|
جبران والقصَّة
القصيرة جدًّا قصص التائه
نموذجًا على الرغم من أن كتاب التائه[1]
لجبران قد صدر باللغة الإنكليزية في العام 1932،
أي بعد وفاته، إلا أن المرء يمكن له أن يعيد
زمنَ كتابة النصوص التي يتضمنها إلى المرحلة
التي سبقتْ كتابةَ مؤلفاته الأخيرة: النبي
ويسوع ابن الإنسان وآلهة الأرض. ذلك
أن هذه النصوص تبدو شديدة الشبه، من حيث الشكل
والمضمون معًا، بنصوص كتابَي المجنون والسابق
اللذين صدرا في العامين 1918 و1920 على التوالي؛
بل إن شخصية "التائه" التي ابتدعها جبران
ليروي على لسانها القصص والحكايات التي يضمها
هذا الكتاب ما هي في الحقيقة غير تجسيد آخر
لكلٍّ من شخصيتَي "السابق" و"المجنون". وبما
أن جبران في هذا الكتاب قد أعاد صياغة الأفكار
والمقولات التي سبق له أن طرحها في كتبه
السابقة، فإننا سنقتصر هنا على النظر في
البنية الفنية لنصوص الكتاب، في محاولة منا
لتلمُّس الأسُس والملامح التي أسبغتْ عليها
صفتَها الأدبية وأعطتْها خصوصيتَها التي
مكَّنتْها من حمل تلك المفاهيم والرؤى كلها
وجعلتْها صالحةً للقراءة والتذوق حتى يومنا
هذا. أول
ما نلحظه في هذه النصوص قِصَرها الشديد.
فبعضها يتألف من ثلاثة سطور أو أربعة فقط، مثل
نصوص "أحلام" و"التراب الأحمر" و"حب
وبغض"؛ وأغلبها يتراوح بين ستة سطور وخمسة
عشر سطرًا، مثل نصوص "ملابس" و"أغنية
الحب" و"دموع وضحكات" و"في السوق"
و"وميض البرق" و"الأميرتان" و"الراهب
والوحوش" و"اللؤلؤة" و"جسد وروح"
و"على الرمل" وغيرها. أما أطول هذه
النصوص فهو نص "الملك" الذي يبلغ زهاء
خمسين سطرًا. ويعتمد
بناءُ جميع نصوص الكتاب على القصصية؛
بمعنى أنها، وإن كانت موضوعة من أجل توصيل
فكرة أو قول رأي أو صياغة حكمة، فإنها لا تقول
ذلك بطريقة الوعظ المباشر أو المقالة أو
الخاطرة، وإنما يقوم كل نصٍّ منها على بنية
قصصية ذات حدث محوري يتم بين شخصيات قد تكون
بشرية، مثل أبطال نصوص "أغنية الحب" و"في
السوق" و"الأميرتان" و"وميض البرق"
و"النبي والغلام" و"جسد وروح" و"الملك"
و"الهدايا الثلاث" وغيرها. وقد تكون
شخصيات القصة من الحيوانات، على طريقة حكايات
كليلة ودمنة، مثل نصوص "النسر والقبرة"
و"دموع وضحكات" و"اللؤلؤة" و"السلم
والحرب" و"الضفادع" و"البدر الكامل"
وغيرها؛ كما قد تكون هذه الشخصيات من
النباتات وغيرها من الموجودات أيضًا، مثل
نصوص "التراب الأحمر" و"السلم يعدي"
و"الظل" و"النهر" وغيرها. وفي عدد من
النصوص الأخرى، يلجأ جبران إلى تجسيد بعض
المفاهيم المعنوية أو تشخيصها وجعلها
تتحرك وتتحدث وتتصارع لتلعب دورها كشخصيات في
القصة التي يبني عليها النص، كما فعل بالجمال
والقبح في نص "ملابس"، إذ رسمهما كشابين
يتلاقيان على شاطئ النهر ويتحدثان ويرتدي كل
منهما ملابس الآخر، وكما فعل أيضًا بالسرور
والحزن حين جسَّدهما كرجلين يجلسان على مقربة
من المياه المطمئنة ويتطارحان الأحاديث في
نصٍّ عنوانه "الصيادان". ولا
بدَّ من ملاحظة خصيصة أخرى من خصائص هذه
النصوص، تتجلَّى فيما يمكن لنا أن نسميه وحدة
الموضوع والغرض. فكل نصٍّ مبني في الأصل من
أجل توصيل فكرة أو مقولة واحدة ومحددة؛ وجميع
عناصر النص موظفة توظيفًا دقيقًا من أجل أن
تلعب دورها اللازم في تهيئة النص لقول هذه
الفكرة دون أية إضافات يمكن أن تحجبها أو أن
تتداخل معها أو تشوشها. وهذه الفكرة هي التي
يقولها النص صراحةً في نهايته، أو تواجه
القارئ كنتيجة حتمية تقتضيها سيرورةُ النص،
بحدثه وشخصياته ولغته. فغرض نص "ملابس"
مثلاً هو القول: "إن هناك نفرًا ممن يتفرسون
في وجه الجمال، ويعرفونه رغم ثيابه. وثمة نفر
يعرفون وجه القبح، والثوب الذي يلبسه لا
يخفيه عن أعينهم." (ص 398) وغرض نص "على
الرمل" أن الإنسان ما هو سوى "قطرة من
الأوقيانوس الكبير" (ص 411) الذي يمثل الوجود
المحض أو الذات الخالدة الشاملة. وغرض نص
"السلم والحرب" أن يحذرنا جبران من "المدنية
التي تتعقبنا" (ص 413). وغرض نص "المسألة"
أن يقول إن "عين الصبا" و"سر الموت"
هما في الحقيقة شيء واحد (ص 437). وهكذا دواليك. ولا
شك في أن وحدة الموضوع والغرض تستلزم خصيصةً
أخرى شديدة الأهمية من الخصائص التي يمكن
ملاحظتها في هذه النصوص، تتجلَّى في الاقتصاد
والتكثيف. فجبران في هذه النصوص يعمد إلى
تكثيف عناصر القصة إلى الحد الذي يكفي لأداء
الغرض منها: فهو يقتصد كثيرًا في رسم
الشخصيات، فلا يسهب في وصفها، إنما يقتصر على
الصفة اللازمة لبناء الحدث. فيقول عن أمير
مدينة "شواكيس"، مثلاً، إنه محبوب من
الناس كلهم، وحتى من البهائم، وذلك ليُظهِر
المفارقةَ الكامنةَ في عدم حب زوجته له (ص
402-403). ويصف الراهب بأنه نقي الروح، أبيض
القلب، ليبرر لنا إصغاء الوحوش والطيور
لحديثه عن الحب، مع أنه يعيش في الحقيقة دون
رفيقة حياة تمنحه الحب والألفة (ص 404). وفي نص
"جسد وروح" لا نعرف من صفات الرجل سوى ما
تقوله المرأة له من أنه جميل وغني وعلى جانب
كبير من الجاذبية؛ وما ذلك إلا لأن هذه الصفات
تمثل رؤية المرأة له لأنها لا ترى فيه سوى
صفاته الجسدية المادية (ص 407). ومع ذلك، فإن
غالبية النصوص تكاد أن تخلو من أي وصف
لأبطالها الذين يقدمهم جبران مباشرة ككائنات
مطلقة، غير معرَّف بها، لا تحمل صفاتٍ خاصةً
تميزها عن غيرها. كأن يقول: "قال رجل لآخر"،
أو "نظم شاعر مرة أغنية حب"، أو "قالت
شجرة"، أو "رأى رجل حلمًا في نومه"، أو
"لقي مسافر على طريق زاآد رجلاً"، وهكذا. وبالإضافة
إلى الاقتصاد في رسم ملامح الشخصيات، فإن التكثيف
يشمل الحدث نفسه أيضًا. فيبدو جبران غير
معنيٍّ بالتفاصيل والشروح التي تمهد للحبكة
أو العقدة، كما هو مألوف في القصص العادية،
وإنما يضعنا في هذه النصوص مباشرة في قلب
الحدث الذي يوصل إلى استنتاج الغرض من النص.
ففي نص "وميض البرق"، مثلاً، لا يحدثا
جبران عن المرأة ولا عن خطاياها التي جعلتْها
تقرر اللجوء إلى الكنيسة طلبًا للخلاص، على
الرغم من كونها غير مسيحية، كما لا يحدثنا عن
الأسقف ومدى إيمانه وإخلاصه أو أهليته لمنح
الطمأنينة للآخرين، ولكنه يقدِّم لنا الحدث
في ذروته التي تتمثل بانقضاض الصاعقة من
السماء على الكنيسة في الوقت الذي كان الأسقف
يؤكد للمرأة أن "ليس ثمة من خلاص إلا لأولئك
الذين تعمدوا بالماء والروح" (ص 403). لماذا؟
لأن ذلك يكفي ليجعلنا نرى الأسقف يحترق بينما
تحصل المرأة على الخلاص – وهو ما يجسد
المقولةَ التي أراد جبران توصيلها من خلال
هذا النص. ويبدو
جبران غير مهتم بعنصرَي الزمان والمكان. فهو
يتركهما مطلقين وغير محددين، ولا يطلق عليهما
من الصفات إلا ما هو ضروري لإقامة الحدث، كأن
يقول: "ذات يوم عاصف"، أو "في يوم من
أيام الصيف"، "كان في مدينة بشرِّي مرة
أمير"، "لقي مسافر على طريق زاآد رجلاً".
ولا شك في أن ذلك يخدم هدف جبران في التأكيد
على الطبيعة العامة والمطلقة لأفكاره
ومقولاته التي لا ترتبط بزمان ومكان. ولا
يقتصر التكثيف على الاقتصاد في عناصر القصة
وحسب، بل يتجلَّى أساسًا في تكثيف لغة السرد
نفسها، التي تبدو ألفاظُها مختارةً في عناية
وموظفةً توظيفًا دقيقًا لتوصيل المعنى بأقصر
السبل وأسهلها. لذلك تخلو لغة النصوص من أية
كلمة زائدة أو عبارة مجانية، ما يعطي النسيج
اللغوي متانةً وقوةً تزيد من تركيز المتلقي
على البؤرة المركزية للنص. وإذا
حاولنا البحث في التقنيات التي استخدمها
جبران في بناء نصوصه في هذا الكتاب، سنجد أنه
استطاع توظيف عدد من التقنيات الفنية في خبرة
وبراعة لا تتأتيان إلا لكاتب يدرك تمامًا
أبعاد عمله الإبداعي. ومن هذه التقنيات
اللجوء إلى تجسيم المفارقة: كأن يجعل
الجمال يرتدي ملابس القبح، والقبح يرتدي
ملابس الجمال. كما يستخدم المفارقة بطريقة
أخرى ليُظهِر التناقض الحادَّ بين رؤيتين
مختلفتين إلى الحياة والحب، حين يجعل الرجل
يقول: "أنا أحبكِ. أنتِ فكرة جميلة، بل أنتِ
شيء تسامى عن أن تناله يد"، في الوقت الذي
تقول فيه المرأة: "أنا أحبكَ، أنت جميل وغني
[...]. أنا امرأة، وأود أن تشتاق إليَّ، أن
تشتهيني. أنا زوجة وأم لأطفال لم يولدوا بعد."
(ص 407) ومن
التقنيات الأخرى التي يعتمدها جبران في هذه
النصوص توظيفه للرمز؛ ولكنه هنا الرمز
الشفيف الذي لا يضرب سترًا من الضباب أو
الغموض حول المعنى الأصل، بل يزيده وضوحًا
ويعمق من دلالاته. فحين يقول السرطان للمحارة:
"ولكن الألم الذي تحمله جارتك في داخلها
إنما هو لؤلؤة ذات جمال لا حدَّ له" (ص 406)،
فإنه يستخدم اللؤلؤة كرمز للسمو والمجد
والجمال ليجدد صياغته للفكرة الرومانسية
التي سبق له أن طَرَحَها في كتاباته السابقة
حول تمجيد الألم، لأنه طريق إلى المعرفة
والتطهر والوصول إلى تحقيق الذات العظمى. ففي
كتابه رمل وزبد[2]،
مثلاً، يقول: "للرجل العظيم قلبان: قلب
يتألم وقلب يتأمل." (ص 196) ويقول: "الدرة
هيكل بناه الألم حول حبة رمل." (ص 153) كما
يقول: "لا يُظهِر الحق الذي فيك إلا الألم
العظيم أو الفرح العظيم." (ص 169) كما
يستخدم جبران تقنية التناص لبناء بعض
نصوصه، مثل نص "دموع وضحكات"؛ إذ نجده
يوظف المَثَلين المعروفين عن "دموع
التماسيح" و"ضحك الضبع" ليُظهِر خطأ
الانجرار وراء المقولات الجاهزة الشائعة
التي غالبًا ما تعمل على طمس الحقيقة (ص 401).
ويلجأ جبران أيضًا إلى تقنيات أخرى، مثل أنسنة
المفاهيم المعنوية وتجسيدها ومحاكاة قصص كليلة
ودمنة وحكايات إيسوپ في توظيف
الحيوانات كأبطال لقصصه، لما يقدمه ذلك من
قدرة على الإيحاء بالمعنى ومن سلاسة ومتعة في
تلقِّيه. وإذا
كان بعض الدارسين يعتبرون السخرية تقنيةً
من تقنيات الكتابة القصصية، فإن جبران يبدو
مولعًا بها وماهرًا في أدائها. ولا تقتصر
السخريةُ عنده على إعلان موقفه من الملوك أو
رجال الدين أو الفلاسفة أو غيرهم، وإنما
تتعدى ذلك لتشمل طريقته في رسم الشخصيات،
وبناء الحدث، وصياغة الحوار، وإظهار
المفارقات، واستخدام اللغة – ما يجعل
السخرية تنضح من غالبية نصوص هذا الكتاب. وفي
الحقيقة، فإن تأمل خصائص البناء الفني
والتقنيات الأسلوبية التي استخدمها جبران في
نصوص كتاب التائه وفي عدد من نصوصه
القصصية القصيرة الأخرى المبثوثة في كتبه
السابقة، ولاسيما في المجنون والسابق
ودمعة وابتسامة والعواصف وغيرها،
تجعلنا نتوقف قليلاً لنجري مقارنةً بينها
وبين الخصائص والتقنيات التي تميِّز "القصة
القصيرة جدًّا" عند أصحاب هذا المصطلح الذي
شاع الترويجُ له في هذه الأيام. ذلك أن هذه
المقارنة ستقودنا إلى إدراك أن هذا المصطلح
لا ينطبق على شيء قدر انطباقه على نصوص جبران
هذه. ولذلك يطيب لي أن أدعو المهتمين بهذا
المصطلح والذين يُجهِدون أنفسهم للتأريخ
لبدايات ظهور الـ"ق.ق.ج."، دون أن تسعفهم
ذاكرتُهم أو ثقافتُهم بالعودة إلى ما قبل عقد
السبعينيات من القرن العشرين، والذين
يجشِّمون أنفسهم عناء خوض المعارك لإثبات
ريادتهم في هذا المجال – أدعو هؤلاء جميعًا
إلى إعادة قراءة جبران خليل جبران! *** *** *** تنضيد:
دارين أحمد |
|
|