|
أحاديث مع أدونيس، والدي كرسي اعتراف وعرَّافة
أحاديث بين زهرة برية وسنديانة، بين الشاعر ونحلة عطشى إلى رحيقه، تحوم حوله، تطن في وجدانه، تغرز إبرتَها في ذاكرته، تحرِّضه على البوح، تغتصب أسرارَه ولا يغضب. أدونيس في كرسي اعتراف، والعرَّافة ابنتُه نينار، في كتاب يجمع بينهما كموعد لتعارف أعمق، هو أبعد من الحاضر وبين الماضي والآتي. فتاة، تقف منذ الصغر عند باب شبه مقفل، تتوق أن تقتحم ما في داخله – ولا تتردد. جريئة في غوصها على عالم واسع من شعر علي أحمد سعيد إسبر، "أدونيس" الشعر العربي. سألتْ، وانتظرتْ جوابًا عن كلِّ سؤال، واضحًا، مباشرًا، لا التواءات فيه ولا مواربات. وإن عَبَرَ سؤالٌ بلا جواب، تكون له في المرصاد، فتعيده إليه في إلحاح وعناد.
كتاب أحاديث مع أدونيس، والدي، الصادر عن دار Seuil الفرنسية، ليست حوارًا بين شاعر وصحافية. فنينار تخطَّت بأسلوبها الجدارَ الرقيق الذي يفصل الخلاق عن محدِّثه، وخرقت الهالةَ الحارسةَ حميمياتِه، لما لها من دالَّة عليه، وألفة. عرفنا أدونيس شاعرًا يكيل بقصائده الزمن على مساحات المدن، وطائرًا يحلِّق بذاكرته في اتجاه الريح، منشدًا مع "مهيار الدمشقي". أما الهوية غير المكتملة فمداره حوار أدبي شاعري مع شانتال شواف – إلى أن جاءت هذه "النحلة" تمتص من نُسَغ غابة بكاملها، شرهةً، تُتعِب ولا تَتعَب، في نفسها فضول لمعرفة هذا الأب بحذافيره: طفولته، قريته، الذاكرة، الحب، الجسد، البطل... وعناوين معظمها بالإنكليزية، مستعارة من أغانٍ تحبها لغلوريا غينور وسيرج وشارلوت غينسبورغ وديفيد بويي وماريلين مونرو وغيرهم. في مقدمة الكتاب، تقول نينار إنها أرادت هذه المقابلات مع والدها لأنها كانت في حاجة إلى التعرف إليه، أو بالأحرى، إلى تمضية وقت معه: "أردت أن يروي لي أشياء تكون أجوبة عن أسئلتي، كابنته، لا كصحافية، لا كأديبة، لا ككاتبة." لذلك لم تسعَ إلى أسئلة "فلسفية" تبهره بها، بل جاءت إليه حرةً من الأقوال المعقدة، في مسايرة ساذجة أحيانًا، ذكية أحيانًا أخرى، متطفلة في أكثر الأحيان دون رقابة. فنينار تخرج في أسئلتها على إطاره الشعري البحت ورؤاه فيه. الرابط بين سؤال وجواب هو أدونيس الرجل، الأب، والشاعر. فهل سعت هذه "العفريتة" إلى حيلة المناقشة والجدال للوصول إلى علاقة أب وابنته؟ – هي التي لم تعرف منه سوى القليل. تعترف نينار بأنها لم تتأسف على غياب الأب في أثناء طفولتها ومراهقتها، لأن "هذا الغياب سمح لي بتطوير شخصيتي بلا حواجز، رغم ضرورة الحواجز". لها في هذا الصدد تشبيه جميل عن هذا الغياب: حين نكبر وفي خيالنا صورة عظيمة عن الأب الغائب، فكأننا لا نتقن فن السباحة، نرى البحر أمامنا، شاسعًا والأرض الصلبة تتوارى تحت قدمينا، فلا يعود من احتمال سوى الغطس في الماء. وعلى هذه الدرب، بعد غرق وصعود، نعود إلى إيقاعنا، ونلتقي الأب كمكافأة، كخبر سعيد. هي تسأل: "كيف السبيل لأن نتدارك الشيخوخة؟" يجيب أدونيس: الشباب مرتبط بالشيخوخة. لكن هذا النوع من الأسئلة لا ينطبق على جميع البشر. لكلِّ امرئ حياة خاصة ومميزة، ودرب يسير فيها أو لا يسير. المهم أن تسأليني إذا كان لحياتي من معنى. لقد أعطيت حياتي معنى في الكتابة لأن الكتابة سمحت لي بأن أفهم نفسي وأفهم العالم الذي أعيش فيه. بها وسَّعتُ حدودي. لذا أنا مقتنع بأن الشباب والشيخوخة مرتبطان أحدهما بالآخر. تسأله: "هل المؤلفات التي يتركها الكاتب بعد موته تحيا بعده كأنه لم يمت؟" يجيب: إذا تسنَّى لامرأة أن تعيش مع عبقري كپيكاسو، فهذا لا يعني أنها فهمت فنَّه حين كان على قيد الحياة. ثمة حاجز يقف بينهما سببه الغيرة والمنافسة والكراهية. أما بعد الموت، فيصبح فهمُه محتمَلاً، إذ تسقط الحواجز ويبقى الفن. في مستطاع الموت، أحيانًا، أن يضيء على شخص وعمله. تسأله: "خبِّرني عن حياتك في قريتك، عن سنوات الفقر وأشياء مقلِقة أثَّرتْ فيك؟" يجيب: يصعب عليَّ أن أتذكر ذلك كلَّه. لكن ما أحب أن أتكلم عنه هو هدوء الطبيعة والليل. هذه الوحدة في القرية تربطنا بالأرض وبالكون أكثر مما تستطيع المدينة أن تفعل. أول مرة زرت المدينة تهيأ لي أنه لم يعد في استطاعتي العودة إلى الريف، كأني إذا عدت فكمن يزور مقبرة. مع الوقت، انقلب الشعور: أخرج من القبر لأهرول نحو الطبيعة. تسأل: والمنفى؟ ألا تظن أن المنفى فرصة مؤاتية، بالعذابات التي يحملها، وبالشعور بالعزلة والافتقار إلى روابط الطفولة، وبهذا التمزق الذي يجعلنا نعثر على مدى ولغة وثقافة ووجوه جديدة؟ فيجيب: الفنانون، المفكرون، الشعراء، هم في كلِّ حال في المنفى. منفاهم في قلب مجتمعهم، وحتى في لغتهم. الخلاَّقون لا "يشعرون" بالمنفى. هو فيهم. فتسأله: "في أيِّ مكان يقع منفاك؟" يجيبها "المنفي": كان لديَّ شعور طوال سنوات حياتي بأن الدرب التي أمشي عليها هي درب منفى. مذ كنت في سوريا كان عندي هذا الشعور. كنتُ دومًا على هامش المجتمع والفكر السائد آنذاك. وحتى في لبنان، كنت في تنقُّل دائم من منطقة إلى أخرى ومن منزل إلى آخر. حياتي كلها مسار طويل نحو المنفى. هذا المنفى أصاب لغتي العربية. أنا منفي داخل جزيرة اسمها اللغة العربية. وتسأله: "كيف تحدد الأبوة؟" يجيب الأب: في جميع المجتمعات، ولاسيما العربية منها، يمثل الأب السيد المطلق المطاع الذي يربِّي أولاده على صورته وقيمه وأخلاقه. ثمة دراسات عديدة انتقدت هذه المجتمعات لأنها تدمِّر الأولاد ولا تمنحهم ذاتيتهم. ما كتبه هشام شرابي تحليل لهذه الظاهرة. أنا شخصيًّا، كما فعل والدي من قبلي، لم ألعب هذا الدور. أردت أن تكبرا [أرواد ونينار، ابنتا الشاعر] من دون تدخُّلي، الشيء الذي أثَّر عليكما تأثيرًا سلبيًّا. اعتقدتُ أن والدتكما كافية لملء هذا الفراغ. كنت على خطأ. ليتني أعيد عقارب الوقت إلى الوراء، لأبتكر تصرفًا آخر مع أرواد ومعك. لقد كنت طوال هذا الوقت في أسفاري منشغلاً في العمل وكسب الحياة. تذكِّره نينار بأنه كان دومًا غائبًا، يدرِّس في الولايات المتحدة أو في فرنسا. محاضرات وأسفار. تخاطبه: كنتَ غائبًا حتى عندما تكون بيننا، غارقًا في عالمك، أحلامك. أجبرتَني على التفتيش عنك في الناس، لا في قراءتك. وكنت أخشى دومًا أن أجدك خوفًا من أن أعثر فيك على الشاعر. كنت أولاً أريد الأب. اضطررت أن اهتم بالمتصوفة، بشعر ابن عربي أو الحلاج. كان لا بدَّ لي أن أجد شرحًا للامرئيَّتك، أن أجدك في الملموس. في الفصل الأخير من الكتاب شيء من العتاب الحنون. ثم تنتقل نينار إلى عالمها الفني لتلوم والدها لأنه لا يهتم بهذا العالم، حتى لو قال لها إن أفلامها تشبه القصائد. ثم تقول له: أنت شاعر عَصْرَنَ الشعر العربي، لكنك محاط بنحاتين ورسامين كلاسيكيين. لقد تعرفت مذ وصلت إلى باريس إلى الراقص المسرحي كيينا باوش، وتعرفت أيضًا إلى مسرح بوب ولسون، وحضرت مع شقيقتي أرواد في نيويورك عرضًا لكلود واميلر أدهشني. هذا ما كنت أبحث عنه. أما حين كنا في بيروت، فإن أرواد كانت تستعير أفلام الفيديو لفيلليني وبازوليني وهتشكوك، وهذه صور انتقشتْ فيَّ وساعدتْني في تشييد عالمي. أدونيس: تروين هنا سيرةً تُبرِز مذاقاتك الفنية وعلاقتك بالفن. نينار: لأني أبحث في الفن عما يدهشني، يجعلني أحلم. في الختام، تعود نينار إلى حرب بيروت، إلى القنابل والقذائف التي كانت ترسم على الجدران وجوهًا مقرَّحة: هذا العدم أثَّر فيَّ ومنحني توقًا لرسم أشكال غير منتظَرة في فضاءات عادية. *** *** *** عن النهار، الأربعاء 12 نيسان 2006
|
|
|