|
كتابان
في "نظرية الشواش" "الفوضى"
في النظام و"النظام" في الفوضى يزداد
يومًا بعد يوم اتكالُ العلوم، وخاصة
الفيزياء، على لغة الرياضيات – لدقتها
وإيجازها. وتُمكِّننا دراسةُ قصة هذا الاتكال
التدريجي على الرياضيات من فهم المسلَّمات
التي اعتُمِدَتْ حتى أمكنت صياغةُ النماذج
الرياضية المتَّبعة. فهل إن الطبيعة أو بعض
أجزائها أو بعض سيروراتها يخضع لعلاقة (أو
لمعادلة) رياضية؟ اختلفتِ المدارسُ
وتفرَّعتْ في ردِّها على هذا السؤال
وتشعُّباته العديدة. غير أن ثمة أمرًا أكيدًا:
إذا أردنا التنبؤ تنبؤًا مقبولاً بموقع
القمر، لنقل بعد عشرة أيام مثلاً، لا بدَّ لنا
من أن تكون في حوزتنا علاقةٌ رياضيةٌ تربط بين
موقع القمر الحالي وبين القوى المؤثرة فيه (وهي
هنا جاذبية بقية أجسام المجموعة الشمسية،
كتقريب أول) والزمن إلخ. ولا شك أننا في
علاقتنا الرياضية نهمل عوامل مؤثرة أخرى.
فمثلاً، تؤثر على القمر، كذلك، أجسامُ كوننا
الأخرى، من مجرات وأشباهها؛ ونحن نُسقِط قيمَ
تأثيراتها من علاقتنا بحجة أنها عوامل صغيرة
جدًّا لا أثر ملموسًا لها. بعد هذا التقريب
الأول وغيره وصياغة العلاقة، يعمد المختصون
إلى حلِّها؛ ويعني ذلك حساب موقع القمر،
مثلاً، في اللحظة المطلوبة. ويتعامل الرياضيون مع أنواع
مختلفة من المعادلات (أو العلاقات) يمكن
تصنيفها، في صورة تبسيطية، في زمرتين:
العلاقات الخطِّية (وهي بسيطة الحل في وجه
عام)، والعلاقات اللاخطِّية (حلها صعب أو
متعذر في وجه عام). ونقصد بـ"خطِّية" linear
علاقةٍ الخاصيةَ التي بحسبها إذا
كان للعلاقة حلان (أو أكثر) أمكن الجمعُ
بينهما بحيث نحصل على حلٍّ جديد لها. كمثال
بسيط على ذلك، نذكر موجاتِ الماء التي يرتطم
بعضُها ببعض مشكِّلاً موجةً جديدة. أما العلاقات "اللاخطِّية"
non-linear
فهي لا تقبل بهذه الخاصية "الجمعية".
والواقع أن أغلب العلاقات التي تصف ظواهر
الطبيعة أو السلوك البشري وغيرهما ينتمي إلى
الزمرة اللاخطِّية. لكن هذه العلاقات الأخيرة
لا تقبل الحلَّ في وجه عام، أو لنقل إن حسابها
يتطلب وقتًا غير معقول؛ لذا يحاول الرياضيون
تبسيطها مرة أخرى من خلال إهمال حدود يُعتقَد
أنها لن تؤثر على النتيجة إلا تأثيرًا
محدودًا ومهمَلاً. وقد تنبَّه إلى هذه الناحية
عددٌ من الرياضيين، من أمثال هنري پوانكاريه
منذ القرن التاسع عشر. وقد أجرى پوانكاريه،
مثلاً، حساباتٍ مطولةً لبعض هذه المعادلات،
ولدهشته، تبين له أن سلوك هذه العلاقات أغنى
وأعقد بكثير مما كنا نعتقد، وأن التقريب
المتَّبَع يُخفي تمامًا حالاتٍ أو ظواهر
عديدة عن منظورنا. ونظرًا لطول الحسابات
وتعقيدها، أهمل الباحثون هذا الجانب من
الرياضيات، لكنه عاد مجددًا إلى الظهور بفضل
الكمپيوتر الذي تسمح سرعتُه الفائقة بأن نمضي
أبعد في هذه الحسابات. تتصف العلاقاتُ اللاخطِّية
بفرط حساسيتها للشروط الابتدائية. فإذا
انطلقنا من نقطتين تبعد الواحدةُ منهما عن
الأخرى مسافةً لامتناهية في الزمن، فإننا
سنرى، بعد انقضاء زمن معيَّن، أن المنحنيين
اللذين ترسمهما النقطتان يختلفان اختلافًا
كليًّا. ذلك ما أسماه بعضهم بـ"أثر الفراشة"
Butterfly
Effect، حيث يُشبَّه أثرُ
المسافة اللامتناهية في الصغر بأثر خفقان
جناحَي الفراشة الضئيل. تمثل هذه النتيجةُ ضربةً
أخرى للفلسفة الحتمية Determinism
التي تقول بأنه إذا أمكن تعيين الشروط
الابتدائية لمنظومة ما أمكن التنبؤ بحالاتها
المستقبلية كلِّها. إذ إنه لا يمكن أصلاً
تعيين هذه الشروط في دقة تامة. وهكذا لا يمكن
لنا، مثلاً، أن نؤكد أن القمر سيدور دائمًا
حول الأرض! في عبارة أخرى، يؤدي خطأ صغير في
تحديد الشروط الابتدائية (أو الأولية) إلى
سلوك (مدارات أو مسارات، بحسب المسألة) مختلف
تمامًا، يُدعى بالسلوك "الشواشي" chaotic،
لأن المعادلات اللاخطِّية لا تسمح لنا بمعرفة
شكل المنحني مسبقًا (كأن نقول إنه دائرة أو
قطع ناقص إلخ). المعادلات اللاخطِّية هي، إذن،
"حتمية" (كل نقطة تتحدد بالنقاط التي
سبقتْها)، ولكنها، في الوقت نفسه، "عشوائية"
random
(لا نعرف موقع النقطة القادمة قبل حسابها). حل معادلة لاخطِّية هو
المنطقة أو النقطة التي تقع في جوارها نقاطُ
المنحني كلما مضينا في الحساب أبعد. ويسمي
الرياضيون هذه النقطة (أو المنطقة) بـ"الجاذب"
Attractor.
والجواذب أنواع ("الثابت"، "شبه
الدوري"، "الدوري"، "الغريب"،
إلخ)، مما يسمح بتصنيف السيرورات المختلفة.
ولا بدَّ لنا من أن نعود عودةً مفصَّلة إلى
هذه المفاهيم في غير مكان لأن مثل هذا التوسع
يخرج عن نطاق مراجعة الكتب. المهم هنا، إذن، أن نفهم
الشيء التالي: إن غالبية العلاقات التي تصف
عالمنا – كالطقس، كالمعادلات الخاصة بنواحٍ
اقتصادية عديدة، كالمعادلات التي تحاول وصف
السلوك البشري أو الشبكة العصبية، إلخ –
لاخطِّية كلُّها؛ أي أن لها سلوكًا شواشيًّا:
إذ لا يمكن لنا معرفة موقع النقاط التي ستلي (عدم
إمكانية تحديد شكل المسار أو المنحني). وذلكم
هو السبب عينه الذي لا يسمح للأرصاد الجوية
بالتنبؤ بحالة الطقس بعد أكثر من أربعة أيام (إذا
قبلنا أصلاً بأن المعادلات المبسطة
المستخدَمة تصف الطقس في دقة). عالمنا، إذن، بحسب الأسطر
السابقة، "شواشي"، لا يمكن لنا معرفة
حالاته المستقبلية إلا في زمن ودقة محدودين.
وداخل هذا "الشواش" تظهر الكائناتُ
والأشياءُ (الأشكال) التي يصفها "الجاذب".
وذلك صحيح حتى في الحالات البسيطة، كأن نأخذ
كمية إنتاج القطن في العالم في المئة سنة
الفائتة، في محاولة لإيجاد علاقة، فنجدها
شواشية! نجد اليوم باحثين من مختلف
حقول العلوم الصحيحة والإنسانية يحاولون
البحث عن الجاذب الاجتماعي أو النفسي لسلوك
ما إلخ. يبدو، إذن، أننا بحق أمام ثورة جديدة
في العلوم، أمام رؤية جديدة تتفق مع مفاهيم
الانتظام الذاتي Self-regulation
والتقدم الذاتي وعلم المنظومات Systems
Science. ومن سخرية القدر أن
الفيزياء الكوانتية التي بدلَّت الكثير في
مفاهيمنا عن السببية ليست شواشية! إذ إن
معادلة شرودِنغِر (معادلة الموجة في هذه
الفيزياء) معادلة خطِّية. ويقوم بعض الباحثين
بتقصٍّ معقد وغير أكيد للبحث عن الشواش في
الكوانتا.
وكتاب الشواش: صناعة علم
جديد لمؤلِّفه جيمس غلايك[1]
كتاب رائع، مزود بصور عديدة، ويصف كيفيةَ
ظهور "علم الشواش" Chaos
Theory الجديد في مختلف
الميادين: فيزياء، رياضيات، ذكاء اصطناعي،
اقتصاد، إلخ، ويبين كيف انطلق كل عالم في
ميدانه، منعزلاً وهامشيًّا في أغلب الأحيان،
ليكتشف في ما بعد أن علماء آخرين يسيرون على
الدرب نفسه – حتى إننا نجد اليوم أقسامًا
كاملة في الجامعات، تجمع بين اختصاصيين
مختلفين وتتخصَّص في الشواش. يصف غلايك
الأسُس الرياضية والنظرية لهذا العلم الجديد
في وضوح رائع، لكنه يدخل أحيانًا في تفصيلات
غير هامة عن حياة العلماء. غلاف
كتاب الحساب واللامتوقع أما كتاب الرياضي إفار
إكِلاند الحساب واللامتوقَّع: صور الزمن من
كپلر إلى توم[2]
فهو أوجز، ويهدف إلى تفسير الأسُس الرياضية
لهذا العلم الجديد (دون أن يذكر اسمه!) تفسيرًا
مبسطًا. وقد حاز الكتاب على جائزة جان روستان (وهو
متوفر بالإنكليزية كذلك). يجد القارئ في كتاب غلايك
وصفًا رائعًا لأبعاد ماندلبروت "الكسورية"
fractals.
ولا يأتي إكِلاند على ذكرها، في حين يشرح
نظرية توم في الكوارث الرياضية Theory of Catastrophes
التي لا يأتي غلايك على وصفها
البتة. لهذا يتكامل هذان الكتابان؛ وهما معًا
مدخل ممتاز إلى هذا العلم الجديد. ستكون لنا، من غير شك، عودةٌ
إلى "نظرية الشواش" مع تكاثُر الكتب التي
تُنشَر حولها. ***
*** *** تنضيد:
نبيل سلامة |
|
|