|
النصُّ الدِّيني بين ميثولوجيا
المقدَّس والعقل الفقهي في
زمن تحتويه منظومةُ التناقضات لتؤسِّس
لثنائيات يتفاعل فيها السلبُ والإيجاب، – ما
هو شرعي وما هو وضعي، ما هو مقدس
وما هو مدنس، – تشكِّل هذه النظرةُ أساسَ
تقويضٍ دائم لمسلَّمات الإنسان المسلم الذي
تأسَّست نظرتُه إلى العالم ضمن ثقافة إسلامية
باتت اليوم تستهلك الإطارَ الفقهي
الكلاسيكي، وهي عينها التي يُطلَب منها اليوم
استيعابُ الواقع الحضاري الجديد. 1. إشكالية المحظور والقُدسي: قصة الخلق
– نموذج لتحليل النَّسق عند
الانتقال داخل المجتمع، نجد أن دائرة المقدس
تتسع فيه لتتقاطع مع ما هو مدنس، كما تتسع فيه
أحيانا دائرةُ المدنس لتتداخل مع المقدس – مع
العلم أن الفصل التام بين "المقدس" le Sacré
و"المدنس" le
Profane
لا يساعد في فهم الظاهرة الدينية.
إن أزمة التقديس هاته تعني [...] انحسار
دائرة المقدس على صعيد الفرد وعلى صعيد
المجتمع، وذلك بـ"تدنيس" عناصر كثيرة
كانت، إلى عهد قريب، معدودةً من متعلِّقات
المقدس، بل من صُلبه.[1] فالمقدس
موجود على شكله المطلق. وعلى اعتبار أن المقدس
هو الأصل، فالخَرْق موجود كذلك في شكله
المُبأَر، في قوة إيحاءاته المُتَحَرْبِئَة
على المعاني. فما يجعل "المحظور" مدرَكًا
في ذاته ويوحي بأسبقيته على المقدس هو
مساهمتُه في بناء المقدس ذاته. فالمقدس، بهذا
المعنى، لا سلطة له دون قيام المحظور
بتحقيقها. فهو يأخذ معنى الوجود بالفعل
كبداية، "والضرورة تعني البدء من الوجود،
لا من العدم"[2].
فالوجود مؤسَّس على انبثاق المحظور من المقدس.
ومن ثم كان وعي المحظور لذاته يجعله أصلاً
وموجودًا بالقوة بعدما كان موجودًا بالفعل
وينتمي إلى مجال الرمزي. فمن حيث هو
ممارسة إنسانية محكومة بالنسبي، يشترك في
علاقة جدلية مع ما هو مقدس، حيث يضطر هذا
الأخير إلى الاقتراب من النسبي، فيأخذ حُكْم
الاستعمال، فيصبح الواقع هو قصدية النص،
فيُنزَل المعنى المتحقق في ذاته منزلةَ النص
المطلق. يستعمل
العقل الرمزي ومضاتِ الكشف الصوفي كي يحرر
المقدس من لُبس الخرق المنتشر في خطاب الحظر،
الذي يُعتبَر أساسَ المنظومة الدينية
والقانونية من حيث تفسيرُه وتأويله. وهكذا، ففي الخطاب
الديني، على الخصوص، ثمة بداهات واحدة تشتغل
لإنتاج الحقيقة والمعنى، تتمثل في القول
بأولوية الذات ومنطق الهوية ومثالية
المدلولات وجوهرية المعاني وتواطؤ المفهومات
وحقيقة التصورات وذاتية الحدود وشفافية
العلامات وعِلِّية التفسيرات وغائيتها.[3] إن
الثنائية الميتافيزيقية، التقليدية، للوجود
مقدس/مدنس تجعل المقدس، بما هو لانهائي، في
قلب المدنس النهائي. ذلك كله يجعل منظومة
التقديس جوابًا مصادَرًا من طرف السؤال.
فالجواب في هذه المنظومة يجد صياغته النهائية
قبل السؤال، حيث الأسئلة هي التي تحدِّد
للقراءة – أية قراءة – آلياتِها. ومادام
السؤال مضمَرًا تكون آليات القراءة، بدورها،
مضمَرةً، تؤدي بالتأويل إلى سيرورات تأويلية
بعيدة عن الموضوعية في الوصول إلى المغزى
الحداثي للنص التراثي. فـ"في الدين هناك
دومًا حيز خفي يشغله المقدس، ومنطقة ممنوعة
يحتلها المحرم"[4]. فالمحظور
ينفعل بذاته في الوجود الإنساني. ومع
استمراره في تأزيم التاريخ، يسكن الأسطوري
والديني والرمزي باعتباره ينتمي إلى جدلية
تنتقل من الأسطوري وإليه. وهو، إذ يفعل، يسيطر
على مملكة المعنى ويختبئ في الأنساق الرمزية.
فلو انعدم المحظور لما وُجِدَ المباح. ولهذا
قال الحلاج: "ما من طاعة إلا ووراءها معصية"!
ومن ذلك نستخلص نتيجةً بانية تجعل من الخرق
البناء الأول في صياغة الوجود، بحيث نجد
المعصية تسبق الطاعة على المستوى الزمني: "ولو
انعدم الفجور لما وجد التُّقى."[5]
ولهذا، فوعي الوجود مؤسَّس على المحظورات بما
هي مقدسة. وقد
اكتمل هذا البناء الذهني فيما يتعلق بقصة
الخلق من حيث البناء الإلهي للمحظور، حيث
يقول تعالى: "إني جاعل في الأرض خليفة" (البقرة
29). وهو بناء يجعل الأمر الإلهي في صيغة
الإصرار على الأمر "جاعل"، متحققًا عبر
تبئير المحظور من أجل خَرْقِه كي يستمر
المقدس. فبما
أن الله قد "علَّم آدم الأسماءَ كلَّها" (البقرة
30)، ألا يُعتبَر آدم هو المسؤول الأول عن
التنفيذ المبطَّن لتحقُّقات الكينونة
الإلهية؟ ولهذا نرى أن الله – سبحانه – هو
الفاعل بإخراج آدم من الجنة، وإنْ كان قد عهد
بذلك إلى الشيطان. فخطة الله كانت تجلَّتْ في
أن يسكن آدم الأرض بعد أن يسكن الجنة، فأمَرَه
ألا يأكل من الشجرة مع تحذيره من الشيطان. إن
الخطة الإلهية قد تضمنت المختفي والمضمَر مند
البداية، وأسَّس – سبحانه – لانبثاق المحظور
من المقدس على يد الإنسان. فأين حدود المقدس
وحدود المدنس في الخطة الإلهية؟ لو غاب
المدنس أكانت التجلِّيات المضمَرة للخطة
الإلهية تجد طريقًا للتحقق يا ترى؟ لقد
أورد محمد بن جرير الطبري (839-922 م) في تفسيره
ما جعل آدم الضحية في قصة الخلق وحمَّل حواء
خطيئة خروجه من الجنة. وقد جاءت على الصيغة
التوراتية التي رواها عن وهب بن منبِّه (من
أحبار اليهود الذين اعتنقوا الإسلام) الذي
ضمَّن فيه التصوراتِ المستقاةَ من المرجعية
التوراتية التي تسربت إلى كتب التفسير وأصبحت
جزءًا من البناء الفكري للمنظومة الإسلامية.
ولذلك فما معنى العقاب الذي تحمَّلتْه حواء
في إثر هذا الخرق في منظومة الخلق إن لم يكن
استشراءً لمعاني التوراة فيما يتعلق بتحقير
المرأة وتخطيئها، باعتبارها هي التي غررت
بآدم. يقول الطبري: فدخل آدم في
جوف الشجرة، فناداه ربه: "يا آدم، أين أنت؟"
قال: "أنا هنا يا رب." قال: "ألا تخرج؟"
قال: "أستحيي منك، يا رب." قال : "ملعونة
الأرض التي خُلقتَ منها، لعنة يتحول ثمرها
شوكًا." ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرة
أفضل من الطلح والسدر. ثم قال: "يا حواء،
أنتِ التي غررت عبدي. فإنك لا تحملين
حملاً إلا حملتِه كرهًا. وإذا أردت أن تضعي ما
في بطنك أشرفتِ على الموت مرارًا."[6] فهذه
الصورة التي ترفع عن آدم التلبس بالخطيئة
تتناقض، من حيث إلحاق العقوبة، بِمَنْ لم
يخطئ (حواء). ولهذا نقترح مرافعةً لا تخلو من
مشاكسة تتعلق بتفاصيل منظومة الحظر
الإسلامية التي لا تحتوي مطلقًا فيما تحتويه
على تجلِّيات "الإغراء" الذي ينفلت من
المقدس ويخترق النظام الإلهي. ومن ذلك (الترجمة
لي)، "يسهر الإغراء دائمًا على تحطيم نظام
الإله"[7].
ولهذا يبقى الإغراءُ الأنثوي خارج منظومة
القُدسي، يحل متشظيًا في الأشياء كلِّها،
يحمل الرغبة واللذة والإرواء كعلامة تبادلية.
وهناك تكمن رمزيتُه وسلطتُه: فهو يتخذ
أبعادًا لامتناهية من الحالات التي تتعلق
بتحديده. ولهذا قال ج. بودريار (الترجمة لي):
"يجب القول إن الأنثوي يغري لأنه ليس أبدًا
في المكان الذي يُفترَض وجودُه فيه."[8] ومن
هنا استوطنت العلامةُ الإيروسية رأسَ منظومة
القيم، فأصبح الجسد الأنثوي يحرض على التعامل
معه وفق انتظامه في مدار الأيقونات. فالجسد
الأنثوي، بحسب هذا الاعتبار، يتداخل مع
الإغراء من دون أن يكون الإغراءُ نابعًا منه. وقد
مزج جورج باطاي ما بين إدراكنا للنزعة
الإيروسية والبُعد الديني، إلى حدود أنه جعل
من الأول العاملَ الموضوعي للثاني. هو ذا يقول: فالمعنى
الأصيل للنزعة الإيروسية يفلت منا إذا لم
نحاول اكتشاف بُعدها الديني، تمامًا مثلما
سيفلت منا المعنى الأصيل للدين إذا لم نكتشف
الرابط الذي يشده إلى النزعة الإيروسية.[9] وقد
استشف الباحث عبد الحق منصف قوة هذا المزج لدى
باطاي في مجمل الثقافات القديمة التي يتداخل
فيها تصورُ العالم والإنسان مع مفاهيم
أسطورية أو دينية أو ميتافيزيقية تتمازج فيما
بينها وتتداخل ضمن تلك الثقافات[10]. ومن
ثم فإن الإغراء يتموقع في منظومة المقدس
كالقدر، لاحتلاله أنظمة العلامات والتمثلات.
وبذلك، فهو "أقوى من السلطة"[11]
لأنه ينتمي إلى المعيش اليومي، باعتباره
يقاسم نظامَه استيهاماتِ الواقع، على الرغم
من كونه لا ينتمي إلى الواقع ولا إلى السلطة
الدينية وعلاقاتها بالسلطات الأخرى. فالأنثى
تتحول، مع الإغراء، من الوعي بوجودها بالفعل
إلى الوعي بوجودها بالقوة، فينعكس هذا
الوعي على إدراك الجسد الذي يطمح في مسيرته
المُجهَدة للعودة إلى أصله الإلهي (المقدس).
من هنا كان "الجنس المقدس" Hiérogamie
لدى بعض الديانات "مشاركة في الفعل الإلهي
وطقس عبور (معمودية) باتجاه الخلود والألوهية"[12]. ولقد
كان الإغراء – ومن ضمنه استيهامات الأنثوي –
محفلاً للعلاقات الرمزية داخل الزمن – "وهي
كلها عناصر ليست من خصائص العالم اللازمني"[13]
– يحقِّق الصعود والنزول لتحقيق الأمر
الإلهي على مستويَي المحظور (النزول إلى
الأرض) والمقدس (الصعود إلى التجلِّيات
الإلهية). وعلى كلٍّ، تبقى [...] صورة آدم
البريء تلك في حقيقتها تعكس مجتمعًا يكون
الرجلُ فيه هو مثال الخير والبراءة، في حين
تمثِّل الأنثى الشر والخطيئة. فالقصة تشير
إلى المجتمع أكثر مما تفسِّر النصَّ الديني.[14] ألم
تكن الخطة الإلهية هي أن يجعل الله "في
الأرض خليفة"؟ أليس معنى هذا أن الخطة
الإلهية تضمَّنتْ المختفي وأن هذا المضمَر
أسَّس لانبثاق المحظور القدسي من المقدس
كحقيقة مطلقة؟ أين تكمن حدود المقدس وحدود
خَرْقِه في نزول آدم إلى الأرض؟ لهذا
لا يمكن تصور قيام المدنس منفردًا، كما لا
يمكن تصور المقدس من دونه؛ وبالتالي لا معنى
للمقدس في ذاته إلا في طبيعة المحظور: "فإذا
توقف المحظور عن لعب دوره وإذا فقدنا الإيمان
به يغدو الخَرْق مستحيلاً"[15]،
كما يقول جورج باطاي. لذا، فمنذ بدء الخليقة،
وضع المحظورُ نفسه كمؤسِّس شرعي للمقدس. وهذه
النظرة من شأنها أن تبرئ المدنس في مرحلة
تأسيسه الأولى من أبعاده الإنسانية
والتاريخية. فكيف ندرك مطلقية المقدس
وتجلِّياته في المعنى فيما لو غاب المحظور؟ 2. العقل الفقهي ومنظومة الحظر كيف
يمكن اعتبار الفقه تابعًا رئيسيًّا للمقدس؟
هل يحقق العقل الفقهي جدلية الاختلاف بين
المقدس والمحظور، بين الشريعة والتاريخ؟ ما
معنى الإجازة الشرعية (الخَرْق) التي يجيزها
الفقهُ بالنسبة لإجازة أحد المحظورَين إذا
تقابلا؟ إن
مظاهر الأزمة القائمة بين المسلم المعاصر
والعقل الفقهي يمكن استجلاؤها من خلال تطلعات
كلٍّ منهما نحو العالم والوجود. فالمسلم
الحديث يرتضي في اقتناعه باعتماد المُقْنِع
على البرهان العقلي الخارج من دائرة المقدس
الذي لم يعد يشمل إلا القرآن والسنَّة، على
خلاف ما كان يتسم به موقفُ القدامى من بعض
رموز الإسلام الأخرى، كالصحابة مثلاً. فقد
حدث تحول عميق في علاقة المسلم بالقُدسي
عامة، حتى ليصعب الفصلُ بين الفقه المجرد
وبين الواقع الإسلامي. وقد انعكس ذلك الوضع
على المجال الفقهي، من حيث إن العقل الفقهي
كان لا يشتغل إلا ضمن المقدس ولا ينفك عنه،
وبالتالي، فسيصيبه، لا محالة، ما أصاب المقدس
ذاته. المسلم
المعاصر مازال يطمئن إلى وضعه الوجودي القديم.
يتأرجح داخل هذا الوضع بين كونه موضوعًا
للتاريخ وكونه أداةً له، لأنه لا يستطيع أن
يخلق نفسه. فهو مرتبط بالمقدس ارتباطًا
حميميًّا، ويعمل باستمرار على إنتاج معاني
قصة الخلق في ذاته. وبذلك فهو، على هذا
الصعيد، يتقاطع مع مركزية الإنسان الحديث (الغربي)
التي "يخلق فيها الإنسان نفسه"، كما يقول
مرشيا إلياده في كتابه رمزية الطقس
والأسطورة، "ولا يصل إلى خلق نفسه تمامًا
إلا بمقدار ما يتجرد من القداسة ويجرِّد
العالم منها"[16]. ومن هنا أصبح
القدسي، بالنسبة إلى الحداثة الغربية
المتمركزة على الذات، من آليات كبح انطلاقة
الإنسان. لقد
أصبح القُدسي ينكمش على نفسه بالنسبة للفرد
والمجتمع على السواء، وذلك بتدنُّس مجالات
متعددة كانت تحيطها دائرةُ المقدس سابقًا
وتُعتبَر من ركائزه، حيث أصبح العديد من
قضايا المسلم المعاصر يتم تدبيرها خارج
منظومة التقديس. لذا
كان لزامًا على العاملين بالاجتهاد[17]
ألا يجعلوا مسلَّماتهم تتعارض وتكيُّفَ
أحكامهم مع الواقع الجديد للمسلم المعاصر،
على اعتبار أن "الواقعة غير متناهية
والنصوص متناهية"، كما يقول الشهرستاني.
ومن ذلك أن المجتهد ضمن العقل الفقهي هذا
يستبعد من دائرة اجتهاده أحكام العقائد بحجة
أن القرآن والسنَّة لا يقبلان التعديل ولا
التغيير. ومن ضمن ما يجب أن يمسه الاجتهاد من
أحكام المعاملات: "تعدد الزوجات والجلد
والرجم [...] ورؤية الهلال بالعين المجردة"[18]،
أو كما في مسائل العبيد والإماء والعدة وثلاث
"قُروء" أو الأرملة وتربُّصها لأربعة
أشهر وعشرا إلخ. 3. منهجية تأويل النصِّ الديني هل
أصبح الشرعي، بتعاليه وقدسيته، قاصرًا عن
إقناع عقل المسلم الحديث؟ هل عمَّق تأويلُ
النص الديني الجدلية التراتبية للمحظور
والقُدسي؟ هل يتضمن النص الديني آلياتِ
تأويله: قراءته وفهمه وتفسيره؟ إن
أية قراءة تستهدف التأويل لا بدَّ لها من طرح
الأسئلة بقصد الوصول إلى إجابات ممكنة؛ إذ إن
"طبيعة الأسئلة تحدِّد للقراءة آلياتها"[19].
وبذلك تتحدد إشكاليةُ التأويل في طبيعة
التساؤلات التي تقترحها القراءةُ التي تغوص
في أعماق فهم العالم والإنسان والنصوص. لقد
اتسع تأويل النصوص الدينية وتفسيرها ليشمل
العلوم الإنسانية كافة. فهل أنتج الواقعُ
الإسلامي الجديد آلياتِه الخاصة لتأويل النص
القرآني؟ هل ما يزال النص الديني سندًا
تفسيريًّا وحيدًا للأحداث الراهنة؟ لقد
أنتج التراثُ الإسلامي مواقف تفسيرية للنصِّ
الديني، ففرَّق ما بين منهجيتين حُدِّدتا في
موقفين: أ.
التفسير بالمأثور:
هذا التفسير يهدف إلى وصول المفسِّر إلى "معنى
النص عن طريق تجميع الأدلة التاريخية
واللغوية التي تساعد على فهم النص فهمًا "موضوعيًّا"،
أي كما فهمه المعاصرون لنزول هذا النص من خلال
المعطيات اللغوية التي يتضمَّنها النص
وتفهمها الجماعة"[20].
وهذا التفسير قد استعمله أهل السنَّة والسلف
الصالح في استنباط تشريعاتهم، على اعتبار أن
نصَّ الانطلاق يشتمل على وحدة زمنية جامدة
على أساس صلاحيته لكلِّ زمان ومكان. فالمفسر
هنا يبدأ من الحقائق التاريخية والمعطيات
اللغوية لإعادة إنتاج المناخ الفقهي نفسه
الذي يتضمن، في رأيه، صفاء النموذج الإسلامي
الأول ونقاءه. ب.
التفسير بالرأي أو
التأويل:
إن المفِّسر، حسب هذا الاتجاه، لا ينطلق من
منطلقات التفسير بالمأثور نفسها، أي من
الحقائق التاريخية والمعطيات اللغوية، بل
"يبدأ بموقفه الراهن، محاولاً أن يجد في
القرآن (النص) سندًا لهذا الموقف"[21]. وقد
يتداخل هذان الاتجاهان، فيستعمل أصحابُ
الاتجاه الأول بعض الآليات التأويلية
للاتجاه الثاني، والعكس صحيح. وقد تنتقل في
هذا الاتجاه اللغةُ في دلالتها المرجعية إلى
دلالتها الرمزية، حيث يخضع فيها النص القديم
لشروط إنتاجه الجديدة، فتلعب التأويلات
الداخلية وجدلُ الدال والمدلول دورًا في
إعادة إنتاج النص، من حيث إن التحول الذي يقع
للعلامات يذهب بالنص القديم إلى اتخاذ أبعاد رمزية. وقد
ولَّد هذا الجدل التفسيري للنصِّ الديني بعض
التساؤلات المعرفية التي نسوقها على الشكل
التالي: -
كيف يمكن الوصول إلى معنى
النص القرآني بشكل موضوعي؟ -
كيف نوقف توالُد معاني
الإسرائيليات في إنتاج معانينا الفقهية؟ -
هل في استطاعة المؤوِّل (الفقيه)
الوصول إلى مطلقية القصد الإلهي وكماله؟ إن
التأويل قد فتح باب الاجتهاد على مصراعيه،
فأعطى للمؤوِّل حريةً واسعة في فهم النص، على
الرغم من أن التفسير بالمأثور، بحسب المنهجية
المتَّبعة، قد يضع بيد المفسر إمكانيةً
موضوعيةً للفهم، حيث إن "الاتجاه الأول
يتجاهل المفسِّر ويلغي وجوده لحساب النص
وحقائقه التاريخية واللغوية [...]"[22]. إن
هذين المنهجين في قراءة النص الديني قد
شكَّلا وعي المفسِّرين في العصر الحديث، كما
حازا سابقًا على اهتمام المفكرين العرب
جميعًا: ابن عربي، ابن رشد، ابن حزم،
السهروردي، إلخ. وندرج هنا بعض أفكار هؤلاء
فيما يتعلق بالتأويل: فابن
عربي، في الفتوحات المكية، يجعل من
التأويل [...] عبارة
عما يؤول إليه ذلك الحديث الذي حدث عنده في
خيال [المتلقِّي...]. فهو ينقله من خيال إلى
خيال، لأن السامع يتخيله على قدر فهمه. فقد
يطابق الخيال الخيال، خيال السامع مع خيال
المتكلم، وقد لا يطابق. فإذا طابَق سُمِّي
فهمًا عنه، وإن لم يطابق فليس بفهم.[23] إن
المعنى الذي يحيل عليه قولُ ابن عربي يجعل "النص"،
كدلالة، يظل يُستخدَم في حقله الدلالي كدلالة
واضحة لا تحتاج إلى تأويل، بينما ينتج النسقُ
الفقهي المعاصر الالتباسَ المنهجي في
استخدام كلمة "نص" للدلالة على النصوص
الدينية كلِّها، من القرآن الكريم إلى
الأحاديث النبوية، متغاضيًا بذلك عن الواضح
منها كما عن الذي يحتاج إلى التأويل. وبذلك [...] يخلط
الخطاب الديني عن عمد وقصد بين الدلالة
القديمة، التي استخدمها الفقهاء حين قرروا
المبدأ، وبين الدلالة المعاصرة التي تسبق إلى
وعي المخاطب العادي، فيترسخ في الذهن "تحريم"
الاجتهاد.[24] وقد
يتجه الاجتهاد إلى ردِّ الفرع إلى أصل
لمساواته في علَّة الحكم. فمن خلال المبدأ
الفقهي القديم "لا اجتهاد فيما فيه نص"،
يُحكِم الفقهُ المعاصر الحصارَ على النصوص،
لتنفرد فئةُ الفقهاء بسلطة تأويلها
وتفسيرها، وبذلك تحتكر هذه الفئةُ القدرةَ
على التمييز بين القُدسي والمحظور، وتهيمن من
جراء ذلك على الأسلوب الذي تُنتِج عِبْرَه
المنظومةُ الفقهيةُ عقلانيتها. وقد
عرَّف ابن رشد بالتأويل في فصل المقال
باعتباره "إخراج دلالة اللفظ من الدلالة
الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن
يخلَّ في ذلك بعادة لسان العرب في التجوُّز من
تسمية الشيء بشبيهه أو سببه أو لاحقه أو
مُقارنه أو غير ذلك [...]"[25].
لقد ركز ابن رشد هنا على المجاز، واعتبر أن
للُّغة وجهين: وجه ظاهر وآخر باطن. أما
ابن حزم، فقد اعتبر أن التأويل هو انحراف عن
النصِّ وعن صورته الحقيقية، وهو تجاهُل
للنصِّ وللحقيقة في آن واحد. فاللغة عند ابن
حزم لا تحتاج إلى البحث عن الظاهر أو الباطن،
والنص الديني عنده وحيد التفسير، له حقيقة
واحدة فعلية، يستوجب الوصولُ إليها رؤيةً
موحدة للتعامل معه[26]. بينما
فرَّق أبو النجيب السهروردي بين التفسير
والتأويل: فالتفسير عنده "علم نزول الآية
وشأنها وقصتها وأسبابها؛ وهذا محظور على
الناس كافة القول فيه إلا بالسماع والأثر"[27]. أما عندما
انتقل السهروردي إلى التأويل، فقد جعل النص
الديني يتسع في معناه بحسب قُرائه ودرجة
معرفتهم وعمق فهمهم، حيث جعل التأويل "صرف
الآية إلى معنى تحتمله إذا كان المحتمَل الذي
يراه يوافق الكتاب والسنَّة. فالتأويل يختلف
باختلاف حال المؤوِّل: من صفاء الفهم ورتبة
المعرفة"[28].
فالفعل التأويلي عند السهروردي يتجاوز حدود
اللغة، ليتصل بذات المؤوِّل التي تشتمل،
بالإضافة إلى المعرفة المحض، على الحضور
القوي للبناء النفسي والاجتماعي له. فالتأويل
عنده يبقى اجتهادًا نسبيًّا يتغير وفق حالة
المؤوِّل ووضعيته. وبهذا
نكون قد وصلنا، عِبْرَ هذه المقبوسات حول
التأويل ومعناه، إلى الاستنتاج الذي يجعل
التأويل تحريفًا للكلمات عن معانيها الأولى
لتخدم معاني جديدة هاجسها موافقة قناعات فئة
دون أخرى. لذا فإن التأويل[29]
"لا يعني مجرد عملية الفهم لشيء معطى محدد
سلفًا، له وجود خارجي محايد عن المتلقي الذي
يحاول أن يفهم هذا الشيء أو النص"[30]. إن
الصيغة التفسيرية للنص الديني التي تجعل
التأويل ممكنًا تكشف عن أن منظومة اللغة هي
التي تتكلم من خلال هذا التأويل، من حيث إن
اللغة هي مجال خام للفهم والتفسير: فـ"الانفتاح
الوجودي عند المتلقي – من خلال وعيه بوجوده
الذاتي – يجعل عملية الفهم ممكنة"[31]؛
وهي إشكالية ارتبطت باللغة والدلالة التي
كانت القاعدة التي انطلق منها الفكر الإسلامي
لتأسيس علاقته بالنص. *** *** *** ·
باحث من المغرب. [1]
نور الدين بوثوري، مقاصد الشريعة:
التشريع الإسلامي المعاصر بين طموح
المجتهد وتصور الاجتهاد، دار الطليعة،
بيروت، طب 1: 2000، ص 112. [2]
علي حرب، لعبة المعنى: فصول في نقد
الإنسان، المركز الثقافي العربي، الدار
البيضاء، طب 1: 1991، ص 98. [3]
علي حرب، المرجع السابق نفسه، ص 117. [4]
علي حرب، المرجع نفسه، ص 119. [5]
علي حرب، نفسه، ص 129. [6]
الطبري، التفسير، الجزء الأول، دار
الفكر، بيروت 1984، ص 335 (التشديد منِّي). [7]
Jean Baudrillard, De la séduction, Éd. Galilée, Paris, 1979,
p 10. [8]
De la séduction, Ibid., p. 17. [9]
Georges Bataille, Les larmes d’Eros, Paris, 1961, p. 94. [10]
منصف عبد الحق، الكتابة والتجربة الصوفية:
نموذج محيي الدين بن عربي، مطبعة عكاظ،
الرباط، طب 1: 1988، ص 367. [11]
De la séduction, Ibid., p. 69. [12]
تركي علي الربيعو، العنف والمقدس والجنس
في الميثولوجيا الإسلامية، المركز
الثقافي العربي، الدار البيضاء، طب 2: 1995، ص
89. [13]
"قصة الخلق: دراسة في الجنس المقدس"،
موقع د. سعيد بنگراد: www.saidbengrad.free.fr. [14]
نصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف: قراءة في
خطاب المرأة، المركز الثقافي العربي،
الدار البيضاء، طب 2: 2000، ص 22. [15]
Georges Bataille, L’érotisme, p. 155. [16]
ميرسيا إلياد، المقدس والدنيوي: رمزية
الطقس والأسطورة، بترجمة نهاد خياطة،
دار العربي، دمشق، 1987، ص 189. [17]
يعني الاجتهاد بالرأي "بذل الجهد للتوصل
إلى الحكم في واقعة لا نص فيها بالتفكير
واستخدام الوسائل التي هدى الشرع إليها
للاستنباط بها فيما لا نص فيه". [18]
عبد الوهاب خلاف، مصادر التشريع فيما لا
نص فيه، دار القلم للنشر والتوزيع،
الكويت، طب 6: 1993، ص 7. [19]
نصر حامد أبو زيد، إشكاليات
القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي
العربي، الدار البيضاء، طب 5: 1999، ص 6. [20]
إشكاليات القراءة وآليات
التأويل،
المرجع نفسه والصفحة نفسها. [21]
إشكاليات القراءة وآليات
التأويل،
المرجع نفسه، ص 15. [22]
المرجع نفسه، ص 16. [23]
محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية،
المجلد الثاني، دار صادر، بيروت، دون تاريخ. [24]
نصر حامد أبو زيد، النص، السلطة، الحقيقة:
الفكر الديني بين إٍرادة المعرفة وإرادة
الهيمنة، المركز الثقافي العربي، الدار
البيضاء، طب 2: 1997، ص 157. [25]
ابن رشد، "فصل المقال وتقرير ما بين
الشريعة والحكمة من الاتصال"، في فلسفة
ابن رشد، دار الآفاق الجديدة، بيروت، طب
1: 1982، ص 19-20. [26]
راجع: إشكاليات القراءة وآليات التأويل،
المرجع نفسه، ص 200، 204، حيث يورد نصر حامد
أبو زيد نصين لابن حزم بهذا المعنى. [27]
أبو النجيب السهروردي، عوارف المعارف،
دار الكتاب العربي، بيروت، طب 1: 1966، ص 25. [28]
السهروردي، عوارف المعارف، المرجع
السابق نفسه، ص 25-26. [29]
التأويل أو "الهرمينوطيقا" herméneutique
مصطلح قديم، ارتبط بالأبحاث اللاهوتية
ليشير إلى القواعد والمعايير والآليات
التي على المفسِّر أن يتَّبعها لفهم النص
الديني. [30]
إشكاليات القراءة وآليات
التأويل،
المرجع نفسه، ص 27. [31]
إشكاليات القراءة وآليات
التأويل،
نفسه، ص 36.
|
|
|