الغياب في فضاء المحاكاة
قراءة في فكر جان بودريَّار

 

محمد سمير عبد السلام[1]

 

يُعَدُّ جان بودريار Jean Baudrillard من أهم المؤوِّلين للحظتنا المعاصرة في تعقيدها التكويني والتصويري والتفاعلي معًا. إذ يتداخل فيها الحقيقي مع المحاكاة simulation والتشبيه simulacrum، كما يخرج التشبيه من حدوده النصِّية والبلاغية إلى اليومي والسياسي والوجودي، فيبدو في صيرورة الحقيقيِّ نفسه وكأنه "بذرة" داخلية فاعلة من خلاله، وليست خارجة عنه.

جان بودريار (1929-2007)

هكذا تعمل الصورة في فكر بودريار من خلال مبدأ الخروج من هويتها، لتبدو في حالتها الأولى كدالٍّ داخليٍّ على الوجود الواقعي مغاير، لكنه غير منفصل عنه انفصالاً زائفًا. ومن ثم تبدو المفاهيم المعرفية المنعزلة لدى بودريار نوعًا من الخروج الذاتي المستمر في اتجاه كونٍ بديل تعمل فيه التداخلات التفسيرية المرحة من خلال فاعلية التشبيه الكامن في الهوية المعرفية الأولى بوصفه تبديلاً أساسيًّا في حدودها: فالفن يمتد في نزوع الواقع نحو التمثيل الكامن في بنيته ودلالاته الحَرْفية، ويمتد السياسي في استباق الصورة الأحلامية التي تحاكيه وتُناظِر وقوعَه في آنٍ معًا، فتبدو كثورة داخلية فيه.

لا مكان، إذن، لعزلة الفن أو الفكر الاجتماعي عند بودريار. لكنه التداخل وقبول البديل عن الأصل من خلال التشبيهات والمحاكاة في التكوين الوجودي والمدلول المعرفي معًا، ضمن حالة الخروج وتحطيم الحدود الداخلية من خلال التمثيل وبذوره الثورية الداخلية – تلك التي تحمل دائمًا معنى الخروج في فاعليتها الذاتية.

ولبودريار ممارسات تفسيرية تعزِّز من قبول جماليات التناقض في الأشياء الفريدة في نزوعها إلى الخروج من الخطاب المتعالي للحداثة ضمن واقعها الحَرْفي نفسه. ويرى بودريار أن الفراغ يعمل في مدلول الانتصاب المتعالي نفسه لفنِّ العمارة في صورها الحداثية. أي أن الأشياء تكتسب حضورها الفريد من خلال غيابها عن صورتها الأخرى التي تفكِّك المدلول الأصلي في صيرورة تنحاز إلى التفكيك كحالة تُكسِبُ الشيء تميُّزَه دون أن يكون للتميز شكلٌ أحادي.

عقب قراءة بودريار، تجد القراءة قد تحولت إلى تأويل يُدخِلُ النص في قلب الوجود كحدث مناظر ومشكِّل للتفاعل المفتوح بينهما. وهذا التفاعل هو كونٌ للحقيقيِّ، سواء كان محاكاة أو دالاًّ كونيًّا؛ إذ يُعرَف كل منهما عبر الآخر في هذا الكون الفريد.

إن كتابة بودريار عابرة للأُطُر، بل إنها ترصد الأُطُر في تجاوُزها الطبيعي لحدودها باتجاه فراغ أو اختفاء لصلابة هذه الأُطُر السابقة؛ مما يعزِّز من الانتشار الدلالي/الحقيقي للعلامات في المجال العابر لحدود الإطار، لا بوصفه عدمًا، وإنما بتغييبه لمركزية الظهور والانفصال في اتجاه تكاثُر الأثر والتباسه الأول بالاختفاء. فبهما معًا تتحطم الحدود، ويكون الشيء في حالة من التهيؤ لأن يظهر أو يترك أثرًا يقاوم اكتمال الظهور دائمًا، فيبدو فاعلاً، لكن من خلال صورة أخرى تشبهه وتشكِّل وجوده معًا.

ولبودريار آراءٌ أساسية جددت التفكيك deconstruction وما بعد الحداثة postmodernism والفكر الراديكالي والفنون والنظر إلى عنف العالم، يمكن لنا تلمُّسُها في أربع نقاط تستدعي تأويلاً وممارسةً مستمرة لمرح التداخلات التي يبدأ بودريار في الكشف عنها حال تحقُّقها داخل النص وخارجه، وهي:

أولاً: التشبيه كانفجار ذاتي للعلامة: يرى بودريار في كتابه التشبيهات والمحاكاة أن المحاكِيات في عالمنا المعاصر تحاول أن تجعل الشيء يتزامن مع نماذج محاكاته. ومن ثم فإن الشيء يختفي وفقًا لهذه العملية، مثلما ينهار انفصالُ الأرض عن الخريطة في قصة بورخيس بفعل المحاكاة. وهو يرى أن لعمليات المحاكاة طابعَين: نووي nuclear ووراثي genetic؛ إذ يتم إنتاج الشيء الحقيقي من الواحدات الصغيرة وبنوك الذاكرة، كما يُعاد إنتاجه وفقًا للتضاعف عددًا غير محدد من المرات. وفي هذا التضاعف ردع للحقيقي بمضاعفاته[2].

يبدو التشبيه عند بودريار ثوريًّا وذاتيًّا في آن معًا؛ إذ ينفجر ضد ذاتيته الخاصة بالتضاعف وإعادة الإنتاج المبنية على النسخة أو الخريطة أو الصورة التي تبدو المحاكاة فيها استباقًا أو تَناظُرًا يلازم تكوين الشيء ويُغريه بالخروج عن منطق البنية الواقعية المستقرة، وفي الوقت نفسه، لا يجعل من المحاكاة أصلاً بديلاً لأنها تكمن في قلب العلامة الحقيقية.

وفي هذا الصدد، أرى أن التشبيه عند بودريار يعمل بصورة سردية ديناميَّة تفسِّر التكاثر المعاصر للصور حين تتهيأ، في علاقتها التناظرية بالعلامة والوجود، لإنتاج واقع مجازيٍّ أو مجاز واقعيٍّ فائق يتجاوز مركزية الانعزال السابق للأصل أو الصورة. إن اختفاء الشيء عند بودريار هو البديل عن مركزية انتصابه، وقد بدا كجزء يتضاعف بالمحاكاة من الشيء، فصار الاختفاء جزءًا ثوريًّا من الحقيقة.

كما أرى أن حركة التداخل المعقد السابقة التي ميزت لحظتنا الراهنة، بحسب بودريار، قد أعيد إنتاجُها في الفلسفة والنظرية الاجتماعية ومفهوم الثقافة، بحيث صارت الأشياء التي تنتمي ظاهريًّا إلى المفاهيم السابقة في حالة محاكاة تأويلية مضادة لهذا الانتماء، وذلك بتحطيم الحدود، من ناحية، وبالمشاركة في إنتاج معنًى وجودي فريد، من ناحية أخرى، من داخل الثورة الذاتية للمفهوم كنقطة انطلاق. وقد شارك التشبيه في إنتاج محاكاة للمدلول؛ وهي التفسير المتجدد له وفق تغير الهوية من خلال طاقة هذا التشبيه.

إن المحاكاة لدى بودريار هي آلية عمل حقيقية وسردية، وهي تشبه اللاوعي في ديناميَّتها الإبداعية المستمرة. وأتفق هنا مع دُغلاس كلنر Douglas Kellner – وهو من أهم دارسي بودريار – في أن العالم عند بودريار يبدو جريانًا بلا حدود. فالامتيازات التي مُنِحَتْ للفلسفة والسياسة والمجتمع الرأسمالي تنفجر في تدفق التشبيهات[3].

يحمل التشبيه، إذن، بذور انقلاب الحدود من خلال تكاثُره الذي ميَّزتْه هذه المفاهيم، فعزَّز خروجَها التصويري الأساسي من هويتها. وأضرب هنا مثالين كان بودريار قد ذكرهما في التشبيهات والمحاكاة: أحدهما سقوط القوة في الطلب الجماعي على إشاراتها خوفًا من الانهيار (أي أن الطلب عليها هو هوس بفنائها وبقائها في آنٍ معًا)؛ والآخر تضاعُف العمل في كثرة الإشارات إلى سيناريو العمل وإرادة مضاعفته. فالطلب المقدس على القوة عند بودريار يختفي في الأثر، وهو التشبيه المتكرر ببقائها كبديل عن حضورها المطلق المهدَّد بالغياب. أما تصوره لسيناريو مضاعفة العمل فهو أقرب إلى حلول الشكل القصصي في الوجود: إنه يشبه ثورة للسرد كدالٍّ مضاف في عملية العمل وعلاقات الاستغلال.

ثانيًا: الفن باتجاه الحَرْفية التمثيلية: في حديث بودريار عن الفن تحوُّل جذري باتجاه الحَرْفية التمثيلية literality، أو ما يصفه هو في حوار معه بفقدان الفن لموقعه التقليدي كطلب رمزي على الثقافة. فقد صار ضمن حَرْفية الحقيقة وفي الواقع الفائق hyper reality. وهذه الحالة الأخيرة لا تمثل تطورًا للفن، بل انكفاءٌ نحو الداخل. إذ يقر بودريار بأن طلب الثقافي كان من قبلُ وهمًا، لكننا الآن فقدنا هذا الوهم في تلك الحَرْفية الواقعية الجديدة التي تعتبر الشيء فريدًا والمحاكاة حقيقةً ضمنية، دون طلب يكرس الانعزال الثقافي عن الحَرْفي/التمثيلي في حدِّ ذاته[4].

ومن فقدان الوهم السابق لدى بودريار، يبدع الفن مثله فيما يشبه الثقافي ويقاومه، ألا وهو الواقع الحَرْفي، بما فيه من تمثيل وتشبيهات. وأرى أن تحليل هذه النقطة يضع أيدينا على نقطتين على غاية من الأهمية:

-       الأولى: أسبقية التداخل بين الفن والعبرثقافي trans-cultural. ولكن وعي هذا التداخل هو ما يميِّز اللحظة الراهنة، وهو ما يضفي على التشبيه اتساعًا في تكوين الرؤية.

-       الثانية: الانكفاء الذاتي للفن ينطوي على تفكيك الأعمال السابقة وتأويلها، وذلك بإسقاط طلبها الأساسي للثقافة وبانفتاح حدود المحاكاة إلى ما يتجاوزها من ثراء دلاليٍّ كامن فيها كواقع متجدد، كما يجعل من الواقع الحَرْفي تمثيلاً يتجاوز ما بعد الحداثة من داخلها، لأنه يقبل الموضوع حرفيًّا، لكن في مجال من التمثيل وتكاثُر نماذج محاكاته، أي في احتمال غيابه أيضًا. وقد كانت فنون ما بعد الحداثة ترتكز على تفكيك الأصل ضمن العمل نفسه؛ لكن بودريار يتصور الموضوع الحَرْفي وقد بدا في حالة تشبيه.

ثالثًا: فوتوغرافيا الاختفاء: تحدث بودريار عن بعض ممارساته للتصوير الفوتوغرافي في ترجمته المادية للغياب الكامن في موضوع الصورة، فقال عن لقطتَي السيارة الغارقة في المياه والكرسي الفارغ إنهما تعبِّران عن الشكل الافتراضي للجسم الذي لم يعد هناك. وقد شاهدت بضع لقطات فوتوغرافية لبودريار على الشبكة، منها:

1.     لقطة يبدو فيها الكرسي فارغًا، عليه ملاءة حمراء تمثِّل الأثر أو التكوين في ثورته التشبيهية على حضوره المركزي المطلق، كما هو في الفوتوغرافيا التقليدية. فهل هو تفجير للموضوع للاحتفاظ بطاقة الأثر المدمِّرة للحدود من داخل تعيينها في لحظة اختفاء، لا زوال؟

2.     لقطة تصور حدودًا طباشيرية للبشر على الحائط دون امتلاء، وكأن الحدود تنطوي على فراغ ثوري يشكِّل طاقتها الخفية. فهل هي القوة في مجال التكوين العابر للحدود؟ أم أنه التشبيه حال ظهوره كبديل عن المركز؟

3.     لقطة تبدو فيها ساحة الباستيل (باريس) مقلوبة في كأس على منضدة، وكأن النسخة البديلة عن الموضوع توشك أن تحطِّم التعالي والانتصاب في فراغ الكأس والتشبيه معًا.

رابعًا: شكلية العنف العالمي وذاتيته: يرى بودريار أن حضارة التعميم (= التسطيح) الإنساني المعاصرة قد استولدت عدوًّا من داخلها لأنها لا تملك عدوًّا مناظرًا. ومن ثم كان العنف العالمي يعمل على إقامة عالم متحرِّر من كلِّ نظام طبيعي، سواء كان نظام الجسد أو الجنس أو الولادة أو الموت. وهو عنف جرثومي يعمل بالعدوى، بردِّ فعل متسلسل، ويتخذ مظاهر مزاجية وعُصابية ولاعقلانية مقارنة بعصر التنوير (العقلاني)، كما يتخذ صورًا جماعية، إثنية ولغوية[5].

لقد اختلط العنف عند بودريار بمحاكاته ضمن سلسلة تجمع بين الذاتية والتفاعلية، أو ما يسميها بالپورنوغرافيا pornography، التي تدل على التبادلات المتكررة للجنس والعنف معًا، بحيث يعمل فيها العنف مع طغيان العالمي في وقت واحد. إنها حالة من التلازم العبثي أرى أنها تلتف على تداعيات الكتابة في وجودها خارج الحدود.

*** *** ***


[1] مفكر وكاتب مصري، إيميله: msameerster@gmail.com.

[2] Cf. Jean Baudrillard, Simulacra and Simulation, Stanford University Press, 1988, pp. 166-167.

[3] Cf. Douglas Kellner, Boundaries and Borderlines.

[4] Cf. Jean Baudrillard, Between Difference and Singularity, a Discussion with Schirmacher.

[5] راجع: جان بودريار، روح الإرهاب، بترجمة بدر الدين عرودكي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة: 2005، ص 74-75.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود