|
حول الحرف والمعنى
الحرفُ محدودٌ، والمعنى غير محدود. والحرف من المعنى كالجسد من الروح. وبالتوازي، فإن الجسدَ محدودٌ والروحَ غيرُ محدود. وقد شاءت كلمة الوحي – وهي كلمة الله – أن تتخذ لها الحرفَ لباسًا، فتقيِّد نفسَها بلغة البشر لكي "يفهمها" البشر. وهؤلاء متفاوتون في الفهم وفي القدرة على اختراق حُجُب الحرف. ولذلك نرى بعضَهم يقف عند الحرف، لا يتعداه، وآخرين ينفذون إلى ما وراءه. من حقِّ الأولين الاعتراضُ على هؤلاء، لكن ليس من حقِّ هؤلاء الاعتراض على المحدود بسبب محدوديَّته التي لا يد له فيها. و"الحرفيون"، إذا كان لهم من "وظيفة"، فهي ضمان بقاء الحرف في التاريخ. ثمة علاقة جدلية بين محدودية الحرف ولامحدودية المعنى (أو المضمون)، بما يشبه محدودية الجسد ولامحدودية الروح. وإن تعلُّقَ مَن ليست له تجربة روحية بالحرف ناتجٌ عن لامحدودية المعنى الذي يُومِضُ من حواف جدار الحرف، ثم لا يلبث أن يتوارى ويختفي، وليس له من هذا الوميض وهذا الاختفاء إلا شعور غامض بأن شيئًا ما يجذبه إلى الحرف ويُشيع فيه فتنةً وسحرًا، يدركه لا بواعيته بل بالخافية (اللاوعي)! إن تعلُّقَ الحرفيِّ بالحرف إنما هو، في الحقيقة، تعلُّقٌ بالمعنى أو بالمضمون الذي لم يدركه بذاته، بل "أدركه" بتأثيره السحري. وهذا قريب من قول الصوفي الكبير، أحمد بن عبد الجبار النفَّري، في أحد مواقفه: "رأيته – يريد الله تعالى! – لا يبدو فيخفى، ولا يخفى فيبدو"؛ في عبارة أخرى: لا يظهر بحيث يختفي، ولا يختفي بحيث يظهر. فهو أبدًا بين ظهور وخفاء. ألم يقل في كتابه الكريم إنه هو "الأول والآخر والظاهر والباطن" (سورة الحديد 3)؟! وشبيهُ الانجذاب إلى الحرف انجذابُنا إلى الجسد: الأول بما فيه من معنى، والثاني بما فيه من روح. وكلا الانجذابين "وثنية"! والوثنية، على ما نذهب إليه، هي قَدَرُ الإنسان بسبب العلاقة بين المبدأ وتجلِّياته – وأعني: المبدأ الإلهي ومخلوقاته. فهذه لا تخلو من فتنة وسحر؛ بل لعل فيها كثيرًا من الفتنة والسحر! لنتأمل غروب الشمس وقد استحمَّ نصفُها في أفق البحر: أليس انجذابُنا إلى هذا المشهد البديع نوعًا من عبادة صامتة؟! ثم إن هناك ما لا يُحصى من هذه المشاهد التي تروِّع وتُدهِش: القمر بدرًا، والشلال صاخبًا، والبحر هائجًا، والجبل شامخًا، والرعد قاصفًا، إلخ، إلخ. لكن الإسلام أوجد علاجًا لهذه الوثنية الاضطرارية بحثِّ المؤمنين على ذكر الله والقول في مثل هذه الأحيان: "سبحان الله!"، و"ما شاء الله!"، وغير ذلك من العبارات التي تسلِّكُ انجذابَ المؤمن في سلك التوحيد. وهكذا يتم فعل تقاصٍّ بين الوثنية والتوحيد! بقي أن نعلم أن اللامحدود هو عينه "اللامعقول"! إذ إننا لا "نعقل" إلا ما هو محدود، ما له أبعادٌ في الزمان والمكان. أما ما وراء ذلك، فلا سبيل إلى "إدراك" اللامحدود – أعني "اللامعقول" – اللهم إلا بالقلب. والقلب ليس أداة للمعرفة، بل هو مصدرها. وهكذا يمكن لنا القول إن اللامحدود، اللامعقول، هو الله الذي "علَّم الإنسان ما لم يعلم" (سورة العلق 5)! *** *** *** تنضيد: دارين أحمد
|
|
|