشهد رغبته في البقاء طويلاً في مكانه الأثير أو "بيته الأليف" (كما يسميه غاستون باشلار)، مقهى مالاكوف، بقوله: "أشتهي البقاء في مالاكوف. ضجيجه ينسيني تعاستي وفيه تختفي آلامي"، أو بقوله أيضًا:

أرفض أن أشبه والدي الذي مات منذ سنة. عاش خائبًا ومات غارقًا في خيبته. كان يؤمن بالثورة، ويفتخر برصاصة سكنت رجله اليمنى أثناء الحرب. قال إنه قتل فرنسيًّا في قلب العاصمة فتلقفت الشرطة آثاره. أطلقت عليه وابلاً من الرصاص فسقط جريحًا. ألقي عليه القبض ونُقل إلى ڤيلا سوزيني. عذَّبوه حتى الموت ثم وضعوه في سجن سركاجي إلى غاية انتهاء الحرب. خرج من السجن سعيدًا، لكنه عاش تعيسًا مثل البسطاء أمثاله. تحدث عن الثورة كثيرًا، ثم سرعان ما ركن للصمت. ولما مات لم يترك سوى بذلة الشنغهاي وتفاصيل عملية شارع روندن التي نفَّذها سنة 1956.

إن مجموع هذه الأمكنة، مثل مقهى مالاكوف، العاصمة، سجن سركاجي، ڤيلا سوزيني، شارع روندن، بما هي بؤر مركزية أو "لواحق منظورية" (بتعبير الناقد الأمريكي ديڤيد هيرش)، تظل محافظةً على هوية وجوده ومنظوره الرؤيوي، بحرصه الكبير على هندسة المعنى الذي يريده انطلاقًا من الفضاء الذي يشغل حيِّز تفكيره كـ"هوية نصية" (بتعبير پول ريكور) ويشكِّل عناصر معرفته بهذا الفضاء، بما يحمله من دلالات تاريخية وسوسيولوجية وأنثروپولوجية وسياسية. ومنه، جاء هذا الاهتمام بالفضاء النصيِّ لهذه المجموعة القصصية كواحد من البدائل النقدية العديدة التي توفِّرها النصوص في علاقتها بأشكال التلقي والقراءة استكمالاً لملف الكتابة الإبداعية.

*** *** ***


horizontal rule

[1] حميد عبد القادر، حكايات مقهى مالاكوف الحزينة، قصص، دار الحكمة، الجزائر: 2005.

[2] حميد لحميداني، بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، طب 3: 2000، ص 61، نقلاً عن: Le texte du roman : approche sémiotique.

[3] ميشال بوتور، بحوث في الرواية الجديدة، بترجمة فريد أنطونيوس، منشورات عويدات، بيروت، طب 1: 1971، ص 112.

[4] بنية النص السردي...، مرجع مذكور، ص 16.

[5] المرجع نفسه، ص 62.

[6] Jean Pouillon, Temps et roman, Gallimard, Paris, 1993, p. 55.

[7] فريد الزاهي، النص والجسد والتأويل، دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء: 2003، ص 134.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود