|
الإنسان الأدنى نحو قراءة نقديَّة للمقدَّس والمسكوت عنه في الفكر العربي
مهمة محفوفة بالمخاطرة والمغامرة في زمن التكفير والأحكام القطعية هي ما يضطلع به علي حرب في الإنسان الأدنى[*] في شجاعة نقدية مميزة. إذ لقد آثر الذهاب إلى جذر المأزق وجوهره وولوج "العلب السوداء"، كما يسميها، من أجل تعرية العطب التاريخي الذي وقف دائمًا في وجه النهضة والتقدم والانبعاث.
في مواجهة هذا المأزق الإنساني الشامل، رأى علي حرب أن المقاربات والمعالجات السائدة لم تعد تجدي، إنْ بالعدة المفلسة حول إنسانية الإنسان أو بالثنائيات الضدية الشائعة التي تقيم فصلاً حاسمًا بين العقل والإيمان، أو بين الله والشيطان، أو بين الدين والحداثة، أو بين الإسلام والغرب. إذ إن الأزمة تطاول العقل والدين معًا؛ أي هي أزمة الإنسان والعقل الكوني، على الوجهين اللاهوتي والعَلماني. فكلا العقلين الديني والحداثي يشهدان على الإفلاس في ما يخصُّ الوعود ببناء مجتمعات بشرية مستقرة، آمنة، متضامنة. إن المسألة الآن هي أكبر وأخطر من الصراع بين مؤمن وملحد أو بين روحاني ومادي، في ضوء المخاطر التي تتهدد الكائنات والحياة على الأرض، حيث إن الخطر الأعظم هو خطر الإنسان على نفسه وعلى بقية المخلوقات. أما المتاح، في رأي حرب، فهو نقد الإنسان، والانخراط في حركة مضادة للأنسنة، وصد المركزية البشرية والنرجسية الإنسانية، في وجهيها الإلهي والبشري، والاعتراف، بالتالي، بدونيتنا وبأننا لسنا "سادة الطبيعة"، ولا "أشرف المخلوقات"، ولا "مفاتيح الكون"! أما المشروع الإسلامي الذي يطرحه الإسلاميون حلاًّ أو مخرجًا، فليس إلا عائقًا ومأزقًا؛ ومآله الانضمام إلى ما سبقه من المشاريع القومية والماركسية من حيث العجز والإفلاس والتردي في مواجهة التحديات والمتغيرات، وسوف ينتهي إلى حيث انتهت جميع هذه المشاريع إلى المزيد من الفقر المعرفي والعمى الإيديولوجي والتخلف الحضاري. فالحاجة الآن هي إلى بناء أفكار جديدة وصوغ الواقع على أسُس وقواعد جديدة. فما عاد يجدي أن ندير العالم بعقلية وحدانية يدَّعي أصحابُها احتكار المشروعية المعرفية، بل بعقلية الشراكة ولغة التوسط وسياسة الاعتراف ومنطق التحول. وإذ يتناول علي حرب مسألة الأصولية، يذهب إلى أن ما نحسبه حقائق مطلقة وأصولاً ثابتة ما هو في النهاية إلا تأويلات للنصوص أو تحويلات للثوابت. إذ إن كلَّ قارئ مبتكِر يقرأ في النص ما لا يقرأه سواه. حتى مفهوم الله ذاته يخضع للاختلاف وللتحول. فإرادة المحافظة على الثوابت لا تمنع حصول المتغيِّرات. ومن هنا يجب أن يخضع الدين – ثوابت وتراثات ومؤسَّسات وسلطات – إلى عمل النقد والدرس والكشف في مواجهة الأصوليات التي تحاول أن تفرض الوصايةَ على الناس من قبل الذين يخلعون على أنفسهم صفاتِ الألوهية، محوِّلين الدين إلى نظام توتاليتاري يترجم عمًى إيديولوجيًّا واستبدادًا سياسيًّا وهزالاً وجوديًّا، بينما الأجدى هو التعامل مع الدين تعاملاً يجعل الناس يقبل بعضهم بعضًا ويقومون بالحدب على بقية الكائنات وبالرعاية لحقوقها. عقليَّة التكفير ومن خلال تفكيك مفهوم الإرهاب والكشف عن بنيته الفكرية وآليات عمله، رأى المؤلف أن الإرهاب هو عنف فاحش وأعمى وفائق وعدمي يمارَس على قاعدة المماهاة أو الحرب: الخضوع والامتثال أو الإقصاء والإلغاء. أما علته فتكمن في العقائد المغلقة والثقافة الدينية التي تسهم في إنتاجه وتعميمه؛ وهي ثقافة متحجِّرة، أحادية، عاجزة، فقيرة، عدوانية، واستبدادية. إنه ثمرة عبادة الأصول وتقديس النصوص وعقلية التكفير، بقدر ما هو ثمرة الحكومات الدينية والمرجعيات الغيبية والشعارات الأحادية والثوابت الأبدية وسوى ذلك من المشاريع التوتاليتارية التي يدعي أصحابُها امتلاك مفاتيح الحقيقة المطلقة. وهكذا نحن ندين الإرهابيين وننسى الجذر المشترك الذي يجمعنا بهم بما نمارسه من أعراف ومفاهيم وعلاقات مشبوهة وإرهابية، سواء تعلَّق الأمرُ بالمرأة أو بالآخر والمختلف. وبما أن الإرهاب ذو جذر إيديولوجي، تقتضي مكافحتُه العمل على الذات والمعتقدات والمؤسسات لإجراء تحولات تطال بنية الثقافة ونماذجها، بكسر النرجسية الثقافية الدينية والتخلي عن الثنائيات الثقافية، مثل ثنائية غرب/إسلام، إيمان/كفر، خير/شر، إلخ؛ ومن ثم استبدال مبدأ الاعتراف المتبادل بالتسامح، والتعامل مع الدين بوصفه مجرد دائرة من دوائر الحياة، لا بوصفه نظامًا توتاليتاريًّا، استبداديًّا، إرهابيًّا، وباعتباره إحدى المشروعيات، لا مشروعية عليا مطلقة. وهذا يستدعي تغيير النظرة إلى الفرد والتعامل معه كمواطن وكفاعل بشريٍّ يتصرف كمسؤول وله أبعاد متعددة، لا بوصفه مجرد مؤمن وقاصر. ورأى حرب أن الدين تحوَّل إلى "فيروس قاتل" على أيدي المرشدين والمفتين والمفسرين، أين منه أسلحة الدمار الشامل! وحصيلة ذلك هي السير على طريق الانقراض المعنوي والرمزي، وتراجُع ثقافة الحوار والتواصل والتبادل والاعتراف، مقابل غلبة ثقافة الاصطفاء والإقصاء والاستعداء والاستئصال – ما يطرح محاربة الإرهاب، في شكل خاص، على جبهة الثقافة الإيديولوجية التي هي "بيت الداء". وهذه المحاربة تبدأ من فك منطق الوحدانية في التفسير والتعبير، بإلغاء قاعدة الارتداد، وإطلاق حرية الاعتقاد وتعددية التفسير والتأويل، والعمل على تشكيل مشروعية بشرية جديدة بمبادئها وأُطُرها وصيغها وقواعدها. بناءً على هذه الرؤية الفلسفية، أدان المؤلِّف المنطق الذي يسود العلاقات بين المذاهب الإسلامية أو بين الإسلام والمسيحية، ودعا إلى حوار منتج ينطلق من الاعتراف بالآخر وبحقِّه في الاختلاف والحرية والكرامة والمساواة في الفرص والحظوظ – ما لا يستقيم من دون تفكيك الموروثات العقائدية وتعرية النصوص والأحاديث الحافلة بمفردات التكفير والتبديع والبغض والنبذ. ومن هنا فإن الأزمة التي يعيشها العرب اليوم ليس مصدرها الغير، بل الذات والفكر: يكمن الخلل والعطب في هواجس الهوية وعقدة المماهاة كما في عقيدة الاصطفاء واستراتيجية الإلغاء، في الأختام الأصولية والشعارات الخاوية كما في المشاريع المستهلَكة، في الثوابت المعيقة والقوالب المتحجرة كما في المناهج العقيمة والأدوات القاصرة. إننا الآن نلج في عصر كوكبي، بينما الثقافة عندنا هي المعطِّل والعائق عن المشاركة في صناعة الحضارة السائدة، حيث الخضوع لمنطق الفتوى الأعمى والتمسك بما هو سائد من العقليات والسياسات بحجة الدفاع عن الهوية والأمة يشلاَّن القدرة على الخلق والابتكار. نخرج من قراءة الإنسان الأدنى بانطباع عام يؤكد شجاعة المؤلف النقدية وتصدِّيه الجريء لمسائل تدخل في إطار المحرَّمات والمسكوت عنه في الفكر العربي. فقد أخضع للنقد والتفكيك والمساءلة الثوابت والبداهات والأصول التي اعتُبِرَتْ دائمًا فوق النقد والمساءلة وأُدرِجَتْ في حيِّز المقدس والمتعالي. وهذا، في رأينا، منهج واعد يؤسِّس لانطلاق الفكر العربي نحو آفاق إبداعية جديدة تحرِّره من أغلاله التاريخية. إلا أن هذا لا يمنع من إيراد بعض الملاحظات الأساسية على هامش الكتاب: المأزق السياسي أ. نحا المؤلِّف من الناحية المنهجية منحًى استطراديًّا تكررتْ معه الأفكار والقضايا نفسها من فصل إلى فصل تكرارًا لا يخلو من النمطية والرتابة. ب. ثمة بُعد مغيَّب ومسكوت عنه في الحديث عن الإرهاب الذي أحال المؤلِّف مسؤوليتَه إلى الوعَّاظ والمرشدين والمفتين، وإلى غلبة ثقافة الإقصاء والاستعداء والانتقام والاستئصال التي يشيعونها، لكنه لم يلج إلى جوهر المشكلة التي لا يمكن ردها فقط إلى "العقول" و"العقائد المغلقة والمنازع النرجسية" (وهي، في رأينا، نتيجة أكثر مما هي علة)، بل إلى المأزق السياسي الاجتماعي الذي يحاصر الشعوب العربية والإسلامية عامة على يد أنظمتها الاستبدادية المدعومة من الغرب الذي لا يفتأ يتشدق يوميًّا بالدفاع عن حقوق الإنسان والديموقراطية السياسية والاجتماعية. فلو تأملنا في خريطة الفقر العالمية لرأينا أن الشعوب العربية والإسلامية تشكِّل ملامحَها القاتمة، حيث يعيش في العالم العربي وحده مئة مليون شخص تحت خط الفقر، وحيث الطبقة الوسطى العربية آيلة إلى الزوال أو تكاد. فماذا بقي لهذه الشعوب، – التي قُدِّر لها أن تواجه، إلى جانب أنظمتها التوتاليتارية المستبدة، غطرسةَ الصهيونية وانتهاكها للرموز والمقدسات، – غير الاعتصام بهويتها وتراثها الذي احتكره الدعاةُ والمرشدون والمُفتون ورسموه على الصورة الشوهاء التي هي وجه من وجوه الأزمة وليست كلها، في غياب ثقافة الحداثة والتنوير، وفي ظل أمِّية كاسحة (فاق الأميون العرب المئة مليون)؟ المشكلة، إذن، لا يمكن ردُّها إلى الفكر والعقل والثقافة فقط، بل إلى أزمة بنيوية عامة، من وجوهها ونتائجها ذهنيةُ الانغلاق والأحادية والنبذ والإلغاء والإقصاء، التي تحتضن جرثومة الإرهاب وتغذيها. ت. يدعو حرب إلى تشكيل مشروعية بشرية جديدة. إذ إن أعمال التطهير والاستئصال تزداد بعد كلِّ المواثيق والبيانات المتعلقة بحقوق الإنسان. فكلا العقلين الديني والعَلماني يشهدان على الإفلاس، والعقلانية والديموقراطية فشلتا في فتح دروب آمنة أمام البشر – ما يؤكد أن أزمة العَلمانية والمواطنية والديموقراطية ليست هامشية، بل هي بنيوية وذاتية تطاول مفاهيمها. هكذا يضع المؤلِّف فكر الحداثة والتنوير في قفص الاتهام على ما يفعل الأصوليون الذين اتهمهم بالانغلاق والظلامية والاستبداد العقائدي. أجل، نتفق مع المؤلِّف على أن فكر الحداثة يواجه تحدياتٍ عميقةً تطرح مستقبله على بساط البحث، إلا أننا نرى أن لا سُبُل أخرى أمام الإنسانية أكثر أمنًا من تلك التي فَتَحَها عقل التنوير الحداثي، مهما اعتور ذلك من ثغرات ونقائص. لقد بات واضحًا أن الإنسانية خَطَتْ، منذ بزوغ فجر التنوير إلى الآن، خطواتٍ جبارةً باتجاه تأكيد حقوق الإنسان ومحو الأمية وتحقيق حدٍّ أعلى من الرفاه والتقدم والتواصل بين البشر. ولم يكن ذلك كله ليتحقق لولا التوجهات الحداثية العقلانية والعَلمانية والديموقراطية. وإذا كان ثمة خلل قد مُورس في التعامل مع المبادئ التنويرية الحداثية، فإن العلة لا تكمن في هذه المبادئ وفي ما تنطوي عليه من مضامين، بل في الذين اتخذوا منها قناعًا يتسترون به على انحرافهم عن أهدافها الحقيقية. ولا يبدو ثمة بديل عنها في المدى المنظور سوى الظلامية والاستبداد والعودة البائسة إلى القرون الوسطى! *** *** *** عن السفير، 27/01/2006 [*] علي حرب، الإنسان الأدنى: أمراض الدين وأعطال الحداثة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2005، 279 ص.
|
|
|