من واقع الحرب إلى حلم السلام

... لأننا نرفض أن نصير وحوشًا!

 

أكرم أنطاكي

وديمتري أفييرينوس

 

"... لنهدأ ولنواجه الواقع وجهًا لوجه

حيث ينبغي علينا ربما

إعادة صنع جهنم والليل معه

معًا في صبرٍ ومن البداية..."

ل. أراغون، القصيدة غير المنتهية

 

1

لنهدأ...

لا شيء يولد من فراغ!

هذا معروف بداهةً. كذلك لم يولد من فراغ ما نعيش اليوم في منطقتنا من مآسٍ. فهذه المآسي ليست وليدة اليوم؛ ونحن نتحمل، مع "الآخرين"، قسطنا من مسئوليتها المادية والأخلاقية.

أجل، لا شيء يولد من فراغ!

وخاصة تلك الأحوال الناجمة عن كوارث كبرى، طبيعية كانت أو بشرية، أعاصير كانت أو حروبًا. لذلك، لندع انفعالاتنا جانبًا، ولنتفكر في هدوء بما يجري حولنا من أحداث – كتلك الحرب التي نكابد اليوم في منطقتنا وما ينجم عنها من عواقب وتداعيات تقرِّر، في وحشية رهيبة، مصير البشر فيها.

أجل، لنهدأ قليلاً، أيها السادة، ولنتفكر معًا بصدق وبمسؤولية.

الحرب قائمة اليوم في جوارنا. وهذا شيء سيئ للغاية على البلد – سواء كان هذا البلد هو لبنان أو فلسطين (إسرائيل) – الذي تجري الحربُ على أرضه. ذنب لبنان الوحيد في هذه الحرب أنه الطرف الأضعف الذي يستبيح أرضَه الجميع. كما ذنب فلسطين (إسرائيل)، ربما، أن الله وَعَدَها بأكثر مما تطيق! وأيضًا...

سيئة عواقب هذه الحرب بالقوة علينا عمومًا، كما هي سيئة بالفعل على لبنان. فالنار التي تصطلم حارقةً الأرزة اليوم سوف تمتد إلينا غدًا، بهذا الشكل أو ذاك، إذ لا يمكن حصرُها إن استشْرتْ؛ وهي، من هذا المنطلق، ستصيبنا لا محالة هنا، كما تصيب اليوم أهلنا و"أعداءنا" من البشر هناك.

ولأن كلاًّ منا أبٌ وجد، أو بالأصح، لأن كلاًّ منا إنسان، – لأننا لنا أمهات وآباء وإخوة وأخوات وأبناء وبنات وأحفاد، – فنحن لسنا متحمسين لهذه الحرب، لا بل نرفضها رفضًا باتًّا. نحن، كأيِّ بشر طبيعيين أسوياء، نريد لأبنائنا وأحفادنا، لأهلنا وجيراننا، أن يعيشوا في سلام حياةً طبيعية، سوية؛ أن يذهبوا كلَّ يوم في سلام إلى أعمالهم وإلى مدارسهم. نريد لهم أن يضحكوا وأن يفرحوا وأن يغنوا، لا أن يبكوا وأن يتشردوا.

ولأننا نربأ بإخوة لنا في الإنسانية أن "يتعلَّموا من النازيين" أكثر مما تعلَّموا من أفكار فيلسوف عظيم من أبناء جلدتهم هو مارتن بوبر (على حدِّ قوله)؛ لأننا نربأ بهم أن يختزلوا رمز "الأرض الموعودة" الروحي الأزلي إلى "غيتو" كبير مسوَّر بجدران عازلة لن يشعروا خلفها بالأمان، لا اليوم ولا في أيِّ يوم؛ لأننا نربأ بهم أن يبلغ بهم تشوُّه نفوسهم حدَّ أن يشوهوا نفوس أطفالهم بغسل أدمغتهم وإيهامهم أن أطفال لبنان أعداؤهم...

فتيات إسرائيليات صغيرات يوقعن أسماءهن على "هدايا" ستقذفها المدافع الإسرائيلية إلى قرى جنوب لبنان.

ولأننا نعتنق مضمون ما قاله ذلك الشاب اللبناني الشجاع، بكلِّ هدوء، وهو يلقي باقة زهور على جثامين بعض شهداء قانا المسجاة على الأرض: "هل رأيت هذه [الزهور]؟ هذه سنبعث بها إلى الشعب الإسرائيلي... مش حنصير وحوش"[1]...

لهذه الأسباب مجتمعة، ترانا نرفض هذه الحرب. كما نرفض منطق أية حرب – "عادلة" كانت أو "غير عادلة"! كما نرفض كلَّ دعوة إلى الحرب، من أية جهة أتت...

لكنها حرب فُرِضَتْ علينا أو دُفِعْنا إليها، كما قد يجيب بعضُهم – وهذا قد يكون صحيحًا إلى حدٍّ ما. لكنها نتيجة تأزُّم واقع مستعصٍ، قائم منذ زمن طويل، بات يتطلب حلاًّ جذريًّا، كما يجيب بعضُهم الآخر – وهذا صحيح أيضًا إلى حدٍّ كبير...

لأنه في النهاية، كما نعلم جميعًا، لا شيء يولد من فراغ!

كذلك هذه الويلات التي نعيشها اليوم لم تولد من فراغ. فلكلِّ وضع مسبباته، ولكلِّ معلول علاته. ولكن...

إن أردنا الخروج من هذه المأزق، من دائرة العنف الجهنمية هذه، يجب علينا أن نمعن التفكير في مجمل أوضاعنا كبشر وكدول في هذه المنطقة من العالم، واضعين جانبًا تلك الإيديولوجيات التي تفرِّقنا، لا بل حتى تلك الأديان "السماوية" التي يبدو أن سنوات ضوئية باتت تفصلها عن "السماء"!

هذا إن لم نقل إنه بات علينا النظر في واقعنا ومأساتنا "بعينين اثنتين، وليس بعين واحدة عوراء"، كما قال ذات يوم المفكر الفرنسي الكبير إدغار موران[2].

2

في الواقع الراهن...

لأنه، كما أن لنا، فلسطينيين ولبنانيين وعربًا، مشروعيتَنا التي يمكن تلخيصها بـ"السيرورة التاريخية التي أفضت إلى الوضع الحالي، عاقبة استيطان أجنبي قسري في أرض عربية"، على حدِّ تعبير موران، من جهة، ولأننا مبتلَون بأنظمة قمعية مهترئة تتحكم في رقابنا، من جهة أخرى...

[وحيث إن] "العالم العربي الإسلامي ليس مسؤولاً عن معاداة السامية الأوروبية، ولا عن الإبادة الهتلرية.

[وحيث] "جرى الاستيطان الصهيوني بمال تبرع به يهودُ العالم أجمع وباحتلال فعليٍّ لأراضٍ كثيرة.

[وحيث إن] "حرب 1948 لم تتسبب في نزوح السكان الفلسطينيين أمام القوات الإسرائيلية وحسب، بل وفي تهجيرهم تحت التهديد وتحريم عودتهم.

[وحيث إنه] "منذ احتلال إسرائيل لفلسطين برمتها في العام 1967، يجري على قدم وساق استيطانُ هيمنة واستيطانٌ سكاني. والسكان الفلسطينيون ما برحوا خاضعين، حال وقوع اعتداءات، للتفتيش، والقهر، والتأديب، والحَجْر. ومبدأ "العين بالعين" والمسؤولية الجماعية مطبَّقٌ عليهم بلا هوادة.

[وحيث إن] "هناك رفضًا للاعتراف بالهوية الوطنية الفلسطينية. فحتى أوسلو، لم يتعامل إسرائيل إلا مع عرب، أي ليس مع أمَّة محتلة، لكنْ مع سكان أصليين[3].

[وحيث] "وَضَعَ إسرائيل نفسه فوق جميع القوانين الدولية: أدانت الأمم المتحدة الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية والاعتداءات الإسرائيلية كافة، بما فيها الحملة على لبنان حتى بيروت.

[وحيث إن] "إسرائيل مسؤول عن مجازر عديدة وقعت على السكان المدنيين"[4]...

كذلك للطرف الآخر أيضًا مشروعيته التي مفادها (من منظوره) أن "السيرورة التاريخية التي أفضت إلى الوضع الحالي [إنما هي] استجابة لضرورة حيوية للنجاة من تهديد دائم بالإبادة، فكانت الصهيونية [من منظوره أيضًا] هي الردُّ الضروري على معاداة السامية الأوروبية، وكان التشوق إلى دولة قومية تشوقًا مشروعًا إلى وطن ملجأ.

(وحيث إن) "الاستيطان الصهيوني [ظل] سلميًّا حتى العام 1948: فقد تمَّ قبله عبر شراء أراضٍ، وليس بالسلب، وهذا في جزء صغير من أرض عربية واسعة قليلة السكان [نسبيًّا] وضعيفة التنمية.

(وحيث إن) "الدولة العبرية، التي قبلتْ خطةَ تقسيم فلسطين، جوبهت برفض العالم العربي، وتعرَّضت لخطر الموت منذ ولادتها، ولم تنجُ إلا بفضل انتصارها على أعدائها المؤتلفين.

(وحيث إنه) "لم يَجْرِ التوسع في الأرض التي رسمتْ حدودَها الأممُ المتحدة في الأصل إلا في أعقاب سلسلة من الحروب "الدفاعية" شُنَّتْ ردًّا على تهديد بالإفناء. وجرى تسويغُ السيطرةِ على أراضٍ سكانها عرب وزَرْعِ مستوطنات يهودية على هذه الأراضي بضرورات استراتيجية حيوية، ولاسيما أن ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية كان يتضمن صراحةً هدفَ تدمير دولة إسرائيل. و[حيث إن] الضرورة الحيوية عينها سوَّغت الحملاتِ التأديبيةَ في لبنان وغيره، كما ورفض الانصياع لقرارات الأمم المتحدة.

(كما أن) "الإرهاب الأعمى ما انفك يطال مدنيين يهودًا. وخطر الموت ما برح ماثلاً"[5] فوق رؤوسهم، وفوق رؤوس جميع جيرانهم، على ما يبدو...

فإنه بهاتين "المشروعيتين" معًا يجدر بنا التفكر مليًّا اليوم، خاصةً وأنه، من خلال الحروب والويلات والمآسي، قامت حقائق جديدة على هذه الأرض. وهذه الحقائق تقول إن:

       هناك دولة قامت بين ظهرانينا، وعلينا أن نتعايش معها، كما أن على مواطنيها أن يتعايشوا معنا ومع دولنا. ما يعني، من حيث العمق، أن علينا أن ننسى الماضي وأن نصفح عما بَدَرَ منهم، كما أن عليهم أن ينسوا ما بَدَرَ منَّا ويصفحوا – لأن كلينا كان على حقٍّ من بعض الجوانب، كما كان كلانا حتمًا على خطأ من جوانب أخرى...

       لأننا، حتى إن افترضنا أن قضيتنا عادلة مئة في المئة (و/أو افترضوا أن قضيتهم عادلة مئة في المئة)، "لا نستطيع [مثلما لا يستطيع الإسرائيليون، سواء بسواء] أن نفوز بالعدالة بمعناها النهائي ذاك، الذي نتوق إليه أحيانًا. في عبارة أخرى: من المتعذر تصحيح باطلٍ وَقَعَ بأيِّ معنى نهائي"، كما عبَّر ذات يوم، بكلِّ صراحة وواقعية، صديقُنا عمار عبد الحميد[6]. خاصة وأن...

       المنظور الدولي ليس متناغمًا تمامًا مع منظورنا: فمعظم دول العالم تعترف بهذه الدولة. ما يعني، بكلِّ وضوح، أنها – شئنا أم أبينا – جزء لا يتجزأ من الشرعية الدولية التي ينبغي أن نكون نحن أيضًا جزءًا منها.

لذلك، وحرصًا على الأرواح، وحقنًا للدماء، وتجنبًا للمزيد من المآسي، دعونا، في هذه اللحظات الصعبة، ننبذ منطق الحقد والثأر والحرب السائد حاليًّا، وكالمجانين ربما، دعونا، في هذه اللحظات المصيرية، نتفكر قليلاً بـ...

3

مخاض السلام ومولودته الحرية

لأننا، مستلهمين خطاب مارتن لوثر كنغ ومثاله الحي، "نقول لكم اليوم، أيْ أصدقاءنا، إننا، على الرغم من مصاعب اللحظة وإحباطاتها، مازال عندنا حلم"[7]. وإنه لحلم راسخ الجذور في أعماق قلوبنا وأعماق قلوب البشر أجمعين.

عندنا حلم أن شعوبنا على هذه الأرض المباركة سوف تنهض ذات يوم وتطبِّق المعنى الحقيقي لعقائدها ودياناتها: "البشر قاطبة مخلوقون سواسية."

عندنا حلم أنه ذات يوم، في شوارع دمشق والقدس (أورشليم) وبيروت، سيتمكن أبناء إسماعيل وإسحق وإخوة عيسى بن مريم من الجلوس معًا على مائدة الأخوَّة.

عندنا حلم أنه ذات يوم، حتى صحراء النقب وبادية الشام "ستتحولان معًا إلى واحتَي [سلام و] حرية وعدالة."

عندنا حلم أن أبناءنا وأحفادنا سوف يعيشون ذات يوم في سلام في بلاد لن يُساءَلوا فيها بسبب انتمائهم الديني و/أو العرقي، في بلاد لن يسائلهم فيها أحدٌ بحسب ما إذا كانوا مسلمين، مسيحيين أو يهودًا، "بل بحسب مضمون خُلُقهم".

أجل، عندنا اليوم حلم، أيها السادة. وفي سبيل هذا الحلم المستحيل وحده سنظل نقاوم حتى الرمق الأخير...

عندنا حلم بأن أوطاننا، التي تقطر شفاهُ حكامها وقادتها وغوغائها بكلماتِ الحقد والفَصْل والإلغاء، ستتحول ذات يوم إلى وضع يتمكن فيه الصبية والبنات العرب، مسلمين ومسيحيين، من ضمِّ أياديهم إلى أيادي البنات والصبية اليهود الصغار والمشي معًا كأشقاء وشقيقات.

"عندنا اليوم حلم."

"عندنا حلم أنه ذات يوم سوف يرتفع كلُّ وادٍ، وسوف ينخفض كلُّ تلٍّ وجبل، والأماكن الوعرة سوف تستوي، والأماكن الملتوية سوف تستقيم، ومجد الربِّ سوف ينكشف، والبشرية قاطبة سوف تشهد ذلك معًا."

ذلكم هو رجاؤنا؛ ذلكم هو الإيمان الذي نصرخ به ملء الحناجر. فـ"بهذا الإيمان سوف نتمكن [معًا] من نحت جبل اليأس حجرًا من أمل. وبهذا الإيمان سنتمكن [معًا] من تحويل شحناء فِتَنِ [شعوبنا] إلى سمفونية إخاء جميلة. وبهذا الإيمان سنتمكن من العمل معًا، ومن الصلاة معًا، ومن الجهاد معًا، ومن الذهاب إلى السجن معًا"، ومن الذود عن السلام معًا، عالمين أننا عن طريق السلام سوف نحقق حريتنا.

وإذا كان مقدَّرًا لهذه الأرض، حيث "التين والزيتون"، أن تكون آمنة، فلا بدَّ أن يتحقق هذا.

فليعم السلام ولتجلجل الحرية، إذن، من سفح قاسيون، إلى ذرى لبنان، إلى ثلوج حرمون، إلى سهول الجليل، "جليل الأمم"، إلى رمال النقب. فليعم السلام ولتجلجل الحرية في كلِّ مدننا وقرانا. فالسلام سيتحقق، والحرية ستزهر، لأننا أبناؤهما!

"من كلِّ سفح جبل، [فليعم السلام و] لتجلجل الحرية."

لأننا "عندما ندع [السلام يعم و] الحرية تجلجل، من كلِّ قرية ومن كلِّ دسكرة، من كلِّ قضاء ومن كلِّ مدينة، سوف نتمكن من الإسراع في مجيء ذلك اليوم الذي سيتمكن فيه أبناءُ الله قاطبة"، عربًا وكردًا وفرسًا ويهودًا، من ضمِّ أياديهم وإنشاد هذه الكلمات القدسية التي تقول:

"المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرَّة."

*** *** ***


 

[1] نقلاً عن ريبورتاج لقناة الـLBC الفضائية اللبنانية بُثَّ صبيحة مجزرة قانا الأخيرة.

[2] راجع: إدغار موران، "فلسطين–إسرائيل: نظرتان في نظرة"، معابر، الإصدار الثامن، باب اللاعنف والمقاومة.

[3] على غرار تعامُل المستوطنين البيض مع سكان أستراليا الأصليين.

[4] إدغار موران، المرجع نفسه.

[5] إدغار موران، المرجع نفسه.

[6] راجع: عمار عبد الحميد، "وبعدين؟!..."، معابر، الإصدار السابع، باب اللاعنف والمقاومة.

[7] مارتن لوثر كنغ، "أنا عندي حلم"، معابر، الإصدار الثاني عشر، باب اللاعنف والمقاومة.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود