|
جـنـون
الـحـرب منذ فجر التاريخ والمجتمع البشري
ما انفك مبتلًى بالحرب، بحيث إن التاريخ "الرسمي"
الذي يدرَّس في صفوف المدارس يكاد أن يكون
تاريخ الحروب حصرًا – حتى أمست غالبيةُ الناس
تذكر الحربَ وكأنها حدثٌ عادي أو تكاد. وقد
وصلتنا بالفعل رواياتٌ عن أيام خوالٍ كان
الفلاحون فيها يحرثون حقولهم ويواصلون
نشاطاتِهم اليومية، لا تثنيهم عن ذلك
المعاركُ الدائرة في جوارهم؛ فبينما كان
الغزاة وأمراء الحرب يصولون ويجولون لم تكن
حياةُ الناس العاديين ("المدنيين" في
مصطلح اليوم) تتأثر كثيرًا. غير أن
سيناريوهات حروب اليوم "الحضارية" باتت
تقدم صورةً مختلفة كليًّا عن تلك: فمع التطور
المخيف في تكنولوجيا الحرب، لم يعد في
الإمكان حصرُ آثارها في بقعة جغرافية بعينها؛
وقد أضحت لها عواقب وتداعيات على الأصعدة
النفسية والإيكولوجية والاقتصادية والروحية
تطال الإنسانيةَ ككل. الحرب اليوم تعني أن
عددًا لا يُحصى من الناس، مقاتلين ومدنيين،
يُقتَلون، وربما يصابون بجروح خطيرة وتشوهات
نفسية وبدنية دائمة. لم يمضِ على إلقاء
القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي
زمنٌ طويل في حساب التاريخ؛ إذ إن الضحايا
مازالوا يعانون من عواقبهما، وصحة الأجيال
المقبلة في اليابان مازالت على كفِّ عفريت.
الحروب لا تخلِّف آثارًا مدمِّرة على
المعطَّلين والمشوَّهين والمرضى وحسب، بل
وعلى أعداد لا تُحصى من أطفال ميتَّمين،
يعانون رضوض فقد الأهل والأقارب؛ تُبتَر
أطرافهم (كما جرى في سييرا ليوني)،
ويُستخدَمون أحيانًا كـ"دروع بشرية".
أعداد هائلة من النساء اغتُصِبن وأُذلِلْن
لإثبات تفوُّق القوى "المنتصرة"، وليس
لإشباع شهوة الجنود وحسب. التعذيب واغتصاب
النساء (والرجال أحيانًا) يُستخدَمان
استخدامًا ممنهجًا كأداتين سياسيتين لإخضاع
"العدو". ومن المتعذر وصف بؤس لاجئي
الحرب المنكوبين وعذابات الملايين من
النازحين أو المهجَّرين – وهؤلاء يوجَدون
غالبًا في كلا جانبَي النزاع. الحكام
المعتوهون، مرضى جنون العظمة، وتجار السلاح،
وغيرهم من أصحاب المصالح الأنانية من
الرأسماليين، هم الذين لا يتورعون عن التحريض
على الحرب، فيما الشقاء يكون من نصيب شعوب
بأكملها، هي الخاسرة دومًا، حتى وإن انتصرتْ
جيوشُها. أما
الذين يفتحون قلوبهم فعلاً – بعيدًا عن ردود
الفعل الانفعالية البدائية، وبعيدًا كذلك عن
تحليلات الجيوپوليتيكا بـ"عقل بارد"،
كما يقال – على ذلك الألم المرعب الذي يكتنف
نفوس المتقاتلين والمدنيين والأُسَر
والأطفال والنساء وغيرهم، فمسألة مَن "على
حق" ومَن "على باطل" تغدو في نظرهم
ثانوية. الواقع المؤلم الوحيد هو استمرار
اجترار الذكريات الرهيبة ومشاعر الخوف
والنقمة والرغبة في الثأر وتحجُّر القلوب لدى
كلا الجانبين. أفراد القوى المسلحة جميعًا،
من الطرف المعتدي كانوا أو من الطرف المعتدى
عليه، يُدرَّبون على القسوة وعلى اعتياد سفك
الدماء والتنكيل وتجريد الخصم من إنسانيته،
معنويًّا أو فعليًّا. ومع أن
بعض الدول قد يدَّعي الدفاع عن السلام وعن
حقوق الإنسان، فإن صناعة الحروب التي تباركها
و/أو تنفذها هذه الدول بعينها تقوم على العنف
والقهر وانتهاك حقوق الإنسان وكرامته. إن
مركز الاحتجاز الأمريكي في أفغانستان مثال
على ذلك – ناهيكم عن الفظائع التي ارتُكِبَت
في سجن أبو غريب. المشتبه فيهم يوضعون في "حاويات
شحن معدنية تحميها ثلاث طبقات من الأسلاك
النابضية" ويُرغَمون على الوقوف أو الركوع
أو على اتخاذ وضعيات مؤلمة ويُحرَمون من
النوم ساعات طويلة بغرض "كسر إرادتهم" –
وهذا مجرد جزء بسيط من فنون "الضغط
والإكراه" stress and duress
الممارَسة. لقد نقل صحافيون من الـWashington Post
أن "جميع مسئولي الأمن القومي الحاليين
المُقابَلين من أجل هذا المقال دافعوا عن
استخدام العنف ضد الأسرى بوصفه عادلاً
وضروريًّا". مركز الاحتجاز الأمريكي هذا،
ونظيره الأشهر في غوانتانَمو، هما المعروفان
من بين مراكز سرية عدة خارج أراضي الولايات
المتحدة لا تسري فيها "المعاملة القانونية"
due process على أسرى الحرب. فإذا كانت الدولةُ
المدعيةُ تَصدُّرَ نصرة الحقوق والحريات
المدنية تهوي، بحسب واحدة من صحفها المرموقة،
إلى هذا الدرك المروع في صناعة الحرب،
المدعوة كذبًا بـ"الحرب على الإرهاب"،
فلا حرج على أنظمة ليس فيها حتى قبول نظري
بحقوق الإنسان. المعلومات التي ظهرت إبان
محاكمة كلٍّ من ميلوشيفتش وصدام عن فنون
القتل والتعذيب والتنكيل تقشعر لها الأبدان.
فهل ستنسى أُسَرُ الضحايا ما كابدتْه يومًا؟
لا غرو، إذن، أن تولِّد الحربُ المزيدَ من
الحقد، وبالتالي، المزيد من الحروب. من ناحية أخرى، تخلِّف الحربُ،
ماعدا آثارها الخطيرة على الصحة النفسية
للجنود والمدنيين، عواقب إيكولوجية وخيمة
تخرج عن السيطرة الإنسانية. فالماء والهواء
لا ينحصران في مناطق محدودة؛ فهما، إذ
يتسممان، قد يهددان التنوع الحيوي، المتأثر
أصلاً تأثرًا بالغًا بالنشاطات البشرية "السلمية"
الحمقاء، مزيدًا من التهديد، بما في ذلك حياة
البشر على مدى أجيال. كذلك الألغام الأرضية
المزروعة في أراضي "العدو" عقبة كأداء في
سبيل قيام الناس العاديين بمواصلة عيشهم في
أمان. أما عواقب استخدام الأسلحة الكيميائية
والبيولوجية فليس في مقدور أحد أن يتكهن بها. ومع تنامي العولمة وازدياد
الروابط الاقتصادية بين دول العالم جميعًا،
ستهدد الحربُ استقرارَ شعوب بأكملها وأمنَها
الاقتصادي والغذائي. فمصير ملايين البشر
الذين مازالوا على شفير المجاعة سيصير أكثر
غموضًا، إذ يرميهم مثيرو الحرب من أقاصي
الأرض بين شدقي الموت رأسًا. لقد رصدت
الولايات المتحدة مبلغ 200 مليار دولار أمريكي
للحرب الأخيرة على العراق في وقت يعدم 300
مليون إنسان في أفريقيا لقمة العيش اليومي.
الحرب – أية حرب، "ظالمة" كانت أو "عادلة"
– استنزاف هائل وعبثي للموارد البشرية
والمادية، يجعل منها قطعًا شكلاً من أشكال
الجنون المطبق. علاوة على ما تقدَّم، دعونا
نتفكر في العواقب الروحية لتكريس القسوة
والتوحش والرغبة في القتل والعدوان واحتلال
الأرض وقمع الإنسان بعامة سلوكًا عاديًّا في
أيام الحرب. حين تُقبَل الحربُ بوصفها ردة فعل
"سوية"، حتى حين تكون ردًّا على عدوان
ظالم (وحدها أشكال المقاومة اللاعنفية
الحقيقية مستثناة من ذلك)، فإن ذلك يكافئ
تنكُّر الإنسان لحاضره ومستقبله الروحيين –
علَّة وجوده نفسها. فالحرب يجب ألا يُنظَر
إليها من المنظار السياسي والاقتصادي أو
الإيكولوجي وحسب؛ إذ إنها حتمًا تقهقُر على
الصعيد الروحي لا يُغتفَر – للظالم وللمظلوم
على حدٍّ سواء. *** *** ***
|
|
|