|
150 سنة على ولادة فرويد إذا
أردنا أن نتكلم على حياة زيغموند فرويد
وأعماله، قد لا يكفي لذلك العديد من المجلدات.
وإذا أردنا الاختزال، نقول: "ولد ثم عاش ثم
مات"! ولكن إذا ألقينا نظرة على تأثير أفكار
الرجل في القرن العشرين، لا يختلف المفكرون
والأطباء على أنه كان من كبار رجال العصر، إذ
أعمل تفكيرَه في عمق البنية النفسية للإنسان
وكَشَفَ النقاب عن الكثير من الألغاز التي
كانت تقيد انطلاقة الفكر؛ بل إنه استطاع أن
يحرِّره من الموروث الخرافي ومن القيود
الاجتماعية التي كانت تكبِّله. ناهيك أن
خلاصة الأعمال هو ما استطاع أن يستمر، على
الرغم من تغير الأزمان والأجيال. أما حقل الطب
النفسي، فقد طبعه الإرثُ الفرويدي بمنهجية
جديدة لم تكن معهودة من قبل. إذ لم تعد الأعراض
النفسية غامضةً تحتفظ في مكنونها بالمعنى
الذي تنطق به، بل أصبح في الإمكان تأويلُها
ونقلُها من اللاعقلانية إلى العقلانية، وعن
طريق كشف مكنونها، إضافةُ إمكانية علاجية لم
تكن متوفرة سابقًا. فقد كان لفرويد الفضل في
علاج الكثير من الأمراض النفسية، دون إقفال
الطريق أمام إمكان التطور في اكتشاف علاج
الأمراض المستعصية، أمثال الذهان
والانحرافات المتعددة. صحيح أن الكثير
من الأطباء اعترض على نظرياته، إلاَّ أنهم لم
يستطيعوا الالتفاف حولها، لأن تطابُق النظري
مع العيادي كان يفرض الإقرار بصحة نظريته،
على الرغم من اقتناعهم بالأصل البيولوجي
للمرض. ففرويد استطاع أن يكشف عن واقع بنية
نفسية كان في الماضي في حُكْم المعتقد
الديني، وصار فيما بعد واقعًا تحت سيطرة
التفاعلات البيولوجية. أهم ما يميز
الإرث الفرويدي عن غيره هو، أولاً، اكتشاف
اللاوعي، وثانيًا، اختراع المنهجية
التحليلية في العمل العيادي. وقد أحدث ذلك
صدمةً في حقل الفكر الغربي، جعلت الكثيرَ من
المفكرين في البداية يتهمونه بالشعوذة
متخفيًا وراء ستار علمي. فكيف يمكن للإنسان أن
يكون منقسمًا على ذاته بين وعي ولاوعي ويبقى
مع ذلك محافظًا على انسجامه وتماسُك وحدته
الفكرية؟! ومن هنا وجد التحليلُ النفسي
مقاومةً عنيفةً من قبل نرجسية كانت
تضلِّل الإنسان عن ذاته. لقد شبَّه
فرويد اكتشافه لنظرية اللاوعي بما حصل لكلٍّ
من كوپرنيكوس وداروِن. فالأول، عندما اكتشف
أن الأرض ليست مركز الكون، بل مجرد كوكب يدور
في فلك الشمس مثل بقية الكواكب، قوَّض ركنًا
من أركان الكنيسة الكاثوليكية التي كانت
تعتقد أن الأرض عبارة عن خلق الله للكون على
قياس الإنسان، مسخَّرة له لإضفاء الأفضلية
عليه. والثاني، أي داروِن، بيَّن في نظرية
التطور أن الإنسان، خلافًا لما كان سائدًا من
اعتقاد بأن الله خَلَقَه "على صورته"،
مما عزَّز تميُّزه عن سائر المخلوقات، يعود
بأصله إلى فصيلة القردة العليا، ولم يستطع
الاستمرار والتكاثر إلاَّ بفضل تميُّزه عن
سائر الحيوانات بذكاء جعله يتطور ويصل إلى
المستوى الحضاري. وفرويد اعتبر
أن نظرية اللاوعي، كمحور أساسي في العمليات
النفسية والإنتاج الفكري، قد جردت الإنسان من
نرجسيته المعتمدة على الأنا المتفاقمة،
فانتقل المحور من الأنا إلى الذات اللاواعية:
فإنْ كانت الأولى مضلِّلة، ففي الثانية تكمن
حقيقة ذاته، ومن دونها لا يمكن له أن يجد
لحياته من معنى. انطلاقة فرويد
كانت دائمًا عيادية. فكونه أصلاً طبيبًا
اختصاصيًّا في الأمراض العصبية جعله عرضة
لمعالجة الكثير من أمراض العُصاب التي لم تكن
تحمل في سببيَّتها أي خلل في الجهاز العصبي.
فمعنى ذلك أنها كانت تصدر عن النفس، بكلِّ
صراعاتها، من جراء ما تعرضتْ له من صدمات
ورضوض في أثناء تكوُّنها. اكتشف فرويد أول ما
اكتشف أن لهذه الأعراض معنى، أو أنها أشبه
بلغز نفسجسمي يخفيه المريض عن وعيه لأنه يهدد
الأنا التي يعتمد عليها. من هنا بدأت المغامرة
التي رافقتْه حتى نهاية حياته سنة 1939. زيغموند
فرويد (1856-1939) والفارق بينه
وبين الأطباء المعاصرين يكمن في تكوينه
وبنيته النفسية، لأن الغوص في هذا المضمار لا
يخلو من مخاطر، والأعراض في تأويلها الخارجي
لا تخلو من ردَّات فعل على الطبيب نفسه. وهنا
يجب الإشادة بشخصية فرويد الفذة، حيث إنه كان
يتمتع بقدرة فكرية هائلة وبتصميم لا يلين على
الكشف عن الحقيقة. وهذا ما لم يحظَ به صديقُه
بروير الذي تراجَع من أول الطريق. فالخوض في
النفس هو أشبه بالسير في السراديب المظلمة،
قبل أن يصل المرء إلى الأفق الذي يبصر منه
النور. الاكتشاف يتميز
عن الاختراع: في الأول يطأ الباحث أرضًا لم
يطأها غيره من قبل؛ ولكي يصل إلى هذا
الاكتشاف، يجب أن يتمتع بقدرة هائلة على تحمل
الوحدة. لكن ما يكتشفه يتميز بأنه كان واقعًا
موجودًا قبلاً، ولكن لم يتفق قبله لأحد أن
تمكَّن من الوصول إليه، على غرار ما حصل
لكريستوفر كولومبس: فاكتشافه للقارة
الأمريكية لا يعني أنها لم تكن موجودة، لكنها
كانت غير معروفة، في الغرب الأوروبي على
الأقل. كذلك الأمر في خصوص اللاوعي: فهو كان
موجودًا قبل فرويد ويشكِّل جزءًا من البنية
النفسية، ولكن لم يتفق لأحد أن تمكَّن من
الدلالة عليه دلالة واضحة. قد يكون الفلاسفة
تكلَّموا على الفكرة اللاواعية، ولكن لم
يتيسر لأحدهم أن يتكلَّم على اللاوعي كقوة
ديناميَّة تتحكم في سلوكنا وتصرفاتنا،
وكمخزن لرغباتنا وللمكبوت في صورة عامة،
وكمصدر لأفراحنا وأتراحنا. اللاوعي اللاوعي
الفرويدي، خلافًا لما يتصور بعضهم، "سلة
مهملات" للغرائز والموروث البدائي الهمجي.
فهو المكان الغائب عن وعينا الذي يحمل في
طياته الإبداع الفكري والفني، إضافة إلى
النزوات الجنسية والعنفية. وهو متواصل
باستمرار مع الأنا الحاضرة؛ لكن ما يجعله
مستغلقًا وبعيدًا عن متناول معرفتنا هو أن
المقاومة المكوَّنة في الأنا تحول دون إدراكه.
ويعود ذلك إلى الاكتشاف الثاني، وهو الكبت:
فاللاوعي متكون في الإنسان منذ الطفولة
انطلاقًا من الكبت الأولي الذي يعود تاريخه
إلى بداية دخول الإنسان الأول في حقل اللغة.
أي أن اللغة هي التي تشترط تكوين اللاوعي.
من هذا المنطلق، اكتشف فرويد، عن طريق
المرضى، أن من شأن فتح المجال للتعبير اللغوي
أن يقودنا إلى المكبوت وفك رباطه، مما يحرر
المريض من أعراضه ويفسح مجالات عديدة للإبداع. وفي موازاة
لعملية اكتشاف اللاوعي، اخترع فرويد ما
يسمَّى العلاج بالتحليل النفسي، على
اعتبار أنه يجب أن يهيِّئ للمريض الإطار
اللازم لكي ينطلق الكلامُ على سجيَّته ضمن
نُظُم التداعي الحر الذي يقودنا حتمًا
إلى النواة المرضية التي كانت سببًا للمعاناة
النفسية. وهذا الإطار الذي اعتمده فرويد يشكل
جوًّا معقمًا من كلِّ تداخلات خارجية
معطِّلة، لكنه يتطلب من المحلِّل، في
المقابل، إنصاتًا عائمًا ضمن حياد مطلق لا
يكون طرفًا في أية مشكلة. أي أن العلاقة لا
تُختزَل إلى صلة بين مريض ومعالِج، بل
تتعداها لتطال تواصلاً مستمرًّا بين لاوعي
المريض ولاوعي المحلِّل. من هذا المنطلق، وضع
فرويد الشرط الأول في تعاطي المهنة: أن يكون
المحلِّل قد خضع مسبقًا لعملية تحليلية ذاتية
تؤكد ثوابت: -
أولاً: عمله
ينطلق من رغبة لاواعية لمثل هذا العمل. -
ثانيًا: أن
يدرك، من خلال ما يكتشفه في ذاته، أهمية
اللاوعي وكيفية الإصغاء بـ"أذن ثالثة":
أي أن ما يسمعه من المريض يجب ألا يلاقي عنده
مقاومةً تضلِّله عن إدراك حقيقة الذات
المعذبة. -
ثالثًا:
المعرفة التعليمية ذاتية في البداية قبل أن
تصبح تدريبية. من هذا
المنطلق، أخرج فرويد البحث من الإطار العيادي
البحت، لكي يطال في تحليله المجالات الأخرى،
من فلسفية ودينية وأدبية وفنية
وأنثروپولوجية واجتماعية، دون أن يتخلَّى عن
موقفه التحليلي: هدنة التفتيش عن الحقيقة في
المجال العيادي، التي تتصف بخاصية علاجية، لا
تحول دون التفتيش عن الحقيقة في المجالات
المعرفية الأخرى. فالتحليل، في نظره، يعتمد،
أولاً وآخرًا، على تحليل الخطاب، سواء
كان عياديًّا في صيغته المرضية، أو فلسفيًّا
أو دينيًّا أو حتى سياسيًّا. فاللاوعي، الذي
ينطوي على معرفة تتحكم بنا ونجهلها في آنٍ
واحد، حاضر في كلِّ خطاب لغوي. هذه المنهجية
التحليلية هي، بنظري، ما بقي من الإرث
الفرويدي. فقد أضحى أي شخص يتكلم في أيِّ مجال
كان، ولو لم يكن على علاقة بالتحليل، يحسب
أكبر حساب إذا ما زلَّ لسانُه وقال عكس ما كان
يريد أن يقول، ولاسيما في السياسة (انظر زلات
لسان جورج بوش!). في عبارة أخرى، أصبح اللاوعي،
في مفهومه الفرويدي، معممًا ومتداوَلاً في
جميع الأوساط الفكرية، هذا ناهيك عن بعض
الأحلام التي تفاجئنا بأفعال ونزوات لم نكن
نعهدها في أنفسنا: فمما لا شك فيه أننا أصبحنا
نأخذها بالحسبان، لأن سيناريو الحلم هو من
صنع أنفسنا، وقد تتكون هذه الأحلام انطلاقًا
من معرفة كامنة في مكان "آخر" ليست لنا
سلطة عليه، ذلك لأنها تنطق بلسان آخر. كذلك علاقة
التحليل النفسي بالتربية. فقد أصبحنا منذ
فرويد أكثر معرفة بالنزوات الجنسية التي تطال
الطفل منذ الطفولة الأولى وأوعى بها. فعندما
كشف فرويد النقاب عن بزوغ الرغبات الجنسية في
الطفولة منذ سنِّ الثالثة، شكَّل ذلك صدمةً
للواقع الاجتماعي، واعتُبِرَ حينذاك فضيحةً
لا يتفوَّه بها إلاَّ مَن فقد توازُنه –
علمًا بأن فرويد لم يقلْ بشيء جديد: فجميع
المربيات وأكثر الأمهات يتفاجأن، سواء
بممارسات جنسية لأطفالهن أو بأسئلة تطال مصدر
الطفل وسرَّ الغرفة المغلقة وكيفية الحمل
وموضع خروج الطفل في أثناء الولادة – وكلها
أسئلة محرجة! فمنذ ذلك الزمن المستهجن، أضحت
هذه المعرفة متداوَلة وتؤخذ بالحسبان في كلِّ
برنامج تربوي حديث. كذلك العقدة
الأوديپية لم تعد سرًّا على أحد. فقد انتقلت
من الخاص إلى العام، وأصبحت العلاقات الزوجية
مرهونةً بنجاحها بمقدار ما يكون الرجل قد
انفصل عن أمِّه وبمقدار ما تكون الزوجة قد
أطلقت عملية الحداد على والدها. بل إن هذا
التعلق يلعب دورًا في قَدَرية العنوسة
والعزوبية، أي، كما يقال، "ما جاء النصيب
بعد"! فالأوديپ اكتشفه فرويد بنفسه عند
وفاة والده قبل أن يكتشفه عند مرضاه؛ وقد
شوَّه تفكيره باختزاله إلى مفهومه الأسطوري.
فهو، في الواقع وفي الأساس، بنية نفسية لا
بدَّ منها لكي يحصل الإنسان على هوية ذاتية
تعبِّر عنه، وتركيبة وسيطة بينه وبين العالم
كي يحدِّد مكانه فيه. أي أن الخلية العائلية
الثلاثية، من أب وأم وابن (أو ابنة)، هي نقطة
الانطلاق للتعريف بالذات ولدخول المجتمع. هذه المكتسبات
الفرويدية كلها أضحت، بعد أن تمَّ تداوُلها
في الشأن العام، معرفةً خرجت من التحليل
النفسي إلى الوعي بعدما تم اكتشافُها في
اللاوعي. لماذا
التحليل النفسي؟ يقال إن
التحليل النفسي قد تَراجَع عما كان عليه في
السابق، وإن دخوله شمال أمريكا قد باء
بالفشل، وإن التيارات العلاجية المتعددة، من
سلوكية إلى معرفية إلى نفسجسمية وحتى تنويمية
(هناك في "السوق العلاجية" المتداولة
أكثر من 250 طريقة مختلفة)، قد أزاحت التحليل من
مكان السيادة وهمَّشتْه بعد أن احتلت العديد
من أماكنه. هذا كله صحيح.
إذ إن فرويد في آخر حياته كتب مقالاً بعنوان
"تحليل انتهى وتحليل لا ينتهي"، هو أشبه
بوصية في خصوص ما توصَّل إليه من نتائج
والعقبات التي اعترضت سبيله ولا تزال. فمن أهم
صفات فرويد أنه كان يتمتع بفكر علميٍّ منهجي،
وبصدقية وصراحة وشفافية ومصداقية فكرية،
تجعله لا يتورع عن نقل ما توصَّل إليه من
استنتاجات وحلول وما بقي غامضًا ومستعصيًا
على الحل أو التفسير من بعض الجوانب النفسية. فهو لم يبشِّر بالسعادة،
ولا اعتبر التحليل بديلاً عن الدين، بل كشف عن
طبيعة الإنسان الحقيقية، وبدَّد الأوهام حول
سعادة مصطنعة أو مفتعلة. لذلك صرَّح إلى
زاندور فرينشي وكارل يونغ قبل وصوله إلى
أمريكا: "إنهم ينتظرونني، لكنهم لا يعرفون
أني قد جلبت لهم الطاعون!" – بمعنى أن
التحليل النفسي يفضح المستور – الرذائل،
الشذوذ، الكذب، الخداع، الأوهام – ويبدِّد
الكبت، لكي يصل إلى حقيقة قد تكون غير مفرحة،
لكنها تعبِّر عن الواقع النفسي من دون مواربة:
أحببتَ أو لم تحب، فهكذا هو تكوين الإنسان!
فالتعامل مع الحياة على أساس الواقعية
أجدى نفعًا من سعادة مصطنعة قد تكون مضلِّلة
وذات عواقب تراجيدية. فنظرته إلى أمريكا كانت
سلبية، ولم يرتجِ من الأمريكيين أن يعتمدوا
منهجيةً واقعيةً تبدِّد لهم وهم "النهاية
السعيدة" happy end! من هذا
المنطلق، اعتبر فرويد، في وصيته الأخيرة، أن
التحليل النفسي يعالج الأمراض النفسية، لكنه
قد يصطدم بعقبتين تتلخصان في عقدة الخصاء،
التي سمَّاها "الصخرة التي تتكسر عليها
الأمواج": 1.
العقبة
الأولى تطال الرجل: عندما يتخذ التحليل
منحًى سلبيًّا وعدائيًّا في بعض الأحيان مع
المحلِّل، وذلك لاختلاط يصعب تبديدُه بين
السلبية في التعامل مع الرجال أقرانه وبين
المثلية الجنسية؛ فنراه يدخل في منافسة صراع
على السلطة خوفًا من أن يقع في السلبية التي
تجعله تحت رحمة الآخر، يتصرف به جنسيًّا كما
يشاء. ويعود ذلك إلى عدم تقبُّله للخصاء، أي
أن يتساوى مع المرأة في بعض المواقف الأنثوية. 2.
العقبة
الثانية عند المرأة: في آخر التحليل قد
تبقى متمسكة بالفالوس (القضيب) الوهمي، فيصعب
عليها أن ترتمي في أحضان أنوثتها خوفًا من أن
تصير ضحية الرجل؛ لذلك تدخل معه في صراع مستمر
وتنمِّي عداءً لأقرانها من النساء
المستسلمات وتحاكي الرجل في مسلكه. هاتان العقبتان
تركهما فرويد لغزًا لتلامذته ولمن سيأتي
بعده، بوصفهما عقبة لم يستطع تجاوُزها. وهذا
ما حدا بجاك لاكان إلى إيجاد حلٍّ وفك هذا
اللغز. إن تَراجُع
التحليل أمام بقية الأصناف العلاجية النفسية
يعود، في الدرجة الأولى، إلى كونه يعادي
الإيحاء الذاتي. فهذه الوسائل العلاجية
كلها تعتمد على الإيحاء وتركز عليه، لكنْ على
حساب الحقيقة الذاتية – هذا من ناحية. ولكن،
من ناحية أخرى، يبدو أن المحلِّلين النفسيين
هم من طينة البشر، لهم مشاكلهم وعقدهم،
وبصورة خاصة، يبدون مقاومة لاواعية. لذلك
ساهموا، بشكل أو بآخر، في تشويه التحليل
النفسي. أضف إلى ذلك أن المجتمع الغربي، الذي
يعاني من فقدان القيمة الروحية، وجد في
التحليل ملاذًا، كما لو كان أشبه بالمِلَل
والنحل الدينية، يترأس كلَّ جماعة سيدٌ يتوسط
المجموعة ويملي الأفكار ويوزعها من دون منازع. ولكن بقي
النموذج الفرويدي، بطبيعته الأولى، الطريق
التي إنْ سَلَكَها أي فرد لتوصَّل إلى
اكتشافات فرويد نفسها، أي اللاوعي، في مضمونه
المكبوت وغير المكبوت، بالإضافة إلى معرفة
رغبته الحقيقية بعد أن كان ضالاًّ عنها. لكن السؤال
الذي يطرحه كل مواطن عربي هو: لماذا لم يدخل
التحليل النفسي مجتمعنا العربي ويصبح
متداولاً كما هي الحال في الغرب؟ سأقتصر على
جواب مقتضب عن السؤال حول هذه الظاهرة لأن
الجواب المسهب يتطلب معالجة طويلة: 1.
خلافًا
لما هو سائد، دخل التحليل إلى مصر في
الأربعينيات، أي قبل أن يدخل إلى إيطاليا
وإسبانيا وبلجيكا، واستمر حتى ثورة يوليو
المصرية. وبعدها تبدَّد المحلِّلون في جميع
أقطار أوروبا، وبينهم مصطفى صفوان وسامي علي.
وكان المؤسِّس هو مصطفى زيور. ويعود السبب
الأساسي لفشل التحليل النفسي في مصر إلى
العامل السياسي بالدرجة أولى: التحليل لا
يتعايش مع نظام دكتاتوري! 2.
السبب
الثاني: هو التركيز على محور الأنا، وهي غريبة
عن الثقافة الدينية الإسلامية، لأن "الآخر"
فيها هو الجمع بـ"النحن". الثقافة
العربية هي، في الأساس، دينية. فاللاوعي، في
المفهوم الشعبي والديني، هو من علم الله، وكل
فكرة تريد أن تكشف عن هذا اللاوعي تصبح دخيلة
وتدخل حتمًا في منافسة مع الدين. وكلما زاد
التزمت ضاقت فسحة تحرر الأنا واكتشاف اللاوعي. 3.
قامت
أول جمعية تحليلية في العالم العربي في لبنان:
أسَّسها منير شمعون وعدنان حب الله وعادل عقل
سنة 1980، وقد جمعت العديد من المحلِّلين من أصل
عربي في لبنان وفي فرنسا. كذلك تأسَّس "المركز
العربي للأبحاث النفسية والتحليلية"،
متخصصًا في نشر الثقافة النفسية وتأهيل
المعالجين والمحلِّلين النفسيين وإعدادهم،
وله أتباع في لبنان وفي جميع أنحاء العالم
العربي. كذلك تأسست منذ بضع سنوات "الجمعية
المغربية للتحليل النفسي"، كما تأسست "الجمعية
المصرية للتحليل النفسي". وجميع هذه
الجمعيات تدخل في إطار الإرث الفرويدي وتتبع
تعاليمه، لاسيما بعد أن أدخل عليها جاك لاكان
التعديلات التصحيحية وأضفى عليها الأنوار
الفكرية كي يبدِّد الأخطاء المتراكمة
والتشويهات، فيعيدها إلى أصالتها، بعد أن
أدخلَها التيارُ الفكري الغربي في مأزق
بمنافسته الدين. هنالك كلمة
للاكان يقول فيها ما مُفاده إن هذه المنافسة
مع الدين غير متكافئة، وسيكون النصر للدين في
النهاية، لأن التحليل النفسي هو بمثابة
العارض العصري الذي أفرزه الخطابُ العلمي.
فالتحليل النفسي سيطاله الكبت، ككلٍّ عارض؛
ولكن على أساس مبدأ الكبت، ستكون هنالك جولة
جديدة لعودة المكبوت! ***
*** ***
|
|
|