|
إطلالةٌ
على العبرمناهجية ومستويات الواقع (قراءة
في ثلاثة مقالات عبرمناهجية) يعمل
كثيرٌ من المفكرين وعلماء التربية والاجتماع
على تقديم معالم لمشروع تربوي يسعى في سبيل
مستقبل أفضل للبشرية. وهم يوجهون، في الوقت
نفسه، سهامَ نقدهم إلى هندسات الإصلاح
العاجزة والمتناسية للإنسان؛ كما يرون ضرورة
توفُّر رؤية شمولية للمنظومة التربوية.
وهم، في عملهم هذا، يسعون جاهدين لتبيين خطورة
النظرة التجزيئية في قضايا التربية
والتعليم. وفيما يلي قراءة في ثلاثة مقالات
تربوية حداثية لعلماء مفكرين صرفوا جلَّ
طاقتهم في التنظير لمسائل تربوية واجتماعية
وفكرية. إدغار موران أولهم إدغار موران، الذي
رأى في محاضرته "سبعة ثقوب معرفية سوداء"[2] أن تعليم
المواد الدراسية والاختصاصات مفصول بعضها عن
بعض، مما أدى إلى إيجاد "ثقوب معرفية سوداء"
ابتلعت كلَّ إمكانية لتشكُّل معارف جديدة؛ إذ
جعل هذا الفصلُ والتخصص أمرَ إصلاح النظام
التعليمي شبه متعذر. في مقابل ذلك، رأى موران
أن مهمة الجامعة هي مهمة جامعة للاختصاصات،
مطالَبة بأن تحمي الثقافة وتصون مستقبلها
الشمولي. وهذا ما كان في الحقيقة منافيًا
للواقع. أما أندريه بورغينيون، فقد
وقف في مقالته "من تعددية المناهج إلى
العبرمناهجية"[3]
عند مسألة تطور المناهج: من تعددية مناهجية،
إلى بينمناهجية، إلى عبرمناهجية. وقد تعرَّض
إلى العصر الإغريقي القديم الذي كان يفصل بين
العلوم العملية والشعرية وبين العلوم
النظرية، إلى العصر الوسيط الذي تشكَّلتْ فيه
العلومُ العملية، التي شملت الهندسة والحساب
والفلك والموسيقى، والعلومُ الأدبية، التي
ضمت النحو والبلاغة والمنطق، وصولاً إلى
القرن التاسع عشر، الذي طُرِحَتْ فيه مسألةُ
تصنيف المناهج، من الرياضيات، إلى علم
الاجتماع، مرورًا بالفلك والفيزياء وعلم
النفس إلخ، فأصبح لكلٍّ منها قوانين وحسابات
خاصة. وقد تضمن جزءٌ رئيسي من
مقالته ولادة العبرمناهجية، حيث ولد هذا
المصطلح في العام 1970 عندما وقف جان بياجيه
بمناسبة مؤتمر حول البينمناهجية وقال: "عند
شوط العلاقات البينمناهجية، نأمل أن يلي شوطٌ
أعلى سيكون عبرمناهجيًّا، لا يكتفي ببلوغ
تفاعلات أو مبادلات بين الأبحاث الاختصاصية،
إنما يضع صلاتٍ داخل منظومة كلِّية لا حدود
مستقرة فيها بين المناهج." وهو يخلص في
نهاية مقالته إلى ضرورة اجتياز هذه المناهج
وتخطِّيها من أجل رؤية جديدة للإنسان وللكون. بسراب
نيكولسكو في المقابل، نرى بَسَراب
نيكولسكو، في مقالته "العبرمناهجية
والتعقيد"[4]،
ينظر إلى الواقع كمستويات، ويشكك في العقيدة
الفلسفية المعاصرة القائلة بوجود مستوى واحد
للواقع، بل يرى له مستويات عدة. وهو يقصد
بـ"مستوى الواقع" "جملةً من المنظومات
غير متغيرة، ينظمها عددٌ من القوانين العامة".
ويبين أن المشكلة الرئيسية للمستوى الواقعي
ليست عدم الاتساق معه، بل الاتساق معه حصرًا،
أي النظر إليه من زاوية واحدة فقط والتغاضي عن
باقي الجوانب الممكنة. ومن هنا فهو يرى أن
وجود مستويات واقع متعدد الأبعاد، متعدد
المرجعيات، مرده إلى وجود مستويات مختلفة
لإدراك الذات الراصدة للواقع. العبرمناهجية
والمناهج المدرسية يرى كلٌّ من بورغينيون
وموران ونيكولسكو أن الحل الأمثل لقضايا
التعددية والمنظومة التربوية الحالية يكمن
في العبرمناهجية، أي في "ما هو في آنٍ معًا بين
المناهج المتعددة، عبر المناهج
المختلفة، وفيما يتعدى كل منهج". وغاية
هذه الحركة هو فهم العالم الحاضر الذي من
مستلزماته وحدة المعرفة، التي تقوم على
الإدراك والربط وعلى تعلُّم غربلة التأثيرات
الثقافية التي تمارسها علينا المدرسةُ
والعائلة ومراجعتها. لذا ينبغي لنا، على
المستوى التربوي، تدريس كيفية إقامة علاقة
حوار بيننا وبين أفكارنا. إن العبرمناهجية، من وجهة
نظر هؤلاء، تتطلب القدرة على تنظيم المعلومات
وتأطيرها ضمن سياقها. وبدلاً من أن يواجه
تدريسُنا هذا المشكل، فإنه يتبنَّى منهاجًا
يفصل بين الاختصاصات وبين المواد الدراسية،
وبذلك يُضعِف قدرةَ الإنسان على وضع الأفكار
في سياقها وتأطيرها التأطير المولِّد للمعنى.
والحكمة هنا تكمن في فنِّ استيعاب هذه
المعارف وهضمها، لتساعدنا في حياتنا الخاصة
من خلال تبنِّي فكر علائقي، يتأمل ويفكر
في العلاقات وينظر إلى الواقع على أنه مبني
على مستويات عديدة. وبهذا المعنى، يمكن لنا
الحديث عن تطور المعرفة وفق تصور دائري،
غير خطِّي، يعمل على ضرورة ترسيخ تعاوُن بين
مناهج مستقلة، ابتغاءَ توسيع فهم مجال معين
أو بلوغ هدف مشترك. فقصيدة للجواهري – "يافا"
مثلاً – يمكن لنا من خلالها، إضافةً إلى
تدريس مهارات اللغة وجماليات الأدب، تدريس
معارف مختلفة، كالتاريخ، والجغرافيا،
والسياسة (النكبة)، إلخ. أنْسَنَة
المعرفة إن كوننا كائنات تنفرد
بالثقافة واللغة والوعي والبعد الروحي يجعل
منا وصفًا مثيرًا. فنحن ننتمي إلى هذا الكون
انتماءً قويًّا، ونتعالى عنه بالوعي. نحن
أفراد ينتمون إلى مجتمع، وفي الآن نفسه إلى
النوع البشري. والأدب (وبصفة خاصة الرواية)
يستطيع أن يُظهِر لنا عمق الإنسان، ويكشف
عالمه الداخلي، كما يُظهِر لنا الذوات من
خلال طريقة تفكيرها، وتوترات أهوائها
وطموحاتها، وحماقتها وذكائها، وعلاقاتها
الاجتماعية وسياقها التاريخي. بفضل الأدب
نستطيع معرفة الذات الإنسانية؛ بل هو ما ننفذ
به إلى أعماقنا. وهذا ما ينبغي للمدرسين أن
يفهموه ويستوعبوه، وأن يوجهوا التلاميذ
إليه، بغضِّ النظر عن تخصصاتهم. وكذلك الشعر، لأنه يشكل
انفتاحًا على شاعرية الحياة، وهو باب آخر
يمكن أن نلج منه إلى عمق العالم الإنساني
الشاسع والثري. وعليه، عندما ننظر إلى
الإنسان من زاوية مظهره الاقتصادي أو التقني
أو العقلي فقط، فإننا لا نرى من هذا الإنسان
إلا جانبًا واحدًا فقط. والحال إن المظاهر
الشاعرية للحياة هي تلك التي نتعرض لها من
خلال التعاطف والتواصل مع الآخرين، في العطاء
وفي الحب. لذا فمن الأهمية بمكان أن نتعلم كيف
نحيا الحياة في شاعرية، كيف نستضيف الشعر
في حياتنا. ومعرفة الشرط الإنساني
للعبرمناهجية لا يتوافق مع اختزال الإنسان
إلى بنيان صوري، بل يستدعي الربط بين
الاختصاصات التي تدرَّس اليوم منفصلةً
بعضها عن بعض. ومن أجل بلورة الهوية
الإنسانية، لا بدَّ من توجيه عقول
المتعلِّمين نحو الربط بين المواد
والاختصاصات من أجل الإنسان، حتى تؤدي إلى
فهم الإنسان لأخيه الإنسان. والعبرمناهجية
تمثل جهدًا لإدراج كلِّ ما لا تأخذه المناهج
في الحسبان في المعرفة، وإعادة مَرْكَزَة
الإنسان في قلب الكون، من خلال توجُّه إنساني/كوني/شمولي
مشترك للمناهج من أجل مَرْكَزَتها حول حاجات
الإنسان وتطلعاته. اليقين ومبدأ
عدم التحديد يتفق موران ونيكولسكو على
أن البشرية تعمل عملاً مستمرًّا لتطوير
أساليب لمواجهة مفاجآت الحياة. وهذا، على
حدِّ قولهما، ما تسعى العبرمناهجية إليه، لأن
اللايقين والمحتمل يشكلان جزءًا مهمًّا في
حياة الناس. والعلماء، منذ فجر القرن
العشرين، حققوا تقدمًا في مجال اللايقين
والمحتمل. فبعد أن كانت علومٌ كعلوم الفيزياء
تقوم على حتميات مطلقة يقينية لا مجال للشك
فيها، أصبحت، بعد ظهور الفيزياء الكوانتية،
تعتمد في أحيان كثيرة على تنبؤات واحتمالات.
وقد تمثَّل ذلك في المبدأ المعروف باسم "مبدأ
اللاتعيُّن" أو "اللايقين" الذي صاغه
هايزنبرغ. وأصبح الشك في نتائج النظريات
العلمية أساسيًّا بعد أن كانت تُعتبَر
مسلَّماتٍ نهائية ومطلقة. وما ينطبق على العلوم ينطبق
على التاريخ البشري، الذي غالبًا ما يُعتقَد
أن له غاية محددة سلفًا. غير أن انهيار
الإمبراطوريات على مرِّ التاريخ، كالآشورية
والبابلية والفرعونية والرومانية، وكذلك
العثمانية والسوفيتية، يبين أن التاريخ لا
يحكمه قانونٌ حتمي، بل فيه مفاجآت ونتائج غير
متوقعة. لذا ينبغي تدريس المواد في إطار
اللايقين والمحتمل لمواجهتهما. فعندما يبدأ
فعلٌ ما في وسط اجتماعي، فإن ذلك الفعل يفلت
تدريجيًّا من إرادة الفاعل ليغيِّر اتجاهه أو
مساره. مثال على ذلك غورباتشوف الذي أراد
الإصلاح في الاتحاد السوفييتي، فعجَّل في
انهياره وتفككه؛ وكذلك صدام حسين الذي عمل
ليكون صاحب مشروع قومي، فكانت النتيجة إلى ما
آل إليه. فالفعل، في أحيان كثيرة، لا
ينتهي إلى هدفه المرصود، بل غالبًا ما ينحرف
عنه. وهذا ما يدفعنا إلى التعلم وإلى معرفة
كيفية بلورة الاستراتيجيات، وكذلك الآليات،
بحيث تكون مرنةً وعلى استعداد لإدخال
المعلومات والمعطيات بحسب المفاجآت والطوارئ.
وعليه، يجب أن نعمل دائمًا على "توقُّع
اللامتوقَّع" – وهو ما تتوخاه
العبرمناهجية –، ولاسيما أننا ندرك أن معاهد
المستقبليات كلَّها لن تسعفنا في جعل
المستقبل أمرًا أكيدًا، على الرغم مما تضع من
سيناريوهات. مستقبل
العبرمناهجية على مستوى الواقع إذا عرف الإنسان حاضرَه
معرفة جيدة، فسيعرف بالضرورة مستقبله معرفة
أفضل. ولأن الحركة العبرمناهجية وضعت في
مستهلها، ونصب عينها، توحيد المعارف في
منظومة كلِّية دون حدود مستقرة بين المناهج،
فهي ترمي لأن تصبح إنسانوية جديدة، وأن
تعطي من جديد معنى للحياة الإنسانية من منظور
شمولي. غير أنها لا تنسى أن من المتعذر رصد
مستويات الواقع جميعًا في وقت واحد، لما
لكلِّ مستوى من خصوصية. لذا فهي ترى أن الإنسان
يجب أن يتمتع بحدس قوي للتكامل مع مفردات
الكون وبقدرة على الربط والتواصل مع المعارف
المجزأة تعسفًا. كما ترى هذه الحركة أن من
الضروري إعادة تأهيل المدرسين، بحيث يكون في
مقدورهم القيام بتدريس يتطلب تأهيلاً متينًا
يتجلَّى في إكساب المعلِّم رؤيةً شموليةً
للمعارف المختلفة تمكِّنه من توليفها أو
تركيبها. عندئذٍ يكون الإصلاح ممكنًا، ويمكن
لنا التقدم ومواجهة قدرنا. فلسطينيًّا، نرى أن
جامعاتنا تخصِّص المعارف وتجزئها ضمن برامج
أكاديمية؛ وتكون هذه المعارف متطلبات
إلزامية تعطى للطلبة، حيث لا يمكن أن يتخرج
أحد من الجامعة دونها. على أن هذه المواد، إذا
ما أعيد تشكيلُها، يمكن لها أن تعمل على إيجاد
أرضية فكرية جامعة وثقافة يمكن أن تشكل
قاسمًا معرفيًّا مشتركًا ونموذجًا يمكن
البدء منه بمَرْكَزَة الجهود لحركة
عبرمناهجية. كما أن تعليم مواد خاصة
إنسانوية، يمكن أن نطلق عليها "المواد
الناعمة"، كمهارات الاتصال والتواصل،
والعلاقات العامة، ومنهجية التفكير، وبرامج
الكمپيوتر، وبرامج إدارة الأزمات
وحلِّ المشكلات، من شأنه أن يعمل على إيجاد
نواة مشتركة تساعد الجميع على الربط والفهم
والتواصل وإدراك العلاقات الإنسانية في
صورتها الشمولية، وذلك في مدخل إلى
العبرمناهجية. كما أن مثل هذه "المواد
الناعمة" تفسح المجال للتعامل مع كثير من
التخصصات المنفصلة وفق تصور دائريٍّ في سبيل
الجمع والتوفيق فيما بينها. أخيرًا، ومن جانب آخر، يبدو
ضروريًّا وجودُ قاسم مشترك بين معلِّمي
المراحل الدراسية، يتمثل في رسم مشاهد لأهداف
عليا، كل في تخصصه، مع الاستفادة من التخصصات
الأخرى – وكلها يسعى إلى إيجاد الشخصية
المتكاملة لدى الفرد وتقويتها لمواجهة
المواقف الثقافية والاجتماعية والأزماتية في
الحياة، كالقدرة على التعبير، والتحليل،
والنقاش، واستيعاب الآخر، وتفهم الآراء
المضادة، ومحاورتها، حتى يكون الفرد مؤثرًا
ومتأثرًا في شكل إيجابي. ***
*** *** [1]
معلم وعضو "منتدى معلِّمي رام الله"
وعضو "بيت المقدس للأدب". [2]
إدغار موران، "سبعة ثقوب معرفية سوداء".
المصدر مجلة معابر: http://maaber.50megs.com/issue_september05/epistemology2.htm. [3]
أندريه بورغينيون، "من تعددية المناهج
إلى العبرمناهجية"؛ المصدر مجلة معابر:
http://maaber.50megs.com/forth_issue/epistemology_2a.htm. [4]
بَسَراب نيكولسكو، "العبرمناهجية
والتعقيد: مستويات الواقع كمصدر لعدم
التعيين"؛ المصدر مجلة معابر: http://maaber.50megs.com/tenth_issue/epistemology_1a.htm. |
|
|