|
حول العَوْلَمَة و"المجتمع السياسي" والهُويَّة و"وظيفة" الفلسفة العولَمة واقعةٌ موضوعيَّة يجب التعاملُ معها باعتبارها معطًى حقيقيًّا يقرِّب المسافاتِ ويختصرُ الزمنَ ويوحِّد العالم المجتمع السياسي هو المجتمع الديموقراطي الذي يكون فيه مواطنوه شركاء في تقرير مصيره من مُهمَّات الفلسفة "التمرُّد الفلسفي" على مقولات العصر السائدة الهُويَّة ليست شيئًا جاهزًا يمكن للمرء شراؤه من السوق!
في ندوة "العولمة والحداثة"، التي أقيمت فعالياتُها في "القاعة الشامية" في المتحف الوطني بدمشق، برعاية د. محمود السيد، وزير الثقافة [آنذاك]، وبالتعاون مع معهد ثربانتِس الثقافي الإسباني، شارك عددٌ من الباحثين والمفكرين، العرب والأجانب، طرحوا مواضيع متنوعةً من خلال مَحاور متقاربة.
من بين هؤلاء د. يوسف سلامة، أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق، الذي تكلَّم على "القيم الإنسانية والقيم الكونية". وقد التقينا به في هذا الحوار. نسرين مخلوف * * *
نسرين مخلوف: "العولمة" مصطلح رأسمالي يتوافق مع نزعة الهيمنة التي تقودها أمريكا وتسعى من خلالها إلى تجنيد بلدان الأطراف لصالح المركز الاستعماري القوي. كيف يمكن للعرب، في نظرك، أن يستفيدوا من إيجابيات هذه المرحلة – إنْ وُجِدَتْ – وأن يحافظوا، في الوقت ذاته، على استقلالهم وحريتهم؟ يوسف سلامة: العولمة واقعة موضوعية، – هذا أمرٌ لا شك فيه، – ومن العبث أن ننكر شيئًا واقعيًّا. ومن هنا يجب التعامل مع العولمة باعتبارها معطًى حقيقيًّا لفعل قائم، لا الاكتفاء بإنكارها أو بإدانتها. لكلِّ ظاهرة إيجابياتٌ وسلبيات. ومن مزايا العولمة أنها تقرِّب المسافات، وتختصر الزمن، وتجعل العالم فعلاً عالمًا موحدًا، وكما يقولون: "قرية كونية". هذا صحيح، لكن المشكلة أننا، نحن العرب، لسنا مستعدين بعدُ لدخول هذه المرحلة الصعبة من التطور الإنساني؛ ومن هنا تأتي مشاكلنا مع العولمة – وهي في الحقيقة مشاكلنا مع أنفسنا، وليس مع العولمة: لأننا قبل العولمة كنَّا أيضًا في مشكلة مع الحرب الباردة، وقبل الحرب الباردة كنَّا في مشكلة مع القضية الفلسطينية؛ وبعد أن يتطور العالم ويتجاوز العولمة – إذا بقينا على قيد الحياة! – قد ندخل، ربما، في مشكلة مع الشكل الجديد للحياة الذي سيأتي بعد العولمة. المطلوب من العرب، في بساطة، أن يعيدوا النظر فيما يستطيعون أن يفعلوه وفيما لا يستطيعون أن يفعلوه، فيما يرغبون وفيما لا يرغبون. المسألة تكمن في هذه النقطة: نحن نريد حلولاً جاهزة من غير أن نقدِّم تضحيات – وهنا المشكلة. عندما يقرر العرب أن يقدموا التضحياتِ اللازمةَ – وهي تضحيات ليست فقط اقتصادية، وليست فقط سياسية، وليست فقط عاطفية؛ هي تضحيات على جميع المستويات – ينبغي أن يشترك الجميع في تقديم التضحيات، لا أن يُلقى بالعبء على فئة من فئات المجتمع كي تتحمل عبء العولمة أو عبء أية ظاهرة أخرى غير العولمة. من هنا، إذن، علينا أن نفكر جديًّا في الطريقة التي نستطيع بها تقسيم الأعباء الناجمة عن العولمة؛ وعندئذٍ سنستطيع أن نخرج من هذه الأزمة لكي نكتشف الحلول المناسبة، وأن نتكيف تكيفًا إيجابيًّا، لا تكيفًا سلبيًّا، يكتفي بالسباب والشتيمة على العولمة، بل أن نجد الطريق المناسب الذي يمكِّننا من أن نصبح جزءًا فاعلاً في هذه العولمة، لا مجرد عنصر منفعل بها. ن.م.: د. سلامة، أنت واحد من المفكرين العرب الذين لا يجلسون في "برجهم العاجي"، بل يحاولون تقديم حلول لمشاكلنا، بعيدًا عن التعالي عن الواقع، بل بملامسته. لذا نراك تذهب إلى تخليق علاقة جدلية بين الفكر والواقع، بين النظر العقلي والممارسة... ي.س.: نعم، أنا من الذين يعتقدون أن للفكر وللفلسفة وظيفة؛ وهذه الوظيفة لا توجد أبدًا داخل الفكر نفسه، بل لا بدَّ للفكر من أن يتخارج: أن يخرج خارج نفسه إلى الحقل والميدان، إلى الطبيعة والبيئة، إلى الثقافة والمنتدى والنوادي – وبكلمة واحدة، إلى المجتمع. ومن هنا فقد شاركتُ في سائر التيارات والتيارات التي خصَّصتِ الكثيرَ من جهدها للتأمل في معنى الإصلاح، في دلالاته، سواء كان الإصلاح سياسيًّا أم اقتصاديًّا أم اجتماعيًّا. كل إنسان يظن أن الفلسفة أو الفكر يؤدي رسالتَه إذا كان مجرد فكر معزول، فهو في هذه الحالة يقدم فكرًا صوريًّا فارغًا. الفكر لا بدَّ أن يكون ذا مضمون؛ وهذا المضمون لا يمكن لنا اكتسابُه إلا من التجربة والممارسة. من هنا، بقدر ما تكون أفكارُنا قادرةً على النفاذ إلى صميم الواقع، أي قادرةً على تفكيكه وتغييره بتحطيم البُنى التقليدية التي يستند إليها، يكون هذا الفكر أصيلاً وجدليًّا. ومن هنا أيضًا، أعتقد أنني شخصيًّا، وكذلك غيري من الزملاء والأصدقاء ممَّن ينتهجون مناهج مشابهة أو مماثلة، نسعى جميعًا إلى أن نصبح مندمجين في حركة الواقع، متحدين بها من خلال أفكارنا، فنكيِّف أفكارَنا بقدر ما يتكيف الواقعُ مع أفكارنا. وفي هذه العملية، نحن لن نتنازل عن الفكرة إذا كنَّا نرى أنها حقيقة؛ بل إن على الواقع نفسه أن يرتقي إلى مستوى الحقيقة. فالتكيف، إذن، لا يعني، في حال من الأحوال، قبول الواقع كما هو – وإلا كنَّا مفكرين سلبيين ووضعيين، نأخذ الواقع ونجعل منه سيدًا على الفكر وعلى المجتمع. المطلوب أن يكون الفكر هو المعيار الذي تُقاس عليه حركةُ الواقع ومداه والمسافة التي يستطيع أن يقطعها في تطابُقه مع حقيقة الفكر. العلاقة "الجدلية"، إذن، لا تعني أننا يجب أن نتنازل عما نرى أنه حق من أجل التكيف مع الواقع، بل تعني، في بساطة، أن نضغط على الواقع من أجل أن نرتقي به إلى مستوى الفكرة الحقيقية. هذا هو ما يقود عملي وممارستي في الحياة اليومية، وليس في المجال الفكري فقط. ن.م.: يقال إن جوهر الفلسفة قائم في مقدرتها على وعي العصر وعيًا عقليًّا. كيف ترى واقع الفلسفة العربية في المرحلة الراهنة؟ وما هو الدور الملقى على عاتق الفيلسوف العربي؟ ي.س.: قولكِ صحيح طبعًا – أي أن من مهمات الفلسفة أن تقدم وعيًا عقلانيًّا ومنطقيًّا للعصر، أن تصوغ العصرَ في لغة منطقية، في لغة فلسفية، من خلال تصورات منهجية محددة – هذه واحدة من مهمات الفلسفة طبعًا. لكن من مهمات الفلسفة أيضًا التمرد على منطق العصر، على مقولات العصر التي يمكن لها أن تكون سائدة. والتمرد، هاهنا أيضًا، يجب أن يكون فلسفيًّا، وليس مجرد تمرُّد سياسي. التمرد السياسي مطلوب، والتمرد الاجتماعي مطلوب، لكن ينبغي أن يكون كذلك مؤسَّسًا على تأصيل فلسفي، مستندًا إلى رؤية فلسفية إلى العالم – رؤية جديدة تتجاوز الرؤيةَ السابقة التي يتم التمرد عليها. ولا أدري إن كان من حسن حظِّ الفلسفة أو من سوء حظِّها أن الجديد لا ينفصل فيها عن القديم: فهو يخرج دائمًا من رحم القديم لكي يؤسِّس لنا شيئًا جديدًا. أما عن وضع الفلسفة العربية والفيلسوف العربي، فنحن، في صراحة، نتقدم بخطى بطيئة نحو الفلسفة. نحن أقرب إلى أن نمارس "نشاطًا فلسفيًّا" منَّا إلى امتلاك رؤية فلسفية واحدة وموحدة إلى العالم. مازلنا نكافح من أجل تحقيق الاستقلال الفلسفي وامتلاك رؤية منهجية وعقلية تميِّز الفيلسوفَ العربي، والمثقفَ العربي بصفة عامة. ومع ذلك، ألاحظ في الفترة الأخيرة، من خلال التحليلات التي يقدِّمها الزملاء والإخوة المهتمون بالفلسفة، أن بعضنا على الأقل يسير في هذا الاتجاه، يسير في اتجاه تحقيق نوع من "الاستقلال الفلسفي"، يحاول أن يقدم بعض اللبنات التي يمكن أن تستند إليها الأجيالُ القادمة من أجل تأسيس نظام فلسفي يمكن له أن ينطلق من بيئتنا – ولا أقول "الخصوصية". فالفلسفة، في النهاية، نشاط كلِّي وتفكير عقلي، وإنْ كان هذا لا يعني، على كلِّ حال، أنها ليست مطبوعة بطابع الزمان والمكان – وهذا ما يفسِّر ارتباطها بالعصر. فكونها على ارتباط بالعصر معناه أنها مرتبطة بالزمان وبالتاريخ؛ وكونها مرتبطة بالتاريخ معناه أنها تنطلق من مكان، من بيئة محددة. ومن ثم كانت بيئة الفيلسوف، زمانًا ومكانًا، عنصرًا يظهر دائمًا في سياق التفلسف، في سياق التفكير الفلسفي. من هنا أعود وأقول إن بعض المشتغلين على الفلسفة يكافحون ويناضلون من أجل مدِّ التفكير الفلسفي العربي ببعض المقولات وببعض الأفكار التي من شأنها، إذا ما طُوِّرَتْ في المستقبل واستندتْ إليها الأجيالُ اللاحقة، أن تؤسِّس لنا رؤيةً فلسفية مستقلة. مع ذلك، فإن هذا "النشاط الفلسفي العربي"، إنْ جاز التعبير، يساير العصر، يعلِّق على العصر، لا يكتفي بتقديم هوامش على العصر، بل يحاول أن يعيد صياغة العصر صياغةً عقلانية، كما هي الحال في خصوص كلِّ نشاط فلسفي أصيل. لكن من المؤكد أن في سورية، على الأقل، بعض الأشخاص وبعض أساتذة الفلسفة والمهتمين بالفلسفة يكرسون جُلَّ جهودهم لصياغة مقولات يمكن في المستقبل أن تتأسَّس عليها نظرةٌ فلسفية، منظومة فلسفية، ورؤية إلى العالم يمكن لها أن تنطلق من العصر الذي نحيا فيه. ن.م.: نلاحظ أنك تميل في كتاباتك وتآليفك إلى الإيجاز الشديد والتكثيف في مخاطبتك القارئ، الأمر الذي يجعل قراءةَ نصِّك الفلسفي تتطلب جهدًا قد لا يطيقه إلا بعض المتخصصين. فهل ترى أن ذلك يرتبط بتأثرك بفلاسفة الغرب، وعلى رأسهم هيغل؟ أم أن وظيفة الفلسفة أن تكون كذلك؟ ي.س.: لكلِّ فلسفة صيغتان: هناك صيغة فلسفية منهجية، نَسَقية، تُكتَب في تكثيف شديد؛ وهذه ربما تكون موجهة للفلاسفة وللحوار فيما بين الفلاسفة. وهذا – فعلاً – موجود في كتبي التي نشرتُها؛ وأنا في هذا أصدر عن تاريخ الفلسفة بأكمله. فحتى لو عدتِ إلى النصِّ الفلسفي العربي التقليدي، عند ابن رشد أو عند الفارابي، ستجدين أيضًا أنه موجز ومكثف وقصير. لكن هناك صيغةً مبسطة للفلسفة أيضًا، دعينا نطلق عليها صفةَ "شعبية". هذه الصيغة "الشعبية" هي التي نحاول أن نعبِّر عن أفكارنا من خلالها في وسائل الإعلام؛ إذ إن وسائل الإعلام لا تحتمل الصيغ الفلسفية المكثفة، لأنها موجهة إلى جمهور عريض. ولذلك يصحُّ كلامُكِ على الكتب وعلى بعض المقالات الفلسفية التي نشرتُها، لكنه لا ينطبق على المقالات التي أنشرها في الصحافة وفي وسائل الإعلام، ولا على الأحاديث التي أدلي بها للإذاعة أو التلفزيونات العربية وغيرها. ن.م.: سألتكَ هذا السؤال لأن كثيرين اتَّهموا كتابك الإسلام والتفكير الطوباوي بأنه نصٌّ فلسفي شديد الصعوبة. فما ردك؟ ي.س.: أعتبر من قبيل المديح أن يقال عن نصٍّ لي إنه "نص فلسفي"! لكن أفكاري نفسها الموجودة في الإسلام والتفكير الطوباوي أو في المنطق عند إدموند هسِّرل أو في نظرية السلب عند هيغل وفي كثير من المقالات الفلسفية البحتة، أعبِّر عنها، في كثير من الأحيان، في صيغ مبسَّطة، شبه شعبية، متاحة لأكبر عدد من غير المتخصصين. وعندما أقول "شعبية"، فهذا، مرة أخرى، ليس مدحًا وليس ذمًّا، بل المقصود هو تبسيط هذه الكتابات لغير المتخصصين ليس إلا. ن.م.: تقول في حوار أُجرِيَ معك ما مفاده إن هناك تناقضًا لا شك فيه بين الفيلسوف العربي والسياسي العربي. من أين تنبع العلاقة المتوترة بينهما، في رأيك؟ ي.س.: هناك توتُّر بين المثقف، بصفة عامة، وبين السياسي، أو بين الفيلسوف، بصفة خاصة، وبين السياسي. والتوتر بينهما ناجم، في رأيي، من أن الفيلسوف يعتقد أنه لا مناص للمجتمع من أن يكون مجتمعًا سياسيًّا. ومعنى أن يكون المجتمع "سياسيًّا" هو أن يكون المجتمع ديموقراطيًّا: أن يكون للأفراد – كلِّ الأفراد – الحقُّ – كلُّ الحق – في أن يكونوا شركاء في اتخاذ القرارات الأساسية التي تقرِّر مصيرَ المجتمع لآمادٍ طويلة. وبالتالي، لمَّا كان المجتمع "سياسيًّا"، فهذا يعني أن البشر يعيشون في دولة؛ ومن ثم فلا يستطيع أي فيلسوف أن يتصور الدولة إلا على أنها نتاج للإرادة العامة. والإرادة العامة هي ما يجب أن يتعيَّن من خلال المشاركة السياسية للمواطنين جميعًا. الحاكم العربي حاكم مستبد، لا يقبل أيَّ نوع من المشاركة من قبل البشر كمواطنين. هو يقبل أنواعًا أخرى من المشاركة من الناس: ربما يقبلها منهم باعتبارهم "مستشارين"، وربما يقبلها منهم باعتبارهم ينتمون إلى "الحزب الحاكم"، لكنه لا يقبل مشاركة البشر جميعًا باعتبارهم مواطنين لهم الحق في المشاركة في صياغة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي اتخاذ أهم القرارات المتعلقة بمستقبل الحياة – ومن هنا ينبع هذا التوتر. الفيلسوف لا يستطيع أن يتصور نفسه خارج المجتمع السياسي؛ فيما الحاكم العربي لا يستطيع أن يتصور فكرةَ المجتمع السياسي أصلاً: هو يحكم باعتباره فردًا، باعتباره يعرف الحقيقةَ كلَّها، باعتباره يملك مقاليد الأمور كلَّها في يد واحدة! وإذ ذاك فمن العبث أن يكون هؤلاء المثقفون طرفًا أو جزءًا من هذه العملية السياسية، لأن الحاكم العربي يرى أن مثل هذه المشاركة تُشيع الفوضى في بنية استغرق بناؤها وقتًا طويلاً حتى استتبَّ له الأمرُ فيها على هذا النحو من الأنحاء – كلٌّ من الحكام العرب في البنية التي تخصُّه. ن.م.: تصف في أحاديثك أن الهوية العربية تقليدية، قديمة، وضعيفة. فما السبيل إلى تكوين هوية جديدة وفكر عربي جديد؟ ي.س.: لست من المتحمسين للهوية المغلقة والضعيفة التي تتمترس وتتخندق داخل وهم اسمه "الخصوصية". أن تكون للأمَّة "هوية"، فهذا يعني أن لها مجموعة من الخصائص؛ ولكن أن تكون هذه الخصائص ثابتة ونهائية، فهذا وَهْمٌ أو أسطورة من شأنه أن يحبس الأمة ضمن مجموعة من الأوهام عن نفسها – ومن هنا أقول إن الهوية العربية قديمة وضعيفة. وأنا مازلت آخذ بهذا الرأي لأن هذه الهوية تستمد ماهيتها كلَّها من الماضي؛ ومن ثم فإن هذه الهوية تشد الجميع، بصورة أو بأخرى، إلى نوع من "الأصولية" في المجالات المختلفة. في كلِّ الأحوال، نسأل: متى تكون الهويةُ هويةً حقيقية؟ عندما يكون أصحابُها منخرطين في عملية إغنائها في اللحظة الراهنة بصورة تجعلها منفتحة على المستقبل. أما أن تكون الهوية العربية منحصرة في الماضي، في التقاليد، في اللغة والعادات، وفي العناصر المشتركة التي ولدت قبل سنين خوالٍ، فهذا يجعل الهويةَ فقيرةً، يجعلها قاحلةً، يجعل الهويةَ صوريةً أكثر منها ذات مضمون حي! ومن هنا فحرصي على أن يكون العرب أمَّةً معاصرة، لا أمَّة تنتسب إلى الماضي، هو الذي يجعلني أوجِّه النقد إلى هذه الهوية التي تتخندق في الماضي. المطلوب هو الانفتاح على المستقبل والإنتاج: أن لا نكف، أن لا نتوقف عن إنتاج الهوية. فالهوية لا توجد مرة واحدة وينتهي الأمر. الأشياء فقط هي التي توجد في تطابُق مع نفسها، في هوية واحدة مع نفسها، كأنْ تقولي: "الكرسي هو الكرسي"! فالكرسي لن يصبح مائدة، لن يصبح شيئًا آخر غير كرسي، إلا إذا قام شخصٌ آخر بتغيير هذه الماهية من الخارج، أو طلب أن يستبدل بماهيته قسرًا ماهيةً جديدة. أما الأمَّة، فبما أنها ليست "شيئًا"، من المحال أن تكون، بحالٍ من الأحوال، في تطابُق تام مع نفسها، وإلا كانت أقرب إلى أن تكون "شيئًا"! وأولئك الذين يتغنون بـ"الهوية العربية" يتغنون بشيء منغلق، بشيء ينتسب إلى الماضي، بشيء يجعل الأمَّة أقرب إلى أن تكون "شيئًا" منها إلى أن تكون بنيةً حية، منفتحةً على الحاضر وعلى المستقبل. لذا فأنا من هؤلاء الذين يدْعون إلى إنتاج الهوية إنتاجًا متجددًا، بدلاً من النظر إلى الهوية على أنها شيء ناجز وجاهز، يمكن للمرء أن يذهب إلى السوق ويشتريه. لا توجد في السوق هوية للبيع والشراء! توجد أمَّة تستطيع أن تنتج هوية مطابقة لروح العصر. فإذا كانت الأمَّة مصرَّة على أن تتخندق في هوية عتيقة، عليها أن تعرف أنها ستُخلي، في أقرب وقت، مكانَها من صفحات التاريخ الحيِّ لكي يُفسِح لها المؤرخون مجالاً في صفحات التاريخ الميت! ن.م.: مادامت الفلسفة هي خلاصة الفكر البشري الساعي وراء الكمال، فما أسباب إخفاق الفلسفة العربية في تحقيق ولو مجرد جزء من هذا؟ ي.س.: الفيلسوف يقدِّم المشاريع الاجتماعية والأخلاقية والسياسية للمجتمع، ولكنه ليس هو الذي يحقق هذه المشاريع. ولذلك فإن الفيلسوف يتصور المجتمع باعتباره مجتمعًا سياسيًّا: المجتمع السياسي دولة؛ والمواطَنة والديموقراطية هما اللتان تحققان المشاريع أو تخفقان في تحقيق هذه المشاريع. ومن هنا فالمثقف العربي والفيلسوف العربي لم يقصِّر في تقديم الأفكار: قدَّم دومًا مقترحات، وقدَّم دومًا برامج؛ لكن المشكلة أنه يقدِّم هذه البرامج وتلك المقترحات وتلك الرؤى لمجتمعات لم تتحول بعدُ إلى مجتمعات سياسية. وهذا يعني، بالضرورة، أن أثر الفيلسوف – وأثر المثقف، بصفة عامة – محدود في المجتمعات غير السياسية، لأن المجتمع السياسي، بطبيعة الحال، مجتمع ديموقراطي؛ أما المجتمع غير السياسي فهو مجتمع خاضع للاستبداد، القرار فيه موكول إلى جهة واحدة أو موضوع في يَدٍ واحدة أو في عدد قليل من الأيدي. ومن هنا لا يكون ثمة دور يُذكَر للحكمة التي يدافع عنها الفيلسوف. ن.م.: شبَّهتَ الفلسفة بالشعر. كيف ذلك؟ ي.س.: الفلسفة تشبه الشعر، من حيث إن الفلسفة والشعر كليهما يبحثان عن الأبدي. فالفلسفة، بما هي بحث عن الحقيقة، هي بحث عن الأبدي: لأن الحقيقة، إن استطعنا الوصول إليها، فلا بدَّ أن تكون متسمةً بالأبدية، وإنْ تحوَّلت في الزمان؛ لأنها تظل واحدة، وإنْ تعددتْ تعيُّناتُها وتنوعتْ في الزمان. الشعر أيضًا يبحث عن الأبدي والكلِّي في العاطفة. ومن هنا نجد أن الشعر العظيم هو الشعر الذي يتجاوز الزمان والمكان ويظل معانقًا للخلود، بصورة أو بأخرى. لذلك، عندما نعود إلى النصوص اليونانية الكبرى، مثلاً، نستمتع بها عندما نقرؤها، نستمتع بها عندما تُمثَّل على المسرح، تمامًا وكأننا نقرؤها اليوم، وكأنها كُتِبَتِ اليوم لليوم. ومن هنا هذه العلاقة بين الفلسفة والشعر: كلاهما يبحث عن الأبدي في المتغير. *** *** *** التقتْ به: نسرين مخلوف عن البعث، الأربعاء 08/10/2003 تنضيد: نبيل سلامة
|
|
|