جذور العنف
مقاربةٌ تحليليَّة نفسيَّة
 
 

ديمتري أڤييرينوس


إيجاد
تعريف بالعنف ليس بالأمر السهل، كما قد يبدو للوهلة الأولى. العنف، لغةً، ضد الرفق. يقال: عَنُفَ به وعليه عنفًا وتعنيفًا، لم يرفق به، فهو عنيف (عبد الله البستاني، الوافي). فالقوة غير المكظومة، الفالتة من عقالها (= من "عقلها")، التي تتكلَّم عليها التعريفاتُ الشائعة، تتبدى في مختلف مواقف الحياة، بدءًا من الأسنان التي تخترق لثة الرضيع فتعذِّبه، حتى فرخ الطائر الذي يكسر قشرة بيضته لكي يبرز إلى جوٍّ يستطيع التنفس فيه، مرورًا بالحَمَل الذي يرعى منتزعًا من غير رحمة العشبَ من التربة التي كان ينمو فيها.

هل تنطوي الحياة على عنف بالضرورة؟ منذ البداية، يعنَفُ الجنينُ بالأم، فلا يتورع عن أن يستمد منها كلَّ ما يحتاج إليه من غير أدنى اعتبار للضيق الذي يكبدها إياه. كذا فإن الولادة تعنَفُ بكائنين اثنين: فالحدث لا يرفق بالأم ولا بالوليد؛ ولا ريب أنهما لو خُيِّرا لما اختارا هذه الطريقة في مكابدة المجيء إلى العالم. الحياة، على ما يبدو للوهلة الأولى، قوة جامحة، غير مكظومة، لا تتريث للحصول على موافقة الذين تملي عليهم تكيفاتٍ لا يتخطونها، في الغالب، إلا على مضض شديد!

في وسعنا أن نسترسل في هذا التأمل الفلسفي، فنتساءل إنْ كان في الوسع التحقق بـ"الوجود" being من غير تعنيف بـ"العدم" non-being! أجل، ليس في ميسورنا أن نصون شيئًا في الوجود إلا بأن نحقن فيه قوةً تُكرِهُ نداءَ العدم على إفساح المجال لصون هذا الشيء في الوجود. إن بناءً أو طريقًا لا يُصان، على سبيل المثال، مآله إلى الخراب. وما "الصون" إن لم يكن إكراه الإنتروپيا[1] على الإذعان؟ يصح الأمر على الذاكرة، على الجهاز العضلي، وعلى سائر المهارات البشرية: فجميع الذين يهتمون لصون قدراتهم ومهاراتهم يعلمون أنهم يُكرِهون أنفسهم وأنهم يوجِّهون طاقةً مركزة على جزء ما من أنفسهم، لو تُرِكَ لحاله لآثر أن يسترخي في الهناءة والرخاء. إنهم، بمعنى ما، "يَعنَفون" بأنفسهم!

العنف واللذَّة

العنف في الطبيعة متلازم وظاهرةَ الحياة[2]: صون الفرد، صون النوع، إلخ. ولما كانت الحياة خصوبة، إبداعًا مستمرًّا، فلعلنا واجدون هاهنا معيارًا عمليًّا مفيدًا لتقييم أصناف العنف: العنف الذي يفضي إلى مزيد من الوفرة والغزارة والتنوع، خصوصًا إذا تحدد بالحدِّ الأدنى الضروري، يُعَد مقبولاً؛ أما العنف الذي لا يفضي إلا إلى التقويض والدمار فيجدر نبذُه. في اختصار، يجوز لنا أن نميز بين عنف "نبيل"، لا غنى عنه ولا مفرَّ منه في عالمنا (عنف ينتج عنه نظام)، وبين عنف "وبيل" (تنتج عنه فوضى) يكون تعنيفًا للذات على حساب الآخر.

إن ما يعزِّز الحياة غالبًا ما يترافق مع قدر ما من اللذة. من هنا لا يُستغرَب وجودُ لذة في التعنيف (= سادية). غير أن الكائن الإنساني يتميز عن الحيوان بقدرته على الاسترسال في لذته فيما يتعدى الحدود التي ترسمها حياةٌ طبيعية مثلى. فاللبوة التي عنَفت بالغزالة وهي تفترسها لن تقتل مادام هناك ما يكفيها من القوت ويكفي أشبالها. كذا فإن اللذة الجنسية لدى الحيوان محددة بإيقاع فصلي. أما الإنسان فمتحرر من هذا القيد: فما هو لدى الحيوان وديعة الغريزة يتوقف لديه على حريته. فالإنسان قد يبتلي نفسه بالأدواء إذا أكثر من الطعام أو أدمن على الكحول أو المخدر. كما أن في وسعه أن يجد في العنف لذةً تتخطى ما هو ضروري لبقائه ونموِّه وخصوبته.

إزاحات

بما أن اللذة التي يوفِّرها العنف يمكن لها أن تنمِّي شعورًا بالقدرة، بالسلطة والتفوق، فإن من شأن العنف أن يعوض عن الإذلال. كثيرًا ما قيل إن سبب العنف كامن في الحرمان – وهذا تعليل خاطئ. فالكائن الإنساني، حتى طفلاً، يطيق الحرمان من غير أن يسرف في العنف، شريطة أن يفهم معناه وأن يعامَل باحترام. إن غياب الاحترام – الإذلال بخاصة – هو ما من شأنه، إذا تراكم، أن يفضي إلى العنف.

هذا ويمكن أن يكون للغضب أيضًا المفعولُ ذاته[3]. فعلى صعيد الخافية (= اللاوعي)، مَن يصير هدفًا للغضب يتلقى "رسالة موت"، لأن أصل الغضب هو الرغبة في القتل[4]. والرسالة المنقولة في غياب الاحترام هي الأخرى بمثابة "رسالة موت"، بما أن المغزى منها هو الآتي: "أنت في حسباني صفر، أنا لا أحسب حسابًا لك، بل أنت غير موجود أصلاً!" لا غرو، إذ ذاك، أن تحرض مثل هذه الرسائل على العنف: فعلى العدم الذي يُنسَب إلينا أو النفي الذي يراد لنا أن نتحول إليه لا يكون ردُّ الفعل إلا إثباتًا للوجود. لكن هذا الإثبات، في الأعم الأغلب، لا يصل إلى حالة التبلور لأن قوى متفوقة عليه تعترضه، ولاسيما إدراكنا لضعفنا. فإذا كانت النواة المتفجرة التي ينطوي ردُّ فعل الإثبات هذا عليها تعرِّضنا للخطر، ترانا نكبت العنف ونوجِّهه إلى شخصنا نحن. وبهذا فإن الانفجار الكامن يصير إلى شعور بالإثم أو العار أو انعدام القيمة. وهذا ما يسمَّى، في اصطلاح التحليل النفسي، بـ"الإزاحة" displacement.

إن الطاقة التي تفتش عن مخرج أو متنفَّس قد تُزاح لتستقر على غرض أو موضوع خارجي. فالطفل في الصف لا يجاز له أن يَعنَف بمدرِّسته، وهو، إذ يعرف أن هذا المخرج مسدود، قد يعتدي على طفل أصغر منه حين لا يراه أحد، أو يركل قطة يصادفها على طريق العودة إلى بيته!

مثال تاريخي

يمكن لنا هاهنا أن نتقدم بفرضية مُفادها أن الشعب الفلسطيني عاثر الحظ من حيث تلبيتُه شرطين اثنين من شروط اختيار الضحية: الأول أنه الشعب المقيم على الأرض، والثاني أنه ضعيف.

طوال قرون، كابد اليهود، من جانب المسيحيين، مختلف صنوف التنكيل والإذلال التي لا يأخذها معاصرونا بالحسبان. ففي روما، من العصر الوسيط حتى النهضة، كان أعيان الجالية اليهودية، يوم انتخاب البابا الجديد، يُرغَمون على المرور في موكب أمام الحَبْر الأعظم وعلى مخاطبته وهم يقدمون له نسخةً من التوراة: "نلتمس من قداستكم نعمة أن نقدِّم لها كتاب شريعتنا"، فيرد البابا الجديد على عبارتهم بصوت جهوري ببضعة جُمَل مزدرية، اختُصرت على كرِّ السنين في أربع كلمات: "شريعة ممتازة – عِرْق كريه"، تليها غالبًا صفعةٌ على خدِّ كبير الحاخامات[5]! وفي القرن السادس عشر، في العديد من مدن الغرب الأوروبي، لم يكن يحق للجالية اليهودية أن تبقى مقيمةً إلا إذا قرأ الحاخام على القوم المجتمعين بمناسبة عيد مسيحيٍّ نصًّا مُذِلاً يرضي السادية الكامنة للجماعة. فحتى تنجو رعيتُه كان الحاخام يضطر على مضض إلى تمثيل هذه الكوميديا الخبيثة – إذ كيف يجرؤ على الامتناع عن ذلك والحال هي هي في كلِّ مكان؟!

كثيرًا ما وقع يهود أوروبا، إذ اتُّهموا بتدنيس القربان ونشر الطاعون وممارسة القتل الشعائري، ضحايا نوبات هستيرية جماعية، كما في بلوا (1171)، حيث قضت الجالية اليهودية نحبها حرقًا. وبهذا عاش اليهود في انعدام أمان دائم، ينتابهم، ككلِّ مفترى عليه، شعورٌ رهيب بالظلم. فمن محاكم التفتيش إلى مذابح روسيا، مرورًا بفرمانات الطرد (إنكلترا 1290، إسبانيا 1492، النمسا 1670)، كانت رسالة العالم المسيحي هي: "أنتم مكروهون، أحرى بكم ألا توجدوا، أحرى بكم أن تنعدموا." وبتكرار هذه الرسالة جيلاً بعد جيل، حتَّم الجمعُ بين انعدام الشعور بالأمان والشعور بالذل تراكُمَ عنف كامن عاجز عن إيجاد أيِّ متنفَّس.

الصهيونية والمستوطنات اليهودية الأولى في فلسطين هي جزمًا وليدة وحشية المذابح الروسية. وبعدها ببضعة عقود، أكد الاضطهاد النازي أنه لا حياة لليهود إلا على أرض يسيطرون عليها سيطرة تامة؛ ومن هنا الهجرة اليهودية المكثفة إلى فلسطين في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ولسوء حظ الفلسطينيين، كما أسلفنا، اتفق لهم أن يكونوا سكان هذه الأرض، وأن يمثلوا، عسكريًّا وسياسيًّا، المتنفَّسَ الأمثل لرغبة ثأرية هي حصيلة عنف مكبوت منذ قرون، لكنه ظل حيًّا يتأجج في أعماق النفسية اليهودية الجمعية. فعلى الفلسطينيين يقع اليوم العنفُ الذي، لولا عدم تكافؤ موازين القوى الفارض للكبت، لتوجَّه نحو مسيحيي أوروبا[6].

العنف ينبو من جديد

لكن العنف ينبو من جديد. فالمسلمون (خصوصًا العرب منهم) يشعرون بازدراء الولايات المتحدة لهم، بما هي حليفة إسرائيل بلا شروط والاختصاصية الكبرى في "الكيل بمكيالين"[7]. بهذا يمكن لنا أن نفسر، من أحد الوجوه، هجمات 11 أيلول 2001. إن تصادي هذا الحدث في نفسية المسلمين، بصرف النظر عمن نفَّذ الهجمات، يبين في وضوح ما مثَّله على صعيد اللاوعي: "خصاء" castration. فناطحة السحاب، وليدة نيويورك ورمز هذه المدينة (وهي، بنظر شعوب عديدة، رمز للولايات المتحدة)، مُدرَكة على هذا الصعيد بوصفها "ذَكَرًا" phallus منتصبًا متغطرسًا. واسمُها بالإنكليزية skyscraper، بإشارته الصريحة إلى بلوغ السماء، يشهد على غطرسة برج بابل عينها. الغطرسة تحرض لدى المذلول رغبةً في الانتقام منتصرة، من شأنها أن تفحم المستعلي والمستقوي. فلا أبلغ من خصاء رمزيٍّ للبرهان للعالم أجمع على أن الذليل ليس أقل "فحولة" من مُوقِع الذل! وفي لعبة كهذه من الفعل وردِّ الفعل النفسيين، يستبد الرمزُ بالوعي حتى يغيِّبه، فتغيب عنه رؤيةُ الواقع على حقيقته. أما الضحايا الأبرياء فلا يؤبه لهم؛ إذ لا يُرى إلا "القضيب" الذي ينبغي دكُّه[8].

رؤية الذات في الآخر

حتى يُرى "موضوع" object العنف الممكن كـ"ذات" subject، أي ككائن يستحق الاحترام، لا مناص من الإفلات من التنويم الذي يحرِّضه الحقد والذي يستبدل بالأفراد، الأحياء والفريدين، صورةً واحدةً نمطية stereotype معمَّمة. فالطاقة المعتملة في العنف قد تتخذ شكلين اثنين. فعلى الصعيد الأكثر بدائية، يمكن لها أن تكتفي بمجرد فورة بسيطة ("تنفيس"): فالمهم هو أن تخرج حتى يزول الاحتقان الداخلي. وفي هذه الحالة، قد يتفق لها، من غير أن تفتش عن غرض بعينه، أن تنفجر في جميع الاتجاهات وأن تهاجم كلَّ ما يوجد على مقربة منها. هذا ما يحدث عندما "يخرج امرؤ عن طوره"، فيروح يحطم كلَّ شيء، أو حين يشرع امرؤ مسلَّح في إطلاق النار من غير تمييز على جميع منكودي الحظ الموجودين في حقله البصري. هذا العنف يصدر مباشرة عما يسمِّيه تلميذ يونغ شارل بودوان البدائي أو "الهمجي" فينا[9].

لكن العنف غالبًا ما يكون في خدمة شعور انبنى اعتبارًا من تراكُم خبرات مدركَة بوصفها مُذِلةً أو مهينة. من هنا فإن الطاقات الصادرة من نطاقات غرائزية تمر عندئذٍ من خلال الأنا ego الذي يحسب وينظم ويخطط. وهي في حاجة إلى مرمى، إلى "هدف" تتلاقى نحوه، بما هو رمز يختزل في نظر المهان أو المستهان به جميع سمات المهين. وإن برجَي مركز التجارة العالمي هما، في حالتنا هذه، مثل هذا الرمز. العالم الإسلامي يأخذ على الغرب ماديته وغطرسته: إذ إنَّ ادعاءك أنك "مركز" – مركز العالم ومركز التجارة – وأن إرادتك، فوق ذلك كلِّه، هي بلوغ السماء، أي السخرية من الله، هو ذروة الغطرسة والتجديف – وهذا يستحق درسًا.

أما ميل الإنسان إلى الرحمة والتضامن فيحتاج إلى "موضوع" ملموس ومتفرد. لذا فإن الذين تنطوي "سياستهم" على حشد الأحقاد الكامنة يفعلون كلَّ ما من شأنه أن يستبدل بهذا الموضوع هدفًا عامًّا، ذا سمات غير متمايزة وكاريكاتورية. فما كان ملموسًا ذا خصائص فريدة يصير تجريديًّا: رسمًا مختزلاً مجردًا من كلِّ ما كان يجعل منه أحدًا.

ومع أن الوضع مختلف جدًّا في حالة الاغتصاب أو الانتهاك الجنسي، فإن سيرورته مُقايِسَة للأولى. فالمكرِهون جنسيًّا عميان عن أن مَن يُعتدى على حرمة إنسانيتها هي أحد. فهم، إذ يستبد بهم احتقانُهم الليبيدي الداخلي، يعجزون عن تحويل حرمانهم إلى شيء بنَّاء أو خلاق، فيجعلون من ضحيتهم "لعبة" أو أداة لبلوغ لذتهم: شيئًا. وفي كلتا الحالين، تُنفى الضحية بوصفها كائنًا إنسانيًّا حقيقيًّا ذا هوية، كائنًا يتألم، كائنًا صاحب حقوق ينبغي أخذُها في الحسبان.

تسديد العنف

الطريقة الوحيدة لإيجاد متنفَّس حقيقي لتراكم العنف الكامن، مع احترام الآخر، هو استيعاء وجود استعمال مختلف للقوة المدمِّرة، القوة التي تترجمها كلمة تعنيف. فبعكس ما يُظن، ليس اللاعنف الذي نادى به المهاتما غاندي إنكارًا لوجود العنف، بل تحويلٌ لاستعماله المحتوم، "تقنين" له، إذا جاز القول، نحو متنفَّسات بناءة. ينبغي وضع طاقة العنف الخام في خدمة غايات مفيدة للآخر أو للذات.

بالفعل، حين يُعتدى علينا فإن ردَّ الفعل الذي ينطلق عفويًّا يتجه غالبًا نحو "رد الصاع صاعين" على المعتدي، أي الرد عليه بعنف مماثل أو يفوقه. أما إذا وعينا أن ردَّ فعل كهذا لا يحل المشكلة، بل يُدخِلنا لا محالة في الدائرة المعيبة للثأر أو للتصعيد الخطر، لا خيار آخر سوى وضع حاجز أمام الحركة التلقائية، بحيث يتم تحويل الطاقة نحو وجهة بناءة[10]. ولهذا ينبغي وعي الحركة الغريزية من غير أن نَعنَف بشخصنا. اللاعنف، إذا فُهِمَ حقَّ فهمه، ليس عدم توجيه عنفنا الطبيعي نحو الآخر وحسب، بل وعدم تحويله ضد أنفسنا. والمراد بذلك هو "تسديده" تسديدًا ذكيًّا، بتوجيهه فينا نحو الحركات المدمِّرة التي تنطلق عفويًّا، مع احترام شخصيتنا في جملتها. ذلك فنٌّ دقيق راقٍ: إذ إننا يجب أن نحترم "البدائي" فينا الذي يريد أن يرد، يجب قبول حركته الانفعالية بوصفها سوية، وفي الوقت نفسه الحيلولة دون التنفيذ: إجباره على الإذعان بفرض قوة عليه أكبر منه.

هل ثمة إمكان ما لبشرية غير عنيفة أن ترى النور؟ تسديد العنف تسديدًا صائبًا عملية نفسية باهظة الثمن لأن أقل ما فيها هو النزول مبدئيًّا عن تلقائيتنا الآلية. فحتى نتوقى الظهور المتكرر للعنف، لا مناص لنا، في جميع شبكاتنا العلائقية (الأسرة، المدرسة، الأوساط المهنية، الأحياء، القرى، حلقات قيادة مؤسسات الدولة، إلخ)، من استيعاء أن كلَّ إذلال، كلَّ نبذ للآخر إلى العدم، يولِّد في نفسية الضحية تراكمًا من الطاقة على أهبة التفجر في كلِّ لحظة.

من ناحية أخرى، فإن نماذج العنف التي تصلنا بلا هوادة عبر التلفزيون والإنترنت، مجتمعةً مع رسائل دعائية تجعل من اللذة الحسية المتغطرسة القيمة الوحيدة التي يُعتَد بها، مآلها حتمًا إلى الحط من شأن "كظم الغيظ" (القرآن، آل عمران 134) والانضباط الذاتي الذي وحده يستطيع أن يعين الفرد على إتقان فن "تسديد" العنف الكامن فيه.

لن نخرج من الدائرة المعيبة للعنف الحالي من غير تعديل جذري للأسس نفسها التي يقوم عليها مجتمعٌ يتعبد للمال والسلطة والمتعة والكمال الجسماني، ومن خلال هذه النماذج المتعذر بلوغها، يروِّج لمشاعر الدونية والحرمان والإحباط. فهل نقول إن الطفرة النفسية المرغوبة لن تتم أبدًا؟

توجد في العالم اليوم مجتمعات صغيرة عنيفة ومجتمعات صغيرة لاعنفية. التأسيس للمجتمع اللاعنفي ممكن قطعًا، لكن إرساء قواعده يتطلب استيعاءً جذريًّا يستميت معاصرونا في مقاومته. فما العمل؟

مرمريتا، 20 تموز 2007

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] الإنتروپيا entropy، بحسب قانون الترموديناميكا الثاني، تزداد في جملة ما كلما حصل فيها اضطرابٌ ينجم عنه ازديادُ الفوضى. فالإنتروپيا مقياس لحالة الفوضى على السلَّم الجزيئي. لكن العملية، مع ظهور الوعي، تنعكس لتصبح "لاإنتروپية" neguentropy، تعاكس الفوضى فتُحِلُّ النظامَ والتناغمَ في البُنى الجزيئية.

[2] حتى الانفجارات البركانية لا غنى عنها للحياة لأنها تُمِد الأرضَ بالمعادن الضرورية لصون خصوبتها.

[3] من هنا قول المعلم الجليلي (إنجيل متى 5: 21-22): "سمعتم أنه قيل للأولين: لا تقتل، فإن مَن يقتل يستوجب حُكمَ القضاء. أما أنا فأقول لكم: مَن غضب على أخيه استوجب حُكمَ القضاء."

[4] ذلكم هو الاكتشاف الذي توصلنا إليه وبعضَ أصدقائنا ممَّن رافقناهم وهم يدفعون باستكشافهم أصلَ غضبهم حتى قعره الأكثر بدائية.

[5] Nathan Ausubel, A Pictorial History of the Jewish People (New York: Crown Publishers, 1957), pp. 101-102.

[6] غني عن القول إنه لا يجوز اختزال الصراع العربي–الإسرائيلي، ذي الأوجه العديدة المتداخلة، إلى هذا التحليل النفسي المبسَّط. فإذا كان تعذر الثأر من المسيحيين على موقفهم المعادي لليهود الطويل الأمد، مع إزاحة موضوع العنف، هو واحد من العوامل المسبِّبة، فهو ليس إلا عاملاً واحدًا وحسب في جملة من العوامل الشديدة التعقيد.

[7] من نحو تذرع الإدارة الأمريكية لاحتلال العراق بعدم تطبيقه قرارات الأمم المتحدة، في حين أن إسرائيل يتجاهل القرارات التي تخصه من غير أن يرفَّ لها جفن!

[8] مرة أخرى، من الإسراف في التبسيط اختزال حدث الحادي عشر من أيلول إلى هذا الدافع اللاواعي وحده. فكل قرار واعٍ، كما يؤكد كل من فرويد ويونغ، ناجم عن تراكُب دوافع شتى، لاواعية في معظمها. غير أن من الغلط الاستهانة بهذا العامل بحجة أنه واحد من عوامل عدة. فالإذلال، كما رأينا، يولد دومًا لدى الذليل كمونًا شديد الخطر.

[9] Charles Baudouin, De lʼinstinct à lʼesprit : Précis de psychologie analytique (Bruges : Desclée de Brouwer, 1950), pp. 207-229.

[10] في هذه العملية يندرج تقويض المعلم الجليلي لمبدأ "العين بالعين" (إنجيل متى 5: 38-39). إن من شأن عرض الخد الآخر لمن يلطمنا على خدنا الأيمن كسرَ حلقة العنف المعيبة، بما يوسع المجال لدى الطرفين لرؤية "الذات" في الآخر.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود