ذاكرة الباطن

 

أكرم أنطاكي

 

الفصل الخامس عشر

موت المعلِّم

(1983-1987)

 

"... جميع الأشياء رموز في النهاية..."

أوزفالد فيرث

 

"... أن تنتحب، أن تبكي، أن تصلِّي، هذا فعل جبان

تابع السير على درب الواجب الطويل والثقيل

ذلك الدرب الذي ناداك إليه القدر

ثم افعل مثلي: كابِدِ الألم، ومُتْ وأنت صامت..."

ألفريد دُهْ فينيي، من قصيدة "موت الذئب"

 

طائر الليل: لأن "كل ما في حياتنا هو محصِّلة لما سَبَقَه..." – أليس هذا ما قلتَه لي ذات يوم، يا معلِّمي؟

1

-       كنتَ ملكًا في تلك الأيام، يا أكرم، وكانت عندك في المكتب ثلاث سكرتيرات.

-       لا، كانت تساعدني سكرتيرة واحدة فقط، وكان اسمها أُنْس ي. أما الاثنتان الأخريان اللتان تقصدهما، فكانتا ضاربة الآلة الكاتبة سعاد م. ومترجمة اللغة الإنكليزية ريعان م.

-       كانت ريعان سمراء وجميلة جدًّا، وكان جميع زوار مكتبك معجبين بها، كما كانت ترمقك دائمًا بنظرات الإعجاب.

-       كانت ريعان جميلة فعلاً! وقد تزوجت الآن، وصار عندها أربعة أولاد. وكذلك سعاد تزوجت، وأصبح عندها الكثير من الأولاد. أما أنس، فكل ما أعرف عنها اليوم أنها هاجرت إلى كندا.

-       وكنت تجتمع كلَّ يوم صباحًا، قبيل مباشرة العمل، مع أصدقائك المهندسين الذين اعتادوا المرور إلى مكتبك، فتشربون القهوة، تتحدثون في السياسة، وتدسُّون على الحكومة!

-       فعلاً... وكنَّا لا نرحم أحدًا، وخاصة إنْ كان من أهل السلطة. لكن، كي يبقى فهم بعض ما نقوله محصورًا بيننا، اخترعنا، على سبيل المثال، اسمًا جديدًا وطريفًا لرأس الهرم الذي كنا نلقِّبه بـ"تيسير"، كما اخترعنا أسماء أخرى لجميع المسؤولين الآخرين.

-       وهل تتذكر ذلك اليوم، حين قدمتَ صباحًا إلى مكتبك، فوجدتَ معلقةً على الجدار خلف المكتب صورةً ضخمة لـ"تيسير" كان وَضَعَها قبل أن تأتي المراقبُ أبو دياب؟

-       وأتذكر أيضًا كيف أني لم أدع الأمور تبرد، حيث انطلقتُ مباشرة برفقة أبو دياب إلى خارج المكتب لأطلب منه أن ينزع هذه الصورة مباشرة من فوق مكتبي ويضعها في قاعة الاجتماعات – وإلا أريته نجوم الظهيرة!

-       لكن، ألم تخفْ أن يعرِّضك هذا الفعل للاعتقال والمساءلة؟!

-       بلى، خفت قليلاً... ولكن لم يحدث شيء، لأني تصرفت بسرعة، أولاً، ولأنه – وهذا ما تأكدت منه بعدئذٍ – لم يكن أحدٌ في المكتب واشيًا، ثانيًا.

وأتفكر بأني أتذكر في صعوبة حاليًّا ما كان يجري معي، ومن حولي، في تلك الأيام التي، حين أتفكر بها، أشعر بأنها كانت كالحلم: حلم كان بعضه، ومازال في نظري، جميلاً جدًّا، بينما كان بعضه الآخر مضطربًا، كئيبًا، وحزينًا.

وأنا لا أتحدث هنا عن السياسة عمومًا، وإن لم تكن هذه الأخيرة غائبة قطعًا، بل أتحدث عن سياق حياة ضمن ظروف كانت الأغنى التي خبرتُها من جميع النواحي، الشخصي منها والمهني، الفكري منها والروحي، وحتى السياسي. وأتذكر...

2

أنه، في ذلك الحين، كان صراعٌ على السلطة في البلد، إن لم نقل كان اضطرابٌ في قمة الهرم: فقد كان الرئيس حافظ الأسد غائبًا عن الواجهة منذ فترة، وسط شائعات كانت جميعًا تؤكد أنه مريض جدًّا. وكانت المظاهر كلها تشير إلى أن شقيقه رفعت، الشخص الثاني في قمة الهرم، كان يدعِّم مواقعَه الميدانية من خلال "سرايا الدفاع"، في محاولة واضحة للاستيلاء على السلطة في حال وفاة الرئيس. ثم كان أن عاد حافظ الأسد إلى الواجهة من جديد، وبدأ يظهر وكأن الأمور بدأت تتغير لغير صالح رفعت الذي بدأت سلطاتُه تتقلص. ففي آذار 1984، كان تعيين الثلاثي رفعت الأسد وعبد الحليم خدام وزهير مشارقة نوابًا لرئيس الجمهورية. ثم، كنتيجة لهذا التقليص في سلطات رفعت الأسد، الذي لم يعد نظريًّا مسؤولاً عن "سرايا الدفاع"، بدأنا نشاهد في دمشق تحركاتٍ عسكرية، بعضها له علاقة بـ"السرايا" وبعضها الآخر لا علاقة له بها – مناظر مؤذية لأعين المواطن العادي المسالم: عسكر يهلِّل ويهتف بلا مناسبة في شوارع البلد وهو يلوِّح بأسلحته ويرفع صور الرئيس على آلياته، من جهة، وعسكر آخر يهلِّل ويهتف أيضًا، للمناسبة نفسها، ويرفع صور الرئيس مقرونةً بصور شقيقه رفعت أو غالبًا صور رفعت وحده، من جهة أخرى. وكانت هذه التحركات مركزةً في شكل خاص حول مباني الأركان العامة والإذاعة و/أو في منطقة المعرض القريبة منها، حيث انتشرت "القوات الخاصة" التي كانت بقيادة علي حيدر.

وأسأل زميلي (البعثي) في العمل المهندس محمد يونس (رحمتْه الآلهة) عما كان يجري، فيجيبني، بعد تردُّد، بأن كلَّ شيء تحت السيطرة، وبأن الرئيس بخير (نشكر الله).

ثم سمعنا، في أيار 1984، على ما أذكر، كجميع الآخرين من مواطني هذا البلد الذين لا حول لهم ولا قوة، ما أذيع وتناقلتْه وكالاتُ الأنباء أن رفعت الأسد وجميع معارضيه غادروا البلاد في "مهمة مفتوحة" إلى الاتحاد السوفيتي "الصديق". ومع هذا "الوفد" الضخم، كما علمنا، كان هناك للـ"ديكور"، على الطريقة السورية طبعًا، صديقنا وزير المواصلات آنذاك المهندس عمر السباعي (أبو محمد رحمتْه الآلهة أيضًا). ثم سمعنا بعد ذلك أن "الوفد" عاد كله من المهمة التي أوكلت إليه – ماعدا... رفعت الأسد وعدد من أنصاره الذين بقوا خارج البلاد ليتابعوا أمورًا أخرى...

في سهرة كانت تضمنا وإياه، سأل هاشم أبو محمد ممازحًا:

-       حدِّثْنا عما جرى معك، يا عمر، وكيف كانت رحلتك الأخيرة إلى روسيا مع الشباب؟

فضحك أبو محمد في خجل، وأجاب بلكنته الحلبية الثقيلة:

-       كنت مع شلَّة مجانين، خاي، شلة مجانين حقًّا...

-       وكيف هذا، يا أبو محمد؟

-       تصوروا، يا شباب، تصور خيِّي هاشم، تصور خيِّي أكرم، أن أولئك الذين كانت مدافعهم موجهةً إلى بعضهم بعضًا قبل أيام من مغادرتنا، أولئك الذين كادوا، لو انفجر الخلافُ بينهم، أن يدمروا البلد على رؤوس أهله من خلال صراعهم على الكرسي، أمضوا الرحلة في الطائرة وهم يلعبون الورق ويضحكون ويتبادلون النكات البذيئة فيما بينهم، وكأن شيئًا لم يكن! وكانت أيضًا أمور أخرى كثيرة...

فيسأله هاشم مستفزًّا:

-       مثل ماذا، يا عمر؟

-       تصوروا أنه في الليلة التي تلت وصولنا، في فندق اللجنة المركزية في موسكو حيث استضافونا، استدعاني رفعت ليطلب منِّي مرافقتَه إلى اجتماع هامٍّ سيعقده في الليلة نفسها مع قيادة الـ ك.ج.ب.[1]

-       وهل ذهبت معه؟

-       وهل كان في إمكاني ألا أذهب؟!

-       وماذا حصل في ذلك الاجتماع؟

-       لن أحدثكم عن هذا... لكنهم مجانين حقًّا، يا هاشم، مجانين حقًّا... الله يستر البلد!

وأتذكر تلك السهرات التي كنا نعقدها في تلك الأيام بين الحين والحين مع شلتنا من "المهندسين الشباب" (الذين بدؤوا يشيخون!) التي اتسعت قليلاً. وقد بات يحضر جلساتِها أيضًا كلٌّ من هاشم، الذي أصبح حضورُه معنا شبه دائم، وأبو محمد، الذي بات يحضر أحيانًا، على الرغم من مشاغله في الوزارة وفي الحزب.

3

حينذاك، باع هاشم منزلَه الفخم عند حديقة السبكي، واشترى بدلاً منه، وإنْ في منطقة قريبة (حي المالكي)، منزلاً آخر أصغر في الطابق الرابع من بناء عالٍ بلا مصعد. وأسأله:

-       أليس صعود درج كهذا كلَّ يوم مُضِرًّا بقلبك، يا أبا الخير؟

فيبتسم في حزن ويجيبني:

-       أحرص على صعود الدرج على مهلي، مما يجعل الأمر تمرينًا لقلبي...

ويضيف:

-       لقد كنت في حاجة إلى بعض المال كي أدعم موقفي في هذا التعهُّد الصغير الذي أخذته من "مؤسسة عين الفيجة" والذي أتسلى به الآن.

-       وهل "تتسلى" به حقًّا، يا أبو الخير؟

-       لا، يا أكرم. لقد أضحى العمل في هذا البلد عامةً، ومع الدولة والقطاع العام خاصةً، كارثةً بكلِّ ما في الكلمة من معنى. فالفساد مستشرٍ، والغالبية العظمى من الموظفين تريد أن ترتشي. وهذا ما يتعبني أكثر بكثير من صعود الدرج!

لأنه، خارج نطاق سهراتنا، غالبًا ما كان هاشم يمر ويتفقدني في ورشة المستشفى التعليمي، التي كانت بدأت تتقدم تقدمًا جيدًا، فأُطلِعه على ما كنا نواجه من مصاعب، كما أُطلِعه، أيضًا وخاصةً، على تقدُّم العمل، وكأننا مازلنا نعيش معًا تلك الأيام الجميلة حين كنا نعمل سوية. وكان دائمًا يوجهني بملاحظاته وإرشاداته التي كانت دائمًا صائبة.

فيشير، مثلاً، ونحن نتدرج معًا في الموقع، إلى أحد الأعمدة الذي تم صبُّه حديثًا، وكانت فيه بعض التخرشات، ويقول لي:

-       ربما من الأفضل لو أمرتَ بتكسير هذا العامود وإعادة صبِّه من جديد... لأنه يجب ألا تتساهل مع أيِّ خطأ في التنفيذ... يجب ألا تتساهل... ليس فقط لأن ثمن المستشفى مرتفع، بمعنى أنهم قابضون حقَّهم وزيادة، بل، أيضًا وخاصة، لأن القضية قضية مبدأ، كما تعلم، ولأن كل منشأة هندسية هي في النهاية عمل فني. وهنا تكمن مسؤوليتنا الفنية والأخلاقية...

-       تصور، يا أبو الخير – وهذه مشكلة نواجهها الآن في هذه المرحلة من التصميم والتنفيذ – أن واجهة هذا المبنى، الذي قيمة عقده 100 مليون دولار تقريبًا، هي مجرد رشة إسمنتية تيرولية حسب المواصفات العقدية!

-       هذا لا يجوز! لكن بماذا تفكرون أن تستبدلوا بها؟

-       صديقنا المهندس زياد الجابري اقترح أن نطالب بواجهة من البحص المغسول washed aggregates، مما سيجعلها مميَّزة، لا بل فريدة من نوعها في البلد.

-       اقتراح جيد جدًا... تابعوه بلا تردد. أما ما سيترتب عنه من زيادة في الكلفة، فبوسعكم أن تقايضوا عليه خلال المفاوضات التي ستجري مع الألمان في نهاية المشروع.

-       أمرك، يا معلم!

-       الآن، وهنا في هذا الموقع، إياك أن تنسى أنك أصبحت أنت "المعلم"، يا أكرم... لكن دعنا من هذا كلِّه، وأخبرني كيف حال والدك؟

-       وضعه من سيء إلى أسوأ، يا أبو الخير. إنه السرطان في مرحلته الأخيرة، وآلامه مرعبة، كما أنه لا يرحم.

-       أعرف هذا... لذلك دعك من أيِّ شيء آخر، دعك حتى من العمل أحيانًا، وابقَ إلى جانبه قدر المستطاع، وخاصةً في هذه اللحظات الأخيرة، لأنه في أمسِّ الحاجة إليك، وخبِّرني في حال احتجتم إلى أيِّ شيء و/أو حدث معكم أي طارئ.

4

وأتذكر أنه حينذاك كان بدأ العد العكسي في حياة أريستيدي هذه. فقد كان والدي يعيش أيام مرضه الأخيرة. وهذه كانت قاسية جدًّا، بالنسبة له كما بالنسبة لنا. فالأدوية لم تعد تجديه نفعًا، خاصة وأنها أصبحت في مجملها في النهاية مجرد مسكِّنات من مشتقات المورفين.

آخر ما في الأمر، وقبيل أن نأخذه للمرة الأخيرة إلى المستشفى، طلب طبيبُه صورًا شعاعية لمنطقة المثانة. حملته بسيارتي، حيث كان يكاد لا يستطيع السير وهو متكئ علي. أخذنا الصور المطلوبة وأعدته إلى المنزل.

-       وفقك الله، يا أكرم، وفقك الله، يا ابني!

هذا ما قاله لي باكيًا، وأنا أعيده إلى فراشه. فأجبته، وأنا أحاول إخفاء دموعي:

-       ولو يا بابا! هذا أقل ما يمكن أن أفعله من أجلك. المهم الآن هو أن تستعيد صحتك.

فأجابني، وهو يحاول الابتسام من خلال دموعه:

-       أنا انتهيت، يا أكرم... فلا تحاول مراعاة مشاعري، يا غشاش! المهم الآن أنت وعائلتك وروزين وريما... المهم أنتم... فانتبهوا لأنفسكم.

هذه المرة، حين أخذناه في اليوم التالي إلى المستشفى الفرنسي بعد أن تفاقمت آلامُه إلى حدٍّ لا يطاق، لم يَطُلْ مكوثُنا هناك إلا سويعات قليلة، لأنه سرعان ما أخبرتنا رئيسة الممرضات، الأخت جوزيف، كما أكد لنا طبيبه من بعدُ، أن:

-       رأينا هو أن تعيدوه إلى المنزل... فهو قد لا يكمل هذه الليلة.

أعدناه، أمي وأنا، إلى المنزل، وقلوبنا تقطر ألمًا. وأتذكر أني حاولت أن أمازحه ونحن في طريقنا عائدين، فقلت له:

-       انظر إلى فتيات دمشق، ما أجملهن يا بابا! انظر وتأمل... ألا تحن إلى أيام شبابك؟

وأتذكر كيف أنه حاول أن يجاريني في المزاح، لكنه لم يستطع. أما وجه والدتي روزين فقد أصبح قاسيًا كالحجر.

في اليوم الذي تلا، وجدتُني متوجهًا إلى منزل الأهل منذ الصباح الباكر، حتى قبل الذهاب إلى عملي. فتحت لي روزين الباب قبل أن أضغط على الجرس، وكأنها كانت تنتظرني، وقالت لي:

-       لقد توفي والدك قبل عشر دقائق، يا أكرم!

فضممتها إلي، وانضمت إلينا شقيقتي ريما، وجلسنا على الأريكة المواجهة لسريره نبكي معًا.

ثم كانت مراسمُ دفنه، التي تابعتها بنفسي، بسيطةً ومتواضعة، على الرغم من أن الحضور كان كبيرًا. كانت بسيطة ومتواضعة لأن هذه كانت إمكاناتنا، ولأنه كان هو نفسه بسيطًا، طيب القلب، متواضعًا. وأتفكر، وأنا ألقي النظرة الأخيرة على نعشه وهو يوارى الثرى، أنه هكذا انتهى آخر "الأخوة من أبناء لطف الله أنطاكي". فطويت معه هذه الصفحة قبل الأخيرة من قصة هذه العائلة الصغيرة التي هي عائلتي. كما...

5

طويت أيضًا اليوم، بشكل كامل ونهائي، علاقتي بالحزب الشيوعي السوري الذي رافقتُه إبان ما يقارب العشرين عامًا – هذا الحزب الفاقد روحَه من زمان والممزق – كان ولم يزل – بصراعاته الداخلية التي لا تنتهي. وأتذكر أنه في تلك الأيام كان الحزب قد بدأ يهيِّئ لمؤتمره السادس، مما أدى إلى عودة الصراعات المستحكمة، لتستعر في صفوفه من جديد، بين خالد بكداش وأنصاره، من جهة، ويوسف فيصل وأنصاره، من جهة أخرى – تلك الأزمة التي مازلت أتذكر حيثياتِها جيدًا، لأنه، بحكم علاقتي آنذاك بالأوساط القيادية من جماعة بكداش، كان الكثير من الاجتماعات "التكتلية" لهذا لطرف، وكذلك قرارات تلك الاجتماعات غير الرسمية، يتم في منزلي.

وأتذكر أنه في حزيران 1984 كانت رسالة إلى منظمات الحزب تطلب ملاحظاتها حول النظام الداخلي؛ ثم تلتْها موضوعات اللجنة المركزية في تشرين الثاني 1985؛ فإقرار اللجنة المركزية في آذار 1985 للائحة انتخابية تعطي "الرفاق العمال" حقَّ التمثيل المضاعف (وهو إجراء تم تبنِّيه منذ أيام الأزمة الأولى التي أدت إلى انشقاق رياض الترك وجماعته).

ثم باشرت اللجان المنطقية تقديم تقارير عن أعداد منظماتها. وكما كان متوقعًا، كان كل طرف يقدم تقاريرَ مبالغًا بها عن عدد الرفاق والمنظمات التابعة له. لذلك، ولتدعيم مواقعهم الحزبية، اقترحتْ جماعة أبو عمار يومذاك، على ما أذكر، اعتماد نظام البطاقة الحزبية. فالحزب مكشوف، ولا ضير من منظورهم من كشف الأوراق. وقد رفضت جماعة يوسف حينذاك هذا الاقتراح لأسباب أمنية. والنتيجة كانت ما حَسَمَه المكتبُ السياسي، القاضي بقبول نتائج الإحصاءات التي قدَّمتْها جميع المنظمات من دون أي تدقيق!

ثم كان كونفرنس منظمة الحزب في الاتحاد السوفييتي حيث، وفق سيناريو بات كلاسيكيًّا، أسقطتْ جماعةُ أبو عمار مندوبًا ليوسف، مما أدى إلى انشقاق المنظمة وتدخُّل المكتب السياسي الذي قام بتعيين مندوبين إضافيين مؤيدين ليوسف، كان أحدهما ابن دانيال نعمة.

بعد هذا، جرت، من دون مشاكل تُذكَر، الانتخابات في 12 لجنة منطقية، تم فيها الاتفاق على قوائم تسوية عكست، إلى حدٍّ ما، نسبة القوى الحقيقية في هذه المنظمات وفي القيادة. ثم كان كونفرنس مدينة دمشق...

ولدمشق أهمية خاصة، إن لم نقل أساسية، في انتخابات الحزب الشيوعي. فهي المنظمة الأكبر والأهم التي تقرر مصير مؤتمر الحزب لصالح هذا الفريق أو ذاك. ويوسف فيصل وجماعته، الأضعف على ما يبدو على صعيد القواعد، كانوا يسعون فيها إلى قائمة تسوية. وقد توصلوا إلى هذا نظريًّا مع الطرف الآخر. لكن جماعة خالد كانوا مصممين على توجيه ضربة، ولو محدودة، إلى يوسف وعلى حسم الأمور لصالحهم.

وقد اتُّخِذَ القرار بهذا التوجه المغاير لما تم الاتفاق عليه في منزلي. فزوجتي منى كانت حينذاك مندوبة إلى مؤتمر دمشق، والكثير من الاجتماعات التحضيرية لقيادة جماعة خالد، كما سبق وأشرت، كانت تُعقَد عندي في دمَّر؛ وبالتالي، فإني مازلت أذكر جيدًا إلى الآن كيف، في ليلة ذلك الكونفرنس العظيم، بقينا أبو محمد وخلوف قطان وأنا، حتى ساعة متأخرة من الليل، ننتظر منى التي أعادها إلى المنزل الرفيقان عمار بكداش وقدري جميل اللذان أبلغانا تفاصيل ما جرى، وكنا نعرفه مبدئيًّا.

وما حصل كان أن أسقط طرف أبو عمار في هذا الكونفرنس سبعة من جماعة يوسف، من بينهم ثلاثة من أعضاء اللجنة المركزية، فأطلقوا بذلك الشرارة التي أدت إلى انشقاق الحزب الشيوعي السوري – للمرة الثالثة خلال عقد ونصف.

فما تلا كان أن رفض يوسف فيصل هذه النتيجة طبعًا، وحمَّل خالد بكداش مسؤولية ما جرى، وطالب بتأمين مناصفة أعضاء المؤتمر السادس من خلال الاتفاق المسبَّق على أسماء جميع أعضاء هيئات الحزب القيادية.

وقد رفض خالد بكداش وجماعته، طبعًا، هذا الاقتراح، وتمسكوا بنتائج كونفرنس دمشق الذي أصبح يؤمِّن لهم الأغلبية في المؤتمر القادم، – الموحَّد، – إنْ عُقِد، وسارعوا إلى تثبيت هذه النتائج بالدعوة إلى كونفرنس منظمة الحزب في حلب، حيث كانت لهم أيضًا الأغلبية.

وتصاعدت المعركة، وتدخَّل "الرفاق الكبار" الذين فرضوا على الطرفين، برعايتهم، في تشرين الثاني 1985، تسويةً تنص على:

-       تثبيت نتائج جميع الكونفرنسات الحزبية التي عُقِدَتْ حتى تاريخه (بند يمكن اعتباره لصالح جماعة خالد).

-       تأجيل عقد المؤتمر حتى آذار 1986 (بند متوازن، يمكن للطرفين أن يستفيدا منه).

-       اعتبار جميع أعضاء اللجنة المركزية مندوبين للمؤتمر (بند لصالح يوسف وجماعته).

-       تؤخذ جميع القرارات التنظيمية في الحزب، لحين عقد المؤتمر، بالإجماع (بند متوازن، يمكن للطرفين أن يستفيدا منه).

-       إعادة توحيد جميع الهيئات وعودة جميع الرفاق المقاطعين إلى هيئاتهم (تمنيات).

-       تحديد تمثيل وفد حلب للمؤتمر بـ18 مندوب لخالد و12 مندوب ليوسف (بند لصالح جماعة خالد).

ولكن الصراع استمر، على الرغم من هذا، لأن كلا الطرفين كان ما يزال يسعى إلى تأمين سيطرته على الحزب وعلى المؤتمر. وتفجَّر الوضع مع قرار يوسف فيصل، في اجتماع عَقَدَه لأنصاره في 24 شباط 1986، تعيين 24 مندوبًا للمؤتمر – قرار رَفَضَتْه طبعًا جماعة أبو عمار، الذين قرروا المضي قدمًا في عقد المؤتمر في آذار 1986، كما نصَّتْ على ذلك التسوية التي تمت سابقًا برعاية "الرفاق الكبار"...

أولئك "الرفاق" الذين عاد يوسف فيصل للاستنجاد بهم وبما تيسَّر له من الأحزاب الشقيقة، الذين ضغطوا في شدة على خالد بكداش وجماعته لمنعهم من عقد المؤتمر قبل التوصل إلى تسوية يتفق عليها جميع الفرقاء. فكان تأجيل آخر. لكن الاتفاق لم يتم. مما أدى إلى عقد جماعة خالد لمؤتمرهم السادس منفردين في تموز 1986، وذلك بعد أن انشق عنهم، في آخر لحظة، بتأثير من السوفييت طبعًا، ثلاثة من أهم أنصار خالد بكداش في المكتب السياسي، هم الرفاق عمر السباعي ورمو شيخو وإبراهيم بكري.

وأكتفي حول هذا الموضوع بهذا القدر، خاصة وأنه لا يعكس إلاَّ جانبًا من القضية الأهم في نظري، التي عجَّلتْ في تدهور علاقتي مع الحزب وابتعادي النهائي عنه، ليس تنظيميًّا وحسب، إنما، أيضًا وخاصةً، فكريًّا.

6

لأنه كانت هناك جوانب أخرى للقضية. وهذه كانت، في نظري، الأعمق والأهم. وأتذكر أن الظروف أتاحت لي آنذاك مجالَ التعرُّف عن كثب إلى التاريخ الفعلي للحزب، من جهة، وسطحية ما آلت إليه ممارساتُه العملية على أرض الواقع من خلال الشعارات الفارغة المطروحة و"الكلام الخشبي" الأجوف، من جهة أخرى.

فحينذاك، لست أدري كيف وجدتُني متورطًا في "مساعدة الرفاق" في الردِّ على طروحات يوسف وجماعته. ولا أخفي أن هذا سرعان ما جعلني أغوص في البحث والتنقيب والكتابة في تاريخ هذا الحزب الذي طبع شبابي. وما شجعني يومذاك على ذلك هو أنهم فتحوا أمامي، على مصراعيه، باب الاطلاع على ما بين أيديهم من أرشيف للحزب، وكان محفوظًا لدى أبو سعيد[2]. فتقدمتُ بمحاولة تأريخية أولية حاولت فيها، بكلِّ سذاجة، الدفاعَ عن مواقف الحزب كلِّها طوال تاريخه. وما أجهدت نفسي فعلاً للدفاع عنه، وكنت لا أزال أتمسك به من حيث المبدأ، هي قناعات كانت تهتز كلَّ يوم أكثر وأكثر، خاصة وأنا أكتشف أن تاريخ الحزب كلَّه أصبح، منذ الثلاثينيات، متمحورًا حول شخص واحد هو خالد بكداش ومتجسدًا حول أسطورة بدأ يظهر مدى هشاشتها وتآكُلها، وأقصد أسطورة ذلك "الاتحاد السوفييتي العظيم"! لكنهم، لحسن حظي، كما أتفكر اليوم، رفضوا محاولتي هذه لأنها، كما فهمت، لم تكن تتلاءم مع اللغة الخشبية التي كانوا – ومازالوا – يستعملونها. مما دفعني، لكن بلا إشراف من أحد هذه المرة، إلى المزيد من التعمق في هذا التاريخ، مستفيدًا مما أضحى بين يدي من وثائق. فكانت مسودة تاريخية ثانية لم أكملها، ولكنها أفادتني جدًّا اليوم في تذكُّر الكثير من الأحداث والتفاصيل التي استندتُ إليها في أثناء كتابة هذه المذكرات. وأيضًا...

أسترجع أنه حينذاك اتسعت جدًّا أيضًا دائرةُ مطالعاتي، التي أصبحت تتجاوز في مجملها الإطار الماركسي الذي حصرت نفسي فيه حين أصبحت شيوعيًّا. فأتذكر أني قرأت أيام ذاك رواية جورج أورويل 1984 التي هزتني كثيرًا – مما دفعني إلى البحث عن باقي كتبه. وقد تأثرت بأورويل لأني وجدت، من خلال ما كان يطرح، في قسوة وخيال جامح، ما يمكن أن تؤول إليه من عبثية ولامعقولية مجملُ الإيديولوجيات التوتاليتارية، وعلى رأسها طبعًا الإيديولوجيا الشيوعية. وأيضًا، تعلَّمت منه فهم أسُس "التقية" المعاصرة والكلام المزدوج، المقرون بالتفكير المزدوج، الذي تستعمله معظم الحركات الأصولية العقائدية في أدبياتها؛ الأمر الذي جعلني أفهم ما تعنيه، في نظر تلك الأحزاب والحركات، هذه اللغة الخشبية التي يستعملونها. فمن خلال هذه اللغة يمكن قياس مقدار "ولاء" العنصر الملتزم وخضوعه الفكري و/أو استقلاليته؛ أي في اختصار، ومن منظور آخر، اكتشفت يومذاك أني لم أكن يومًا شيوعيًّا بالمعنى السائد لهذه الكلمة، وأنه بات يجب عليَّ، بالتالي، التمايز التام عن هذا الخط الذي لم يعد خطي، والابتعاد عن هذه الجماعة التي لم تعد تعنيني في شيء. وأيضًا...

أسترجع أنني حينذاك بدأت أطَّلع على اتجاهات فكرية أعمق وأكثر إنسانية. ففي البداية، وقع بين يدي كتاب لم يكن على عمق كافٍ، إنما لفت انتباهي إلى وجود بُعد آخر للأشياء وللديانات. كان الكتاب بعنوان الدم المقدس والكأس المقدسة؛ وكانت فائدته في نظري أنه جعلني أتعمق في قراءة ودراسة الكتب المقدسة وكتب التاريخ والتأريخ المقارن للأديان، وخاصة منها حينذاك تاريخ تلك الحقبة المتعلقة بالحروب الصليبية؛ وكذلك أيضًا، الاهتمام بالحركات الروحية والباطنية التي وُجِدَتْ آنذاك ومفاهيمها وصراعات السلطة ضدها. فتعرفت إلى "الكاثاريين" وإلى "فرسان الهيكل"، مثلاً، وقرأت في تمعُّن كتب المؤرخ البريطاني رانسيمان والمؤرخ الإسرائيلي جوشوا براهير حول الحروب الصليبية و"مملكة القدس اللاتينية"، ليس حصرًا. كما بدأت أيضًا الاطلاع في عمق على الماسونية "التأملية" ومفاهيمها الفكرية... عوالم جديدة سحرتْني، ووسَّعت أفق تفهُّمي لأشياء هذا العالم. وأيضًا...

بحكم موقعي في "شركة الدراسات"، ربما، بدأتْ تتوسع أيضًا دائرةُ معلوماتي البيئية من خلال ما كنت أقرأ من كتب وتقارير، كان بعضها عامًّا ونظريًّا، وبعضها الآخر، إن لم أقل معظمها، خاصًّا ويعالج المشكلات التي نعاني منها في بلدنا ومنطقتنا. من بين هذه المشكلات كانت مشكلة تلوث غوطة دمشق وحوضها المائي وما يستتبع ذلك من دراسات ترمي إلى معالجة هذا الموضوع الخطير بهدف حلِّه. وهنا، حول هذا الموضوع بالذات، حدث صِدامٌ حادٌّ بيني وبين قيادة الحزب على خلفية جدل عام دار حينذاك في البلد، في الصحف والإذاعات وعلى صفحات الجرائد. وكان هذا الموضوع، في نظري، "القشة التي قصمت ظهر البعير"، فأدت إلى تمايزي التام وابتعادي النهائي عن الرفاق وقطيعتي النهائية معهم.

وأسترجع ما حدث يومذاك: حين أثير في مجلس الشعب، كما في أوساط بعض المهندسين المهتمين بالموضوع وفي حلقاتهم المغلقة، موضوع الموقع المختار لمعمل معالجة مياه مجاري دمشق، وكذلك معمل معالجة قمامتها، اللذين كان يُفترَض إقامتهما في "عين ترما" الواقعة على مشارف الغوطة الشرقية.

ففي جلسة طريفة لمجلس شعبنا "الموقر"، تميزتْ بإلقاء القصائد الحماسية المعبِّرة، اتخذتْ الرفيقة "أم عمار"[3] الموقفَ الذي كان يدافع عنه باقي النواب من أصحاب المصالح، أي موقفًا رافضًا لإقامة معملَي معالجة القمامة ومعالجة مياه المجاري في عين ترما. ثم تلا هذا الموقف، أو لنقل تلك المسرحية البرلمانية، حملةٌ مركَّزة في الصحف المحلِّية، حيث قامت رفيقةٌ أخرى، هي السيدة ناديا خوست، بكتابة مقال عاطفيٍّ دافعت فيه عن أشجار الغوطة التي ستُقطَع، واحتجت أيضًا، وفي شدة، على إقامة المعملين في عين ترما. ثم تلاها رفيقٌ آخر، هو السيد وليد معماري، الذي كتب في إحدى الصحف المحلِّية مقالاً آخر حول الموضوع نفسه ووفقًا للتوجه نفسه. مما دعاني إلى طلب عقد اجتماع مع الرفاق لأشرح لهم الأمر، وأبيِّن لهم خطأ موقفهم ونتائجه البيئية السيئة، على الغوطة عامة وعلى دمشق تحديدًا. وقد عُقِدَ هذا الاجتماع فعلاً في منزل أحد الرفاق المهندسين (السيد بهجت اسطفان، على ما أذكر)؛ وقد حضرتْه أم عمار وناديا خوست وأبو سعيد، كما حضره معي مهندسان تقدُّميان لهما علاقة بالموضوع، هما صديقاي عاصم خليفة وزهير وفا. لكن هذا الاجتماع لم يؤدِّ إلى أية نتيجة. فالقرار المتعلق بموقف أم عمار وباقي الرفاق الإعلاميين كان متخَذًا مسبقًا، من دون أية دراسة للموضوع وقبل الاطلاع على أبسط حيثياته. والموقف كان رفض مكان إقامة المعملين في الموقع المذكور – عين ترما؛ والحجة كانت الدفاع عن الأشجار التي ستُقطَع في هذا المكان في حال إنشاء هذين المعملين. لكن القضية كانت أعقد من هذا بكثير!

فاختيار موقع عين ترما تم نتيجة دراسات مستفيضة قامت بها، لصالح وزارة الإسكان والمرافق، شركةٌ استشارية إنكليزية تدعى هَوارد همفريز. وهذه الدراسات دقَّقها أيضًا خبراءٌ اختصاصيون استدعتْهم الوزارة عن طريق البنك الدولي. ويمتاز الموقع الذي وافقت عليه وزارة الإسكان ومهندسوها الاختصاصيون بأنه مكان تلاقي مختلف تفرعات بردى التي تمر عبر دمشق لتعود فتلتقي وتتفرع من جديد – أيضًا في عين ترما – لتروي في راحة غوطة دمشق الشرقية. أي أن هذا الموقع كان الموقع الأمثل لإقامة مشاريع بيئية حيوية كهذه كانت دمشق وغوطتها في أمس الحاجة إليها؛ كما أنه كان يتمتع – بالقوة أيضًا – بخاصية منع التوسع السكني العشوائي لمدينة دمشق باتجاه الغوطة. لكن هذا لم يحصل.

إنما الذي حصل أنه تصاعدت الحملةُ الإعلامية على الموقع المقترح، وأن شُنَّتْ يومذاك على المهندسين الذين أيدوا المشروع، من دون تسميتهم، حملةٌ صحفية مغرضة، كان أهم كتَّابها الرفيقان ناديا خوست ووليد معماري، وذلك سواء في الصحف المحلِّية الرسمية أو في نضال الشعب، لسان حال الحزب الشيوعي السوري. مما أدى إلى استجابة السلطات لمسرحية هذه "المطالب الشعبية المحقة" وإلى إيقاف الدولة للمشروعين مؤقتًا وقرارها بتغيير موقعهما.

وهذا ما دفعني يومذاك إلى كتابة تقريرين احتجاجيين مفصَّلين[4] إلى قيادة الحزب، شرحتُ فيهما الموضوع، لكن طبعًا من دون أية جدوى! فما كان يهم الرفاق وقيادة الحزب الشيوعي، كما تبين لي في وضوح حينذاك، كان تحقيق انتصار إعلامي متلفز، وليس معالجة مشكلة بيئية هامة وحيوية بالنسبة إلى دمشق وغوطتها – انتصار استفاد منه، في نهاية المطاف، كما تبين فيما بعد، تجارُ البناء في عين ترما، ولم تستفد منه قطعًا لا دمشق ولا غوطتها، لا عمالها ولا فلاحوها. والنتيجة، كما نشهدها اليوم، كانت أنه:

-       لم يبقَ في عين ترما شجرةٌ واحدة بسبب التوسع المعماري الذي اكتسح المنطقة وتجاوَزَها في اتجاه الغوطة، كما كان متوقَّعًا.

-       تم نقل موقع معمل معالجة مجاري دمشق إلى ما بعد عدرا، مما أدى، لضرورات الاستفادة مما ينتج عنه من مياه معالَجة في ريِّ الغوطة، إلى إعادة ضخ هذه المياه صعودًا في اتجاه عين ترما كي تتم الاستفادة منها، أي المزيد من الأكلاف الباهظة والمزيد من الأشجار المقطوعة.

-       كذلك تم نقل موقع معمل معالجة القمامة، الذي كان يُفترَض أن يكون قرب معمل معالجة مياه المجاري، ما عني أيضًا المزيد والمزيد من الأكلاف.

وأكتفي من هذا الموضوع بهذا القدر، متذكرًا في مرارة كيف جاءني، بعد ذاك بعدة سنوات، – وكنت أعمل حينذاك مع الشركة الإيطالية المتعهدة لمشروع محطة معالجة مجاري دمشق، الذي تأخر تنفيذه عشر سنوات وأصبح موقعه في عدرا، – (جاءني) الرفيق عمار بكداش ليقول لي بصوت خفيض إن موقفي حول هذا الموضوع كان الموقف الأصح وإن الموقف الذي اتخذوه في الحزب كان خطأ. فابتسمت في حزن وأجبته:

-       لماذا لا تكتبون هذا الأمر؟! لماذا لا تعترفون، ولو لمرة واحدة وبشكل موثق، بخطئكم؟!

فلم يجب عمار.

وأتفكر اليوم أنه، في عدم إجابته، وإنْ لم يكن منسجمًا من حيث العمق، في دخيلة نفسه، مع ضميره، كان منسجمًا جدًّا مع عادات بلادنا وتقاليد مسؤوليها في تشويه الحقائق وإظهار تلك الصورة الكاذبة التي لا يهمهم سواها، القائلة بأنهم دائمًا على حق ودائمًا مصيبون في كلِّ شيء. فـ"الكذب يصير حقيقة مع الأيام"، على حدِّ تعبير أورويل، خاصة إن لم يكن يدقِّقه و/أو يذكِّر به أحد. والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصى، في بلادنا وفي سواها.

فمشروع معالجة مجاري دمشق، مثلاً، أصبح اليوم واقعًا قائمًا في موقعه الجديد الذي هو عدرا. وما نجم عنه من كُلَف إضافية وأضرار صار اليوم من المنسيات التي لا يتفكر فيها ولا يتذكرها أحد. وفي نظر مَن يراجع اليوم، عن بُعد، أدبيات الحزب الشيوعي آنذاك، فإن ما كُتِبَ حول الموضوع يشكل "دليلاً ساطعًا" على "نضال" الحزب العنيد في سبيل حماية البيئة والدفاع عن مصالح العمال والفلاحين. فمَن يهتم في النهاية ببعض الأصوات الضائعة لبعض "المهندسين المغرضين"؟! وكذلك أيضًا...

المستشفى التعليمي أنشِئ اليوم وانتهى. وما يقال عنه اليوم أنه بُنِيَ على يد الألمان، – وهذا صحيح، – وأنه تم إنشاؤه في عهد "الرئيس المناضل حافظ الأسد" الذي سُمِّي المستشفى باسمه – وهذا صحيح أيضًا، وربما كان هذا هو الأساس، لأنه لم يعد مهمًّا على الإطلاق تذكُّر كيف أُنجِزَ هذا المشروع في أقصر مدة ممكنة، وكيف لم يتجاوز من حيث الكُلَف – وهذا نادر جدًّا في بلدنا – كلفتَه العقدية؛ ولأن ما تم تحقيقه في قلبه من وظائف متطورة تجاوزت، إلى حدٍّ بعيد، الإطار العقدي الرسمي للمشروع. فهذا لم يكن ولم يعد مهمًّا اليوم، لأن الأهم عندنا في البلد هو فقط الشكل والمظهر الذي من خلاله نبجِّل ذاك الذي في ظلِّ حكمه بُنِيَ المشروع!

7

وأتذكر، للمناسبة، كيف كنَّا نعمل في تلك الأيام – بقيادة الدكتور فؤاد بشور – كطاقم منسجم، وبكلِّ إخلاص، من أجل تأمين الإشراف الفعال على هذا المشروع الذي كان يومذاك من أهم مشاريع البلد؛ كيف كنا، مستفيدين من المواصفات الألمانية، نسعى جاهدين لتأمين أفضل تنفيذ وتصميم ممكن له؛ وكيف كنا، بالاعتماد على ما نملكه من خبرات فنية، نعمل على انتقاء أفضل التجهيزات الممكنة.

وأتوقف هنا قليلاً، لأستعيد بعض ما جرى معنا حين انتقينا معدات الأشعة التي كانت أهم معدات المشفى على الإطلاق وأغلاها. فأتذكر كيف تقدَّمت لنا شركة فيليپ هولتسمان، متعهِّدة المشروع، بعروضها لهذه المعدات، التي كانت، على ما أذكر، وكما اتفق، ثلاثة هي: عرض لشركة "سيمنز" الألمانية، وعرض لشركة "فيليپس" الهولندية، وعرض ثالث لشركة "جنرال إلكتريك" الأمريكية. وقد كان واضحًا من هذه العروض التي قُدِّمَتْ، كما أوضح لنا يومذاك خبيرُ المعدات الطبية، صديقي المهندس بشار العظمة، أن العرض المفضل الذي يسعى المتعهِّد إلى أن يدفعنا لقبوله إنما هو عرض شركة "سيمنز". لذلك، بالاتفاق يومذاك مع المدير العام لشركة الدراسات، الدكتور فؤاد بشور، كان قرارنا أن ننتقي معدات الأشعة من أفضل ما تقدِّمه العروض الثلاثة مجتمعة. وكان هذا ما أبلغناه للمتعهد شفهيًّا. وهنا كان ما حصل أنه ارتكب المتعهد خطأَ سحب عرضَي "فيليپس" و"جنرال إلكتريك" بحجة اعتذارهما، مبقيًا فقط على عرض "سيمنز". وكان هذا خطأً كبيرًا، لأن ادعاءه لم يكن صحيحًا، ولأنه، من باب المصادفة، كانت شركة "فيليپس" قد اتصلت بنا مقدِّمةً هدية قيِّمة للجامعة، قيمتها حوالى المليون دولار (وهي عبارة عن جهاز تصوير طبقي محوري) في حال وافقتْ الجامعة على منحها صفقة الأشعة بالكامل. فسارعنا مباشرة، بعد تبليغ رئاسة الجامعة بالأمر آنذاك، إلى إبلاغ المتعهد بما جاءنا من عرض لـ"فيليپس"؛ الأمر الذي اضطره وشركة "سيمنز" إلى تقديم عرض مشابه يتفوق قليلاً على عرض "فيليپس". وأيضًا...

أتذكر كيف دعونا المتعهِّد إلى التفاوض حول مجمل مطالباته العقدية التي قدَّمنا، كمقابل لها، مطالبَنا كجامعة وكإشراف، وكيف استغرقتْ هذه المفاوضات حوالى الشهرين، وتم فيها التوصل إلى تسوية، هي عبارة عن عُشر ما تقدَّم به المتعهد ولم ترفع كلفة المشروع بأكثر من 2% من قيمته العقدية الأصلية. وهنا أجد أنه لا بدَّ لي أن أذكِّر بالدور الكبير الذي لعبه في هذه المفاوضات المهندس القدير خليل الفرا الذي كان يترأس الجانب السوري في هذه المفاوضات. وأيضًا وأيضًا..

أتذكر كيف كان العمل يتقدم في سرعة، وكيف شارف على الانتهاء، وكيف تم تشكيل لجنة الاستلام المؤقت للمشروع التي أنجزت أعمالَها في شكل عادي. و...

كيف كان الدكتور فؤاد يعتمد عليِّ في تلك الأيام للقيام بمهمات أخرى، كان أهمها، على ما أذكر، مساعدة الدكتور وليد الجابري في تدقيق دراسات المدينة الرياضية في اللاذقية، التي كان متعهِّدها "الإسكان العسكري" والتي كانت قيد الإنشاء، وكيف غُصْتُ مع الدكتور وليد في هذا المشروع الأضخم الذي كان ينفَّذ في البلد والذي يمكن وصفه بـ"مشروع أبَّهة" نموذجي – "أبَّهة"، بمعنى أنه لم يقم دارسوه، الذين كانوا من "الإسكان العسكري" ومن الخبراء البولونيين، بأية محاولة لعقلنة النفقات وتحديد الأكلاف التي كان مبالغًا فيها جدًّا. وكان هذا ما حاولنا فعله، الدكتور وليد وأنا، بالاستناد إلى مَن وَضَعَهم الدكتور فؤاد تحت تصرفنا من مهندسين أكفاء.

وأتذكر، خاصةً، كيف لم ننجح في تحقيق شيء مما كنا نصبو إليه، حيث شنَّ "الإسكان العسكري" علينا حربًا شرسة، بقيادة مديرها العام حينذاك، العقيد خليل بهلول، معتبرين أننا جئنا لنخرب عليهم ما يفعلون! لأن كل ما كان مطلوبًا منا، من وجهة نظرهم، هو أن نوافق على ما يتقدمون به من دراسات لم تكن، في معظمها، جيدة، إن لم نقل إنه كان يفضَّل إعادة النظر بها – كتلك الكتلة المعدنية الثقيلة والضخمة التي اقترحوها كحلٍّ لسقف القاعة المغطاة. لذلك، سرعان ما اعتذرنا، الدكتور وليد وأنا، عن الاستمرار في تحمُّل المسؤولية المتعلقة بالإشراف على دراسة هذا المشروع، مما اضطر الدكتور فؤاد بشور إلى الموافقة، وهو مثقل القلب، على اعتذارنا، وإلى توكيل الأمر لمهندس أكثر منَّا "ليونة". وأيضًا...

أتذكَّر كيف ذهبت، خلال هذه الفترة الممتدة من 1985 إلى 1987، ثلاث مرات خلال الصيف إلى فرنسا لأقضي إجازتي السنوية. وهناك، كنت أنزل ضيفًا على صديقي الفرنسي جان فرانسوا فوركاد في منزله الواقع وسط باريس؛ مما زاد من تعمُّقي في التعرف على هذه المدينة الرائعة وتمتين الكثير من صداقاتي وعلاقاتي القديمة هناك. وأخيرًا...

وهذا طبيعي، كان المشفى التعليمي يشارف على نهايته. وأتذكر أني لم أكن أرغب يومذاك في تجديد عقدي مع "شركة الدراسات"؛ كما أني، لأني كنت متعبًا ومنهكًا فعلاً من العمل تحت الأضواء المسلَّطة، وما يحيط به من أجواء تجعلك دائمًا عرضة للاتهام وللمساءلة، من جهة، ولأنه جاءني عرضٌ مُغْرٍ من متعهِّد سعودي للإشراف على مستشفى يُزمَع إنشاؤه هناك في منطقة القصيم، اتفقت مع الدكتور فؤاد يومذاك أن أستمر معه حتى نهاية الاستلام المؤقت للمشروع. وكان هذا ما حصل. ولكن خلال هذه الفترة...

8

شاءت الحياة أن تضيف إلى أحزاني حزنًا إضافيًّا. ففي أواخر عام 1986، على ما أذكر، توفي هاشم.

وأستعيد ما جرى عشية ذلك اليوم الذي سبق وفاته: كيف كنت وحيدًا في المكتب أراجع أحد التقارير وأضع ملاحظاتي عليه، حين قرع هاشم باب مكتبي في نعومة ودخل على عادته. كان يبدو منهكًا. وقد أردت الوقوف لاستقباله، عندما سارع يقول لي:

-       أكمل ما بين يديك من عمل، يا أكرم. فأنا غير مستعجل، وقد جئتك على عادتي لأستريح. فأكمل عملك ولا تهتم بي، أرجوك!

-       سأنهي ما بين يدي خلال عشر دقائق، يا أبو الخير. حتى ذاك، هل أطلب لك فنجانًا من القهوة؟

-       لا، يا أكرم، فقط كأس ماء.

ثم جلس، آخذًا من أمامه من على المنضدة كاتالوغًا بدأ يتصفحه.

نظرتُ إليه مرة أخرى في تمعُّن. كان مظهره مختلفًا هذه المرة، وسحنته تميل إلى الاصفرار – الأمر الذي أقلقني إلى حدٍّ كبير. لذلك سارعت إلى طيِّ ما بين يدي من عمل، وتوجهت إليه مخاطبًا:

-       أنا الآن تحت تصرفك، يا أبو الخير. فهل تفضل أن نبقى هنا أم أن نتجول في الموقع لأطلعك على آخر ما استجد؟

-       أفضل أن نتجول معًا في الموقع، يا أكرم.

وكان هذا ما حصل: خرجنا، وتجولنا في المشروع الذي كان يومذاك في مراحله النهائية من حيث الإكمالات. وقد مررنا، على عادتنا، على كلِّ شيء، حيث كان يمعن النظر في الإكمالات: يسأل سؤالاً هنا، معلقًا تعليقًا هناك، مدققًا باهتمام كبير في كلِّ شيء، مشيدًا غالبًا بما كان ينفَّذ.

-       لأنه هكذا يجب تنفيذ الإكمالات، يا أكرم، وليس على الطريقة "البازارية" التي صارت سائدة في البلد! هكذا يجب أن توضع الفواصل بين البلاط في الأرضيات لمنع أي تشقق مستقبلي.

-       لست أخفي عنك أني تعلَّمت في هذا المشروع الكثير مما كنت أجهله. فهذه أول مرة، كما تعلم، أستلم مشروعًا بهذه الضخامة!

-       وقد نجحتَ فيه، يا صديقي.

-       لكن... أخبرني ما بك، يا أبو الخير. فأنا لم أرَك يومًا منهكًا وحزينًا إلى هذا الحد!

-       لا شيء، لا شيء محدد، يا أكرم. فقط أشعر بالوحدة وبالتعب من كلِّ شيء! لا شيء يبشِّر بالخير في البلد... حتى الحزب والرفاق أضحوا توافه ولا يعوَّل عليهم. حتى أبو محمد[5] وأبو راشد[6]، صديقا شبابي، تغيرا وصارا بعيدين عني... لم يبقَ مَن أرتاح لرؤيته إلا أنت وعاصم وفايز... حتى عائلتي أشعر بها اليوم بعيدة عني... حتى أشقائي... حتى زوجتي وأبنائي.

ولأول مرة رأيت عينيه تترقرقان بالدموع. فضغطت على يده في شدة، وشدَّ في قوة على يدي، وقال لي:

-       سأعود الآن إلى المنزل لأستريح... وسأتصل بك غدًا لنحدد موعدًا لسهرة مع الشباب. فقد اشتقت إليهم كثيرًا.

وأوصلته إلى سيارته القديمة. ضمَّني إليه وقبَّلني.

-       إلى اللقاء، يا أكرم.

-       إلى اللقاء يا أبو الخير... انتبه لنفسك، أرجوك.

وكان صباح اليوم الذي تلا. غصة في القلب تملَّكتْني حين رنَّ جرس الهاتف في منزلي. على الطرف الآخر من الخط كان صوت أجش يقول:

- عمو أكرم... أنا محمد خير، ابن هاشم... لقد توفي بابا هذه الليلة!

*** *** ***


 

[1] المخابرات السوفييتية.

[2] عبد الوهاب رشواني.

[3] وصال فرحة، زوجة خالد بكداش.

[4] مازلت أحتفظ بهما إلى الآن.

[5] عمر السباعي.

[6] مراد قوتلي.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود