|
هكذا أقرأ ما بعد التفكيك الحداثة الفقيرة أو إعادة إنتاج المآزق
في كتابه هكذا أقرأ ما بعد التفكيك[*]، يتناول علي حرب نصوص عدد من الكتاب والمفكرين، أمثال سعد الله ونوس، أبو يعرب المرزوقي، محمد شحرور، عبد الكريم سروش، عبد العزيز حمودة، أدونيس، نصر حامد أبو زيد، جان بودريار، مايكل هاردت، أنطونيو نيغري، نعوم تشومسكي، بيل غيتس، وسواهم، إضافة إلى بعض أطروحات نيتشه وابن خلدون وابن رشد وأفكارهم. ومن خلال هذا الكمِّ من الفلاسفة والمفكرين والكتَّاب، يقدم علي حرب قراءاتٍ لا تركن إلى منهج بذاته أو إلى فلسفة معينة، بل يتناول ذلك كلَّه وفق سياق يشهد على التغير الذي طرأ على مصطلح القراءة ومفهومها، سواء من حيث نطاقُه أم من حيث مفهومُه.
والقصد من ذلك كلِّه هو البرهنة على أن القراءة، مع التطورات المتسارعة في عصرنا، لم تعد تكتفي بالكتب والنصوص، بل تعدَّتْها إلى المجريات والأحداث والتطورات، وباتت تتردد على ألسنة رجال السياسية وأصحاب العقول والاستراتيجيات والمستقبليات. وصارت القراءة فعلاً يتعدى معرفة الحقيقة: بمعنى أنه لم يعد مجرد وصف أو كشف أو اطلاع على الحقائق والخلائق، بقدر ما أضحى مشاركةً في لعبة الخلق، عبر اختراع الأسماء واجتراح الدلالات أو خلق الوقائع التي تتغير معها سلاسلُ الإحالة وخرائط الإدراك أو حسابات العقل وعلاقات القوة. لكن هذا لا يعني أن مفردة "القراءة" تلغي مفردة "الحقيقة". فمن يفكر بمنطق الإلغاء يغرق من جديد في ثنائية ماورائية خانقة تشل طاقةَ الفكر بقدر ما تضعه بين فكي الكماشة: الصح والخطأ، الحق والباطل، المطابقة والهرطقة. ذلك أن المسألة تتعلق بإنشاء علاقات مغايرة مع الحقيقة تُشحَن معها بمعانٍ جديدة تجعلها أقل تجريدًا وتعاليًا ووحدانية، أي أكثر تداوُلية وإجرائية وراهنية، من خلال فَتْحِها على مفردات الخلق والابتكار، أو التجاوز والتركيب، أو الصرف والتحويل، أو الإدارة والتسيير. بهذا المعنى، يشكل فعل المعرفة أو الكشف، بحسب "الفكر المركَّب" (إدغار موران)، وجهًا من وجوه فاعلية القراءة، بما هي رهان على إحداث تحول خلاق أو إجراء تغيير بنَّاء. وعلى خلفية ما تقدَّم، يرى علي حرب أنه لا يدَّعي القول، مثلاً، "هكذا تكلم جاك دريدا"، إنما يمكن له القول "هذه قراءتي لدريدا التي تجسِّد استثماراتي الفكرية في الحقل الذي اكتشفه". بمعنى أن ما نقوله حول النص – أيِّ نص، وإن كان نصًّا مألوفًا، – هو في النهاية نص آخر لمعنى يندُّ عن الحصر باستمرار. تأويل من تأويلات ويعتبر علي حرب أن نصر حامد أبو زيد الذي نسج على منوال نيتشه في كتابه هكذا تكلم ابن عربي قام باستعارة خادعة، تصدر عن مفهوم يعيدنا إلى ما قبل المنجزات التي أسفرت عنها علومُ القراءة والنص؛ ذلك أن ما قاله أبو زيد هو مجرد تأويل لابن عربي من بين تأويلات أخرى. ويعتبر كذلك أن مسرحية سعد الله ونوس منمنمات تاريخية مثال على القراءة "الإيديولوجية" التي يُسقِط فيها صاحبُها على ابن خلدون هواجسَه النضالية وتهويماته الخلقية؛ وكذلك فعلت نضال الأشقر حين أخرجت المسرحية – والنتيجة هي تشويه مضاعف لفكر ابن خلدون وسيرته! كما يعتبر أن أبو يعرب المرزوقي يقدم قراءةً لابن خلدون تنهض على التعظيم والإشادة، بوصفها مثالاً على التفكير الأصولي. لا شك في أن القراءات تتفاوت من حيث أهميتُها وقوتُها على الاجتراح والخرق والتأثير بالتخييل الخلاق والمجازات المبتكَرة والمفاهيم الخارقة. القراءة الخصبة هي جرح واجتراح. لكن هذا لا يعني أن تكون القراءة مجرَّدة ومحايدة، ولا يعني أن نمتنع عن الاستعانة بالأمثلة الفكرية في معالجة مسائل تخصنا وتهمنا في عالم اليوم – فضلاً عن أن قراءة الفنان والأديب مختلفة تمامًا عن قراءة المفكر والكاتب، ولها سياقات مختلفة تخص طريقة الاشتغال والمعالجة والتناول. على أية حال، فإن مفردة "القراءة" تحتاج إلى معالجة مستفيضة مخصوصة بحقل معرفي معيَّن. ولن ينفعنا التعميم هنا، ولا اختزال القراءة في الحقول كافة – ذلك أن مساحة الخطاب تختلف من حقل إلى آخر: فالكلمة تحيا حياتها في سياق معين، ويتسع معناها باتساع مركِّباتها ومحمولاتها، وباتساع مجالها التداولي وخرقها للمسبَّقات اللغوية والمعرفية، عبر الخلق وإعادة التشييد على مقام معيَّن للفن أو للفكر، وليس عبر المجاز وحده، نظرًا لأن ليس كل مجاز هو عبور نحو فضاء جديد تنكَّس معه قوالبُ المعرفة وحتميات الواقع. وقد لا يغني المجاز إمكانات الوجود ولا يثري عالم الفهم ولا مفردات اللغة. في المقابل، فقد حدث توسُّع وتغيُّر في استعمال مصطلح القراءة ومفهومها، إنْ في الحقل أو المقام، ولم تعد العلاقة بين النص والواقع وحيدة الجانب والاتجاه، بل أصبحت مركَّبة ومزدوجة أو متداخلة وملتبسة، بمعنى أنها تتشكل وتُبنى بتغيير كلِّ واحد من الطرفين الداخلين في بنائها؛ وصار العالمُ نصًّا يحتاج إلى القراءة والفهم. ومن جهة التغير في النص، فإن النصوص أصبحت، منذ زمن، تُعامَل كوقائع خطابية لها منطقها وقوانينها، أو كأحداث فكرية لها أثرها ومفاعليها، بصرف النظر عن مراد مؤلِّفيها. ولم يعد النص مجرد ناطق باسم المؤلِّف أو مجرد مرآة تعكس الواقع، بل أصبح هو نفسه واقعةً تخضع للدرس والتحليل، ليس فقط من حيث منطوقُه وطرحُه، بل كذلك من حيث بنيتُه ومنطقُه وآليةُ عمله، أو من حيث قواعدُ تداوله وتشكيل سلطته. ولهذا أصبح النص، كواقع خطابي، حقلاً لإنتاج الأفكار والمعارف، على نحو تتغير معه مفاهيمنا للفكر واللغة أو للمعرفة والحقيقة، كما تفيدنا بذلك المنجزات التي أسفرت عنها فتوحاتُ الدرس المعرفي حول الخطابات والنصوص والرموز اللغوية. أكثر من قراءة ويحتمل النص أكثر من قراءة، بحيث تختلف القراءات وتتفاوت من حيث علاقتُها بموضوعاتها وبالمواد التي تعمل عليها. وما يقال على النص يمكن قوله على الحدث، من جهة أنه لا يُقرأ قراءةً وحيدة الجانب أو الدلالة أو الوجهة، كبنية مقفلة أو سلسلة محكمة أو حتمية صارمة، وإنما يُقرأ بوصفه منبع إمكاناته، بقدر ما يُعامَل من حيث تداخُلُ مستوياته وتراكُبُ طبقاته، أو من حيث تعددُ أبعاده وتفاوتُ سرعاته، أو من حيث صيرورةُ هويته وحِراكُ معطياته. ولذا فهو يحتمل أكثر من قراءة، بقدر ما هو حصيلة لما لا يتناهى من الظروف والحيثيات والانفعالات والتصورات والمفردات التي كانت تتجمع وتتراكم أو تعتمل وتتفاعل لكي تسهم في إنتاجه وانفجاره. ما يثير حفيظة علي حرب هي الآليات الفكرية والتهويمات العقائدية التي تتحكم في ذهنيات الحداثيين العرب وتصرفاتهم، بوصفها تشهد على أنهم قد تركوا من الحداثة إرثها النقدي وآفاقها الرحبة ولغاتها المفهومية وموجاتها المشتعلة، لكي يتمسكوا بمقولاتها المستنفَدة وأساطيرها المؤسِّسة وموجاتها المنطفئة وشعاراتها الإيديولوجية الآفلة. لذا لم يستقوا منها سوى مفردات الداعية والمبشر، أو التعويذة والأيقونة، أو الصنم والهوام، أو المتراس والخندق، أو الديكور والقناع. وهو يعتبر الحصيلةَ لهذا النمط من التفكير حداثةً فقيرة أو متخلفة أو مشوهة أو عدوانية أو مأزومة، تعيد إنتاج المآزق بقدر ما تحيل الحياة إلى أفخاخ وحقول ألغام. إن قول علي حرب ينطبق، بدرجة أو بأخرى، على بعض الحداثيين العرب، وخصوصًا بعض المشتغلين في الفكر والثقافة. لكن هناك جانبًا مسكوتًا عنه، وهو التشويه الذي مارستْه النخب الحاكمة للحداثة، ودور نُظُم الاستبداد والهيمنة في تعطيل الحداثة والمفاهيم المتخارجة عنها، وفي تعطيل مفاعيل المجتمع المدني، وفي التصدي لكلِّ مفكر أو مثقف حداثي، خصوصًا إنْ كان نقديًّا. والمأزق الذي يتحدث عنه علي حرب، المتجسد في ما تعانيه المجتمعات العربية، تُسأل عنه النخبُ الحاكمة في هذه البلدان أولاً، بوصفها المسؤولة عن جعلها تتأرجح اليوم بين براثن الكماشة العقائدية، الأصولية أو العَلمانية، القومية أو الدينية، التراثية أو الحداثية، أي بين ديناصورات التراث ومسوخ الحداثة، بين عبادة الأنبياء القدامى وتأليه الأنبياء الجدد، بين مجانين الله ومجانين المسيح، بين حروب الآلهة وحروب الأوطان. فهي تنهض على مقومات الاستبداد والهيمنة، وتشجع على انتشار "الفيروس الديني القاتل"، ولا تقدم إلا العلاج "الحداثي" الفاشل. وهي المسؤولة عن القفز فوق المتغيرات، وعن نفي ما يتشكل من العوالم والقوى والأفكار أو الموجات والطفرات والشبكات. وعلي حرب محقٌّ في دعوته إلى الاهتمام بتشخيص الظاهرات وتفكيك المشكلات للمساهمة في إدارة التحولات مساهمةً بنَّاءة ومثمرة، وفي إيجاد الحلول المناسبة للخلاص من حالات الانهيار والتردي. كذا فينبغي التخلص من كلِّ ما هو تقليدي، أُحادي، طفولي، متعالٍ، نخبوي، بطيء، دُغمائي، حتمي، – لكي نندرج في شكل جديد، هو متسارع من حيث زمنُه، مركَّب من حيث بنيتُه، متعدِّد من حيث أبعادُه، إشكالي من حيث منطقُه، ملتبس من حيث مفهومُه، فائق من حيث أدواتُه. الأمر الذي يعني أن مجابهة واقع التردي والانهيار تحتاج إلى تغيير الأسئلة والإشكاليات والتوجهات والخيارات. لذا لا يجدي، معرفةً أو عملاً، نظرًا أو ممارسة، التعاطي مع العالم بالعدة الفكرية القديمة التي فقدتْ أرضَنَتَها وانتفتْ مصداقيتُها على أرض الواقع. *** *** *** [*] علي حرب، هكذا أقرأ ما بعد التفكيك، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2005، 311 ص.
|
|
|