|
التقمُّص في المسيحية المبكِّرة§ أوريجينِس الإسكندراني نموذجًا يبدو
واضحًا للعيان أن المعرفةَ بقانونَي كَرْما
karma
والتقمص Reinkarnation
كانت
بالتأكيد موجودة في عهد المسيح، بل وكانت
جزءًا من مادة التفكير المسيحي القديمة.[1]
ولا بدَّ هنا من أن نسأل: كيف ضاعت لاحقًا هذه
المعرفة؟ ولو أردنا – بهدف تقديم إجابة عن
هذا السؤال – البحثَ والتقصِّي في تاريخ
مفهوم التقمص في المسيحية المبكرة، علينا أن
نكون على يقين من الحقيقة التالية، التي
غالبًا ما يتم تناسيها إلى يومنا هذا: لم
تعرف المسيحية المبكرة، في القرون الأولى
التي تَلَتِ المسيح، تعاليم متينة تشبه،
مثلاً، تعاليم الكنيسة الكاثوليكية، التي
تُعتبَر قاعدةً راسخة للمسيحية في أيامنا. كانت
المخطوطات الأصلية للعهد الجديد تمثِّل،
بالدرجة الأولى، أساسَ الاعتقاد المسيحي؛
ولكنها لم تكن تتضمن عرضًا مُمَنْهجًا منظمًا
لتعاليم دينية أو فلسفية من أيِّ نوع، بل
اقتصرت على قَصَص متناثرة متفرقة، فيها قليلٌ
من الجهد لإظهارها في سياق زمني مرتَّب
تاريخيًّا، أو على حوارات قصيرة أو رسائل. إلى
جانب ذلك، عُدَّتْ كتاباتُ آباء الكنيسة
ووُعَّاظها أساسيةً وحاسمة؛ وهي كتابات
عالجتْ موضوعاتٍ مختلفة، ولكنها لم تكن
متطابقة في جميع النقاط. لم
تكن "الكنيسة" ekklèsia،
كمصطلح، تُفهَم باعتبارها تنظيمًا أو
مؤسَّسة متماسكة، بل كمجموعة أو جماعة غير
مترابطة، تتألَّف ممَّن كانوا يسعون إلى فهم
الرسالة التبشيرية للمسيح وحوارييه والحياة
على هَدْيٍ منها. والحقيقة
الهامة أيضًا، دونما شك، هي أن المسيحية
الأولى لم يكن فيها فصلٌ بين كنيسة يونانية
وأخرى رومانية؛ إذ إن جميع معلِّمي الكنيسة
الكبار الأوائل نشأوا من حلقة الثقافة
اليونانية، فصبغوا التعاليم المسيحية
الناشئة بالطابع الإغريقي.[2] كان
تطور التعاليم الكنسية، في القرون الأولى بعد
المسيح، تحدِّده أساسًا النظرياتُ اللاهوتية
التي وَضَعَها علماءُ الكنيسة الأوائل في
مجامعهم الكنسية الخاصة. ولكن كلما كانت
المسيحية في القرون اللاحقة تقترب في تطورها
من شكل الدين العالمي، القويِّ اقتصاديًّا
وسياسيًّا، كان الكثير من الأفكار الأساسية
الأصلية يُمَّحى ويضيع منها شيئًا فشيئًا؛
وغالبًا ما كانت الأفكار العالمية الشمولية
هي التي تحلُّ محلَّها، لو تعمَّدنا التلطيف
في صياغة العبارة. ومن الواضح للعيان أن
المباحث اللاهوتية المعمَّقة ستصل بنا حتمًا
إلى المسيحية المبكرة، لأن المسيحيين
الأوائل لم يكونوا أقرب إلى المسيح زمنيًّا
فحسب. وإننا
لنود فيما يلي توثيق هذه الحقيقة. ومثالنا في
ذلك واحدةٌ من أكثر شخصيات المسيحية المبكرة
تفوقًا ونفوذًا: شخصية أوريجينِس
الإسكندراني (185-254)، الذي لا يُذكَر مفهوم
التقمص دون أن يُذكَر اسمُه مرتبطًا به. كان
أوريجينِس من أوائل العلماء الكبار،
المتبحِّرين في الكتاب المقدس، الذين
عرفتْهم المسيحية، بل ومن أعظمهم إطلاقًا.
لقد كان عالمًا اكتسب ثقةَ الوسط الثقافي
الإغريقي في ذلك الوقت واحترامَه؛ وكان، إلى
ذلك، الوحيد الذي عَرَض، في قالب أدبي،
تعاليم المسيحية على شكل منظومة فلسفية
مستقلة، وعَمَدَ، لكي يضع مقولاته على أسُس
مقدسة، إلى وضع نسخة نصِّية شاملة للعهد
القديم – هي الـهِكْساپلا Hexapla
– بحيث أمكن له أن يجعل مقولاته
وعلومه تستشهد دومًا بها. كان يجيد اللغة
العبرية (لغة النصوص الأصلية للعهد القديم)،
إلى جانب اللغة اليونانية؛ وقد تعلَّم فوق
ذلك الآرامية (وهي لغة المسيح الأم) حتى يتمكن
من قراءة النصوص باللغة الأصلية التي
تكلَّمها المسيح شخصيًّا والتي دُوِّنَتْ
بها حياتُه وتعاليمُه. يمكن
لأوريجينِس، دون مبالغة، أن يوصف بأنه عالم
موسوعي على مستوى العالم. إنه الشاهد على
المعرفة المسيحية الرفيعة ومعلِّمها البارز.
ومازالت تَرِكَتُه الأدبية تمثِّل، حتى
القرن الحادي والعشرين، أكثر استدلالات
الكتاب المقدس تنوعًا وعمقًا.[3] كان
أوريجينِس رئيسًا لمدرسة اللاهوت الشهيرة في
الإسكندرية، التي كانت فيها أكبر مكتبة في
العالم القديم، ضمَّتْ مجموعة من المخطوطات
هي الأكثر تنوعًا في عالم تلك الأيام؛
ويُجمِع الكثيرُ من المختصين على أن العديد
من نصوص الفيدا الأصلية باللغة
السنسكريتية كانت توجد في تلك المكتبة، لأنه
في ذلك الوقت سادَ تبادلٌ ثقافي وفلسفي
نَشِطٌ بين علماء الحضارات الإغريقية
والفارسية والهندية. في
العام 389 م، قُدِّرَ لهذه المكتبة الفائقة
الأهمية أن تحترق وتأكل النارُ محتوياتِها،
لأن مسيحيًّا متعصبًا هو البطريق ثيوفيلوس
عَمَدَ إلى إشعال النار فيها؛ وهكذا قُضِيَ،
بسبب هذه الفعلة الشنعاء، على معارف ثمينة لا
تعوَّض، مما جعل البحث التاريخي اليوم أصعب
وأعقد. ومن المهم ملاحظة أنه ما من أحد بين
العلماء الذين أتوا بعد أوريجينِس، استنادًا
إلى تلك الحقيقة، كانت تتوفر له ظروفُ البحث
العلمي التي توفَّرتْ لأوريجينِس، ولا حتى
لهؤلاء الذين حاولوا في وقت متأخر دَحْضَ
تعاليمه وتفنيدها. في
اختصار، اطَّلع أوريجينِس على مجمل الوثائق
الأصلية المتوفرة عن المسيحية، سواء منها
مخطوطات اليهود والإنجيليين أو رسائل
الحَواريين، وكذلك على المخطوطات التي توصف
اليوم بأنها "منحولة" apokrypha؛
وكانت لديه، إلى ذلك، معرفةٌ معمَّقة
بالفلسفات اليونانية والفارسية، وبفلسفة الفيدا
أيضًا، كما يُظَن. قرأ
أوريجينِس نتاج فيثاغوراس وأفلاطون وأفلوطين
وأمُّونيوس سَكَّاس الإسكندراني (175-242)،
مؤسِّس مذهب الأفلاطونية الجديدة. وهذه
المعرفة الشاملة في مجال اللاهوت التي
امتلكها هذا العلاَّمة الفريد جعلت
ديمتريوس، أسقف الإسكندرية آنذاك، يبعثه في
رحلات تبشيرية، لاسيما حين كان الأمر يتعلق
بالتصدي للخلافات في الرأي بين رجال اللاهوت.
وقد أوكل إلى أوريجينِس، كما ذكرنا، رئاسة
مدرسة التعليم المسيحي المزدهرة، وعَهَدَ
إليه بمهمة التدريس الكنسي فيها. وديمتريوس
هذا هو الأسقف نفسه الذي كان أول من ساق
الاتهاماتِ ضد علوم أوريجينِس "الضلالية"
فيما بعد؛ ولم يكن تصرفه هذا يستند إلا إلى
دافع الأنانية والغرور المَرَضي والحسد.
فعندما احتفل الأساقفةُ في فلسطين (قيصرية Caesarea)،
التي كان أوريجينِس يتوقف فيها مطوَّلاً
لغاياته التعليمية والإرشادية، بتكريس
أوريجينِس "شيخًا" Presbyter،
لمعرفته الزاخرة وقُرْبه من القلوب، وجد
ديمتريوس في ذلك تعدِّيًا على حقوقه، وانتهز
فرصة غياب الرجل لنَزْع الاعتراف بمشيخيَّته
وإبعاده. وكان هذا في العام 231 م. وربما
كانت قضية أوريجينِس هذه أول مثال في تاريخ
الكنيسة على النزاع بين أحد علماء الكنيسة
المستقلين وبين شخصية السلطة الكنسية التي
تظلِّله وتعلوه. وهو أول مثال في النظام
التراتُبي الكنسي على كفاح من أجل الحقيقة
يواجه قتالاً من أجل تثبيت السلطة؛ ولكنه،
للأسف، لم يكن اليتيم ولا الأخير! ففي القرون
اللاحقة، كيلت الاتهاماتُ بالهرطقة
والإلحاد، مرارًا وتكرارًا، لتعاليم هذا
الذي يُعتبَر من أعظم علماء المسيحية، وهو
الرجل الذي ما عَرَفَ زمانُه متضلعًا خبيرًا
بلغ شأوَه أو ارتقى إلى رتبته. بعد
وفاة أوريجينِس، قام بعضُ أساطين اللاهوت
بحَمْلِ أفكاره وتبنِّيها، بحيث عمَّتِ
النزاعاتُ اللاهوتية حول تعاليمه وانتشرتْ،
مع تعصب لا يمكن تخيُّله، حتى في عصرنا الحالي.
ففي القرن السادس الميلادي، أي بعد 300 عام على
وفاته، وبسبب هيمنة حالات تشبه الحرب الأهلية
بين مجموعات من الرهبان في فلسطين أولاً، قام
بعضُ معارضي أوريجينِس في العام 542 م بتسليم
المبعوث البابوي پلاجيوس، المقيم في فلسطين،
شكوى مخطوطةً موجَّهة إلى القيصر جوستنيانوس
الأول في القسطنطينية (بيزنطة). وقد أدَّت هذه
العريضة، مقرونةً بالدوافع الأخرى، إلى
استبعاد تعاليم أوريجينِس رسميًّا من
الكنيسة المسيحية الصاعدة. وسوف نأتي إلى الحديث
بالتفصيل عن سياق استبعاد علوم أوريجينِس.
لكننا نريد، في البداية، أن نلقي ظلالاً من
الانتباه، ونتفحَّص، بمزيد من الدقة، ما
سُمِّيَ أفكار الزندقة والهرطقة التي
سبَّبتْ مثل هذه الخلافات العميقة ومثل هذه
النزاعات الدموية في تاريخ المسيحية الأولى. تعاليم
أوريجينِس كتب أوريجينِس أكثر من 2000
مخطوطة، ضاع للأسف قسمٌ كبير منها. أما ما
وصلنا من أعماله فلم يكن باللغة الأصلية التي
كُتِبَتْ فيها، بل هي الترجمة اللاتينية التي
قام بها روفينوس الأكويلي، الذي ذَكَرَ
شخصيًّا في المقدمة أنه وجد نفسه مُلزَمًا،
عندما باشر الترجمة من اليونانية إلى
اللاتينية، بإجراء تصويبات جوهرية لا
تُخالِف مفاهيم العقائد الكنسية! تم العثور في مصر، منذ عقود
قليلة فقط، على بعض المخطوطات الأصلية التي
كَتَبَها أوريجينِس والتي ظَهَرَ، بعد
المقارنة، أنها تحمل، في كثير من المواضع
الهامة، افتراقًا واضحًا عن ترجمة روفينوس.
ويمكن لنا، من خلال النصوص المتوفرة، أن
نلخِّص مبادئ تعاليمه كما يلي: أوضح أوريجينِس معلِّمًا أن
للعلوم نظامًا تراتُبيًّا يجب أن يقف على
قمَّته علمُ اللاهوت، معرفةُ الربِّ الإله،
وليس الفلسفة: إذا
كان أبناءُ المعرفة في الرياضيات والموسيقى
والقواعد والبلاغة والفلك يقولون إنها بنات
الفلسفة، فإننا نستطيع أن نقول الشيء نفسه عن
علاقة الفلسفة باللاهوت. وقد طلب لاحقًا من رجال
اللاهوت التعرف إلى جميع الكتابات العلمية
والفلسفية القديمة المتوفرة ودراستها وعدم
إغفال أيٍّ منها، بل إعطاء الكلِّ أذنًا
مصغية، وضَرَبَ هو نفسه أبلغ مثال على ذلك. مزج أوريجينِس في تعاليمه
مزجًا معمقًا ما بين المسيحية والأفلاطونية
الجديدة – وهو ما اعتبرتْه الكنيسةُ
تجاوُزًا كبيرًا – ووصف، كالأفلاطونيين
الجُدُد، في كتابه الأهم المبادئ De Principiis
العلاقةَ بين الربِّ والبشر (النفوس)
كالعلاقة بين الشمس والأشعة الصادرة عنها؛
وهي مقارنة توجد، كما ذَكَرَ هو نفسه، في الفيدا
(في الفشنوپورانا Vishnu Purāna).
والمسيح، كابن لله، يقف كوسيط على مسافة
واحدة من الربِّ ومن البشر. وقد علََّم
أوريجينِس أيضًا أن مجمل الخلق، سواء منه
العالم الروحي غير الفاني أو العالم المادي
الجسماني المحدود الأجَل، قد خَلَقَه الله،
وأنه "ليس ثمة جوهر أو معنى لم يستمد وجودَه
من ذات الله [...]." بكلمات أخرى، تنطلق
المعاني كلُّها (سمَّاها أوريجينِس اللوجيكا
Logica
أو اللوغوس Logos) من
جوهر الله؛ فهي خالدة لهذا السبب، لأنها
مرتبطة بالله برباط القربى؛
إذ كانت جميع المعاني ("العقل الكلِّي" أو
اللوغوس) في الأصل جوهرًا غير مادي، ذابت في
الظهور الربَّاني المباشر لإلهها المشترك. ومن المهم هنا
إجراء المقارنة بين صورة التلاحُم بين الربِّ
والعالم والإنسان التي وَضَعَها أوريجينِس
وبين مقولات فلسفة البهَـغَـفَدغيتا Bhagavad-gītā
الهندية المتعلقة بالموضوع، التي كان يعرفها
من غير شك: أنا
أصْلُ الخَلْقِ كلِّه: كلُّ شيء في العالم فهو
يصدر عنِّي؛ والحكماءُ، إذ يعرفون هذا،
ممتلئين إخلاصًا، يتعبَّدون لي. (ب.غ. 10: 8) هذه
الهيولى الأولى هي أمُّ الصور التي تولد من
مختلف الأرحام كلِّها، وأنا هو الآب باذر
الحياة فيها، أيا ابن كونتي [أرجونا]. (ب.غ. 14: 4) وقد علَّم أوريجينِس أيضًا
أن الفروق الفردية بين الجوهر السماوي
والأرضي السفلي لا تنشأ إلا في حال استبعاد
الرب، وأن علَّة هذه الحال وسببَها يجب عدم
البحث عنها في الخالق، لكن في جوهر الحياة
بالذات، لأن سبب الاختلاف والتنوع بين
المخلوقات الفردية يعود إلى حركاتها الذاتية
التي تكون تارة أكثر نشاطًا وحيوية، وتارة
أخرى أكثر تثاقُلاً، بحسب ما تتميز به من
فضيلة أو إثم، ولا يعود إلى اختلاف المعاملة
التي يعاملها بها مدبِّر العالم. وفيما يلي أيضًا ما يشابه
ذلك من تعاليم الغيتا حول أشكال التجسد
("الخواص" guna)
الثلاثة: إن
خواص سَتْفا [الخير]
ورَجَس [الهوى] وتَمَس [البلادة]
الثلاث، المولودة من الطبيعة، هي التي تشد
النفس التي لا تموت إلى الجسم، أيا أرجونا
الباسل. (ب.غ. 14: 5) يقال
إن المادة هي علَّة صُنْع الجسم والحواس؛ في
حين يقال إن النفس هي علَّة اختبار اللذة
والألم. والنفس، إذ تستقر في المادة، تتمتع
بالخواص المولودة من الطبيعة؛ والتعلق بهذه
الخواص هو علَّة ولادتها في أرحام صالحة
وأخرى طالحة. والروح العليُّ، حتى حين يسكن في
هذا الجسم، يظل على تعاليه عن الطبيعة
المثلَّثة الخواص. ولقد قيل فيه إنه الشاهد،
المرشد، الرزَّاق، ومختبِر [اللذة والألم]،
الربُّ العليُّ، والذات العليَّة.
(ب.غ.
13: 20-22) وبحسب
أوريجينِس، فإنَّ مَن يحدِّد المكان الذي
يوجد فيه المعنى وفقًا لحركته الخاصة هو
الإرادة الذاتية الحرة التي هي أعظم هِبَة
وَهَبَها له الخالقُ والتي تتمكن النفسُ
عِبْرَها من الاختيار بين أن تكون في رِكاب
الربِّ أو ضده. كتب أوريجينِس: لقد
كَفَلَ الربُّ للعقلاء الذين خَلَقَهم
حركاتِهم الحرة التي تحدِّدها إراداتُهم
والتي، بواسطتها، ينشأ الخيرُ الخاص في
داخلهم لأنهم يصونونه بإراداتهم الخاصة:
فالخمول والسأم الذي يطرأ على عزيمة المحافظة
على الخير، والابتعاد عن الصَّلاح وإهماله،
هي ما يدفع إلى الابتعاد عن الخير. لم يقتصرِ
الأمرُ على أوريجينِس فقط، بل كان الأمر كذلك
في نظر عالِم آخر من علماء الكنيسة الكبار،
يتمثَّل إنجازُه الكبير في وضع أول ترجمة
لاتينية للكتاب المقدس (الفولغاتا Vulgata)،
ألا وهو هيرونيموس الدالماتي (347-419) الذي تتفق
لديه المنقولاتُ الإغريقية القديمة مع ما
نَقَلَه إلينا الكتابُ المقدس؛ وقد كتب في رسائله
Epistolae: جميع
المخلوقات العاقلة اللاجسمية وغير المرئية،
إذا سقطتْ في الإهمال، تنزلق تدريجيًّا وتنحط
إلى الدَّرَكات السفلى، وتتخذ أجسامًا، بحسب
موضع الدَرَك الذي انحدرتْ إليه ونوعه. فهي
تكون في البداية من الأثير، ثم من الهواء؛
وعندما تقترب من الأرض تحيط نفسها بأجسام
أكثف، إلى أن تصير مغلولةً ومقيَّدةً باللحم
البشري. ويغير المرءُ جسمَه على الأغلب مثلما
يغير مقرَّه عند الانحطاط من السماء إلى
الأرض. وكتب هيرونيموس في رسالة له
إلى ديمتريوس: إن
علم التقمص عند المسيحيين الأوائل تمَّ
تناولُه كتقليد سِرِّيٍّ أُخفِيَ عن غير رجال
الدين وكُشِفَ للصفوة وحدها. يتبيَّن لنا من هذه
المقبوسات، سواء من أوريجينِس أو من غيره من
رجال اللاهوت والفلاسفة ومعلِّمي الكنيسة
الأوائل، من نحو جوستنيانوس الشهيد (100-165)،
وتتيانوس (القرن الثاني)، وكليمنضوس
الإسكندراني (150-214)، وجاورجيوس النيقي (334-395)،
وسينيسيوس القيريني (370-413)، والقديس
أوغسطينوس (354-430)، ونيميسيوس أسقف حمص (400-450)،
أنهم تبنَّوا وجهة النظر القائلة بأن نفوس البشر موجودة حتى قبل أن يوجد العالم
المادي.
في عبارة أخرى، كان جميع هؤلاء المعلِّمين
الكنسيين مقتنعين بفكرة أصبحت مثارًا للنزاع
الفكري فيما بعد – ونقصد فكرة الوجود
السابق للنفوس؛ وهي، كما ذكرنا، شرط مهمٌّ
لعلم التقمص. وقد أقرَّها الكتاب المقدس في
الفقرة التالية منه: قال
الرب لي: "قبل أن أصوِّرك في البطن اخترتُك،
وقبل أن تخرج من الرحم كرَّستُك، وجعلتُك
نبيًّا للأمم." (إرميا
1: 4-5) وفي
كتابه المبادئ، تبنَّى أوريجينِس تبنيًا
مباشرًا مبدأي كَرْما والتقمص. فقد قال
مثلاً: إذا
أراد المرء أن يعلم كيف تكون النفس البشرية
مطواعةً للخير، في آنٍ، ومطواعةً للشرِّ، في
آنٍ آخر، عليه أن يفتش عن السبب في الحياة
التي سبقت الحياة الحالية. كلُّ واحد منَّا
يسعى إلى الكمال عِبْرَ تعاقُب حيواته. إننا
ملزَمون أن نعيش على الدوام حيواتٍ جديدة
وأفضل من سابقاتها، سواء على الأرض أو في
عوالم أخرى. إن اندماجنا في الله الذي
ينقِّينا من كلِّ سوء يعني نهاية تكرار
ولادتنا. ويكتب في موضع آخر: نتيجة
الانجذاب نحو الشرِّ، يتخذ بعض النفوس
أجسامًا تكون في بداية الأمر بشرية؛ وبعد
انصرام فترة حياتها البشرية تستبدل، بسبب
شهواتها الحيوانية، بأجسامها القديمة
أجسامًا حيوانية، وتبدأ، انطلاقًا منها،
بالهبوط إلى المستوى النباتي، ثم تبدأ من
حالتها هذه بالعروج وارتقاء الدرجات نفسها
التي هبطت منها، عائدةً إلى منازلها السماوية. وبحسب أوريجينِس، يكمن في
النهاية مغزى الحياة بأسرها وغايتها ضمن
العالم المادي في تصفية النفوس وتطهيرها
عِبْرَ العديد من التقمصات، حتى تقوى كلها في
نهاية المطاف، عِبْرَ اتِّباعها وصايا
المسيح ومحبتها واندماجها في الله، على
العودة من جديد إلى الملأ الرباني الخالد: [...]
لأن الربَّ لا يوجِّه النفوس ملتفتًا فقط
إلى هذه الخمسين أو الستين عامًا التي تعيشها
على الأرض، بل إلى خلودها الأبدي؛ ولأنه صنع
المادة الروحية غير فانية ومن ذاته شخصيًّا.
وإن النفوس العاقلة غير مستبعَدة من عملية
المعالجة، وكأنها تقتصر فقط على حياتها
الأرضية. [...] [هذه
العودة إلى الله] يجب ألا يتخيَّلها المرءُ
وكأنها حادث فجائي، بل مرحلي متدرِّج، يتحقق
عِبْرَ أزمنة لا تُحصى وغير محدودة في طولها،
بحيث تستوعبها عمليةُ التحسين واحدًا إثر آخر. بعضهم
يتعجَّل ويسرع في الارتقاء إلى الأعلى،
وبعضهم يتقدَّم مسافاتٍ قصيرة، وبعضهم الآخر
يغور من جديد إلى الأسفل. [...] وهكذا
توجد مراتب لا حصر لها من المُرْتقين الذي
انتقلوا من الخصام مع الله إلى المصالحة معه.
وفي النهاية، يقف العدو الأخير المسمَّى
بالموت، الذي ستعمُّه الإبادة كذلك، ولن يعود
عند ذاك عدوًّا. المقولة السابقة هذه تستشهد
برسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس: فلا
بدَّ له أن يملك "حتى يضع جميعَ أعدائه تحت
قدميه". والموت آخر عدوٍّ يبيده (1
كورنثوس 15: 25-26)، التي يفسِّرها أوريجينِس
فيما يلي: إبادة
العدوِّ الأخير لا يُفهَم منها إفناء مادته
التي خلقها الرب، بل إرادته العدوانية التي
لا تنبعث من الرب، وإنما تنبع منه بالذات. [...] سوف يُباد ليس لأجل ألا يوجد
لاحقًا، ولكن لكي لا يكون مستقبَلاً عدوًّا
وموتًا. إن الإمكانية الوحيدة
المتوفرة، وفق ثيولوجيا الغيتا، أمام النفوس
لكَسْرِ هذه الحلقة المغلقة التي تدور عليها،
أي التغلب على العدوِّ الأخير المسمَّى
بالموت، هي أن تنأى بنفسها عن الخلق العدائي
المواجه للربِّ وأن تيمِّم وجهَها صوبه مرة
أخرى: أما
أولئك المتوحِّدون في الإخلاص لي،
والمسلِّمون جميعَ الأعمال لي، يعبدونني،
أنا الإله المتجلِّي، يتفكرون دومًا بي
مخلصين بجَماع ذهنهم. هؤلاء، أيا پارتها [أرجونا]،
إذ يثبِّتون عقلَهم فيَّ، سرعان ما أنجِّيهم
من بحر الولادة والموت. (ب.غ. 12: 6-7) استبعاد
المعرفة عن التقمص إنه لمن المؤسف إلى أقصى
حدٍّ أن مجمل المؤلَّفات التي تضم علوم
أوريجينِس لا تتوفر لدينا بالكامل، ولا حتى
في نصِّها الأصلي، بل يجب ترقيعها وترميمها
من كتابات الآخرين ممَّن كانوا، إلى حدٍّ ما،
أعداء للرجل. وعلى الرغم من ذلك، فإن الشهود
على معرفته بـكَرْما والتقمص كثيرون،
لدرجة أننا نعجب اليوم كيف جرى، إلى يومنا
هذا، تقديمُهم كعديمي الأهمية، أو كيف غُضَّ
الطرْفُ عنهم! ونجد هنا مثالاً على لجوء
الكنيسة المؤسَّساتية على مرِّ الزمن إلى
اقتطاع مادة الفكر الأصلية في المسيحية وإلى
اجتزائها لكي تقيم، بدلاً منها، عمارتَها
التعليمية الخاصة الضيقة الأفق التي خلقتْها
هي بنفسها. لقد سرقت الكنيسة من الدين المسيحي
– وهي تزعم أنها الوصية عليه! – أجزاء من
المعرفة الأساسية عن العلاقات التي أعطت
معنًى لتعاليم المسيح إلى الإنسانية؛ ومن
بعدُ استبدلت بالأجزاء المنتزَعة من هذا
الأساس المتين عقائدَ عمياء لا تكفي. عند التمحيص الدقيق في هذه
الأمور، تنتصب أمام علماء التاريخ الحاليين
مشكلةٌ معقدة، هي أن متعصِّبي الماضي قاموا،
دونما تبصر، بإتلاف القرائن التاريخية
وتزويرها، وكافحوا مخالفيهم في الاعتقاد،
ليس فقط بالوسائل العقائدية الروحانية، بل،
وقبل أيِّ شيء آخر، بالأساليب البوليسية،
وحتى الحربية؛ ومَن خرج منتصرًا من أمثال هذه
المعتركات سعى إلى إعلان رؤيته وكأنها
الحقيقة الوحيدة التي لا حقيقة بعدها. إذا أراد المرء اليوم أن
يحدِّد فيما إذا كانت المسيحية الأولى تشتمل
على علم التقمص، عليه أن يكشف النقاب عن
الخلفيات السياسية لذلك الزمن. وقد قلنا
سابقًا إن المسيحية المبكرة في عصر أوريجينِس
لم تكن تعرف بعدُ عقائد راسخة، ولم يكن قد
فُهِمَ بعدُ من مصطلح "الكنيسة" تلك
المؤسَّسة الصلبة، وكان تطور تعاليم الكنيسة
يتحدد أساسًا بنظريات عقيدية أقرَّتْها
المؤتمرات والمجامع الكنسية. عندما أضحت المسيحية في
القرن الرابع الميلادي الدينَ الرسميَّ
للدولة الرومانية، بدأت أولى العقائد
تُخرِجُ أعناقها. ومعروف أن ظهور هذه العقائد
الكنسية لم يكن يعتمد نظامًا داخليًّا؛ فهي
لم تُصَغْ كحقائق عقائدية صالحة في شكل عام،
ولكن كمبادئ لصدِّ المعتقدات التي لا تتماشى
مع مصالح الكنيسة والتي تحتَّم إعلانُها
كعقائد مضلِّلة. بدأ رسميًّا بعد مجمع نيقية Nicea
في العام 325 م (وهو أول مؤتمر كبير
في تاريخ المسيحية)، وحتى قبل هذا التاريخ كما
يُظَنُّ، التنقيحُ المعروف، أي تعديل
المواضع غير المرغوبة أو غير المفهومة في
العهد الجديد. وقد فوَّضتْ السلطاتُ الكنسية
إلى المصحِّحين الذين عيَّنتْهم لهذا الغرض
تصحيحَ النصوص المدوَّنة ضمن السياق
والمفهوم الذي يعتقده صاحبُ السلطة صحيحًا.
ومن المحتمل حينذاك أن يكون قد جرى حذفُ
العديد من المواضع المتعلقة بالتقمص من العهد
الجديد؛ ولم تتوقف هذه العملية في المجامع
المسكونية الثلاثة اللاحقة – أي مجمع
القسطنطينية (381 م)، ومجمع إفِسُس (431 م)، ومجمع
خلقيدونية (451 م) – بل على العكس، فقد عملوا،
في وضوح أكبر، على إبراز المسيح باعتباره
مخلِّص عصرنا الوحيد، وزيَّنوا لكلِّ
مسيحيٍّ حقيقيٍّ أن تحرُّره من موت الجسم
المادي يكون حصرًا عبر المسيح وكنيسته؛ وتمَّتْ
بذلك طبعًا إزاحةُ علوم التقمص في شكل ملحوظ:
فهي ليست صالحة للمسيحي الحقيقي (ولم تعد
مرغوبة)، حتى حُذِفَتْ نهائيًّا من بعدُ في
المجمع المسكوني الخامس في القسطنطينية (553 م). لو قرأ المرء في تمعُّنٍ
تاريخ المجامع المسكونية وظهور العقائد،
لتوصَّل إلى استنتاج مفاده أن هذا التاريخ
صاحَبَه الكثيرُ من النزاعات المريرة حول
العقيدة الصحيحة؛ ولكن الموضوع لم يكن
متعلقًا بمبادئ الدين أو بمصلحة المؤمنين
بقدر ما تعلَّق بالدور القيادي للكنيسة
وبتأثيرها. وبما أن الأمر، في نهاية
المطاف، لم يكن يعدو كونه قرارًا سياسيًّا
يدور حول المفهوم والرأي الذي ينبغي فرضُه،
فإن على المرء أن يستنتج أن هذه العقائد قد
ترسَّبت فيها، بالدرجة الأولى، المصالحُ
الكنسية الأنانية. أما التفسير اللاحق حول مساهمة
الروح القدس في صياغة هذه العقائد، أو أن الله
قد أوحى بها من عنده، فهو صعب التصديق في
ضوء هذه الظروف، ولا يقبله عاقل. ولا نجد
أمامنا في هذا المجال إلا أن نلاحظ بانتباه
عملية الإزاحة التي تعرَّضتْ لها علومُ
التقمص والتي سوف نلخِّصها فيما يأتي. نتيجة للكثير من الأسباب،
التي جزءٌ منها سياسي سلطوي والجزءُ الآخر
أناني بشري، نَشَبَ الكثيرُ من المجادلات
اللاهوتية حول تعاليم أوريجينِس بعد موته،
وعلى الأخص في مجال الدينونة أو "علم
الأشياء الأخروية" Eschatologia.
وبما أن أوريجينِس اعتُرِفَ به في كلِّ مكان
كشخص مميَّز في الكنيسة القديمة، وكان
الشخصية التي يستشهد بها الأنصارُ والخصومُ
على حدٍّ سواء، فإن المعرفة عن التقمص
ارتبطتْ باسمه أكثر فأكثر. أخذت النزاعات والدسائس
الكنسية الداخلية فيما يخص أوريجينِس تحتد في
القرون اللاحقة، وغَدَتِ الحاجةُ ألح إلى
اتخاذ قرار فَيْصَل في هذا الموضوع. وقد وقع
في منتصف القرن السادس حدثٌ خطير، كانت
عاقبتُه إزاحةَ علم التقمص واستبعاده من
المسيحية الرسمية المؤسَّساتية. سينودُس
القسطنطينية 543 م في العام 543 م، جرى التداعي،
بضغط من القيصر الروماني جوستنيانوس الأول
(527-565) إلى عقد سينودُس للكنائس الشرقية،
كان هدفُه المعلَن القضاءَ دفعةً واحدة على
جميع الفروق اللاهوتية المستمرة منذ 300 عامًا
وذات الصلة بتعاليم أوريجينِس. وقد فَرَضَ
المجمعُ على هذه التعاليم، دون أيِّ اعتبار
لموقف فيجيليوس Vigilius،
بابا الكنيسة الرومانية آنذاك، تسعةَ
حرمانات anathemata،
كان أولها هو الحرمان الحاسم المتعلق بفكرة
التقمص وأسبقية وجود النفس؛ وقد نصَّ على ما
يلي: لو
أن أحدهم قال أو عبَّر عن أن النفس تسبق
الوجود، باعتبارها جوهرًا خفيفًا أو قوى
مقدسة أدركها السأمُ، فبَرِمَتْ برؤية
الربِّ ويمَّمتْ وجهَها صوب المساوئ، ولهذا
خمدتْ محبةُ الربِّ في داخلها، ومن أجل
معاقبتها أُنزِلَتْ إلى الأرض داخل جسوم
تسجنها، فهو ملعون ملعون. وفوق ذلك لَعَنَتْ
الحرماناتُ التسعة هؤلاء الذين لا يعتقدون
بالعقاب الأبدي الأليم المُعَدِّ للجنِّ
وللبشر الذين لا ربَّ لهم. وكانت جميع تلك
الحرمانات مدفوعةً بإيحاء من القيصر
جوستنيانوس، الذي اعتبر نفسه السيد المطلق
على الكنيسة، ومن زوجه، صاحبة الدسائس،
ثيودورا. وحول هذا القيصر المريب،
كتب المؤرخ جورج أوستروغورسكي ما يلي في فصل
"تاريخ الدولة البيزنطية" من كتاب المرجع
في علم الأقدمين (1963): بقي
جوستنيانوس كمسيحي رومانيًّا أيضًا؛ وكانت
فكرة استقلالية الوسط الديني غريبةً عنه
تمامًا، فعامَل الآباء والبطارقة باعتبارهم
عبيده. وكما أدار شؤون الدولة، أدار أيضًا
بالطريقة نفسها الحياةَ الكنسية، فلم يترك
صغيرة ولا كبيرة من القانون الكنسي إلا
تدخَّل فيها شخصيًّا. وعبَّر عن ذلك في وضوح أكبر
كلٌّ من آلتْنِر وشتويبِر في كتاب الپاترولوجيا:
حياة آباء الكنيسة وكتاباتهم وعلومهم (1966): حاول
جوستنيانوس، عِبْرَ التسييس الإرهابي
للاهوت، تكفير المحرِّضين الروحيين في
الماضي والحاضر، وكانت لديه طموحات لتلميع
صورته ككاتب لاهوتي. وكتب هرمان باوِر في العام
1982 في كتاب تأثير روما الشرقية (بيزنطة): كان
الأمر في نظر جوستنيانوس أقل صعوبة، لأن
البابا فيجيليوس المستقر في روما أمل في
معونة القيصر العسكرية لمواجهة خطر القوط من
الشرق. وكان، إلى جانب ذلك، دميةً في يد
ثيودورا، زوجةِ القيصر، التي يعود إليها
الفضلُ في تسنُّمه منصب البابوية في العام 537. كانت
شخصية القيصر وحالة الحرب العامة في شرق
الإمبراطورية الرومانية والخطر المحيق من
جراء مواجهة جبهة دينية سياسية في الداخل
تتألَّف من مجموعات رجال الدين والرهبان في
فلسطين من مريدي أوريجينِس (الأوريجينيين) هي
الأسباب التي قدَّمتْ المبرِّر والدافع
السياسي لاستبعاد علم التقمص. أما الدافع الآخر، فقد
تمثَّل في ثيودورا، زوج جوستنيانوس الطَّموح
والمُحِبَّة للسيطرة، التي كانت، بحسب ما
قاله المؤرِّخ پروكوبيوس، ابنة سائس دِبَبَة
في مسرح بيزنطة المكشوف، وبدأت كمحظيةٍ طريقَ
صعودها الكوكبي إلى السيطرة على
الإمبراطورية، وأمرت فيما بعد، بصفتها
الإمبراطورة "الطاهرة العفيفة"، بإساءة
معاملة 500 من بنات الهوى رفيقاتها في الصنعة
وتعذيبهن لكي تقطع صلتها تمامًا بماضيها
المشين. وبما أنها، وفقًا لقوانين كَرْما
التي تبنَّاها أوريجينِس في كتابيه المبادئ
وضد كِلْسيوس Contra
Celsium، سوف تكفِّر عن
أعمالها المشينة في حياتها اللاحقة، فقد
سَعَتْ في بساطة لدى القيصر إلى إبطال أية
علوم عن العودة إلى الحياة؛ ولا بدَّ أنها
كانت مقتنعة تمام الاقتناع بفعالية هذا
الإبطال، لو تمَّ من خلال "قرار إلهي". ما هي الدوافع المريبة التي
تقف خلف حقيقة لَعْن تعاليم أوريجينِس في
سينودس الكنائس الشرقية في القسطنطينية في
العام 543؟ لأن الحرمانات مَهَرَتْها، بتأثير
ضغط لم يفترْ من القيصر، بتواقيع مجموع
البطارقة الحاضرين، وفي النهاية توقيع
البابا نفسه، الذي استُقدِمَ كُرْهًا إلى
القسطنطينية في العام 544 لهذه الغاية. وبهذه
التواقيع استطاعت الكنيسة، لأسباب دنيوية
محض، أن تضع أوريجينِس، أهم علماء اللاهوت في
المسيحية القديمة وأبرزهم، على نَسَقٍ واحد
مع الهراطقة والمضلِّلين! ولا بدَّ لنا أن
نقبل بالتأكيد أن عواقب ذلك كانت تطهير وثائق
الكنيسة، أكان ذلك استبعادًا أو تحريفًا، من
كلِّ ما يتعارض مع المبادئ العقيدية الكنسية.
وعلى البحث التاريخي المعاصر أن يستدل على
المواضع التي جرى إغفالُها أو إسقاطُها علنًا. مجمع
القسطنطينية 553 م: غلطة تاريخية بعد عشر سنوات، أي في العام
553 م، أدينت من جديد تعاليمُ أوريجينِس في
التقمص وأسبقية النفس في المؤتمر المسكوني
الخامس في القسطنطينية، وخرجت في نهاية
المجمع حرماناتٌ تُماثِل في محتواها
الحرمانات القديمة؛ وبذلك أُعلِنَ رسميًّا
أن علم التقمص علم وثني مضلِّل، جرى
استبعادُه شرعيًّا. ومنذ ذلك التاريخ، حُظِرَ
أشد الحظر على كلِّ مسيحيٍّ مؤمن، مخلص
للكنيسة، أن يعتقد بالتقمص. وهذا، بطبيعة
الحال، ما يؤمن به عمليًّا، إلى يومنا هذا،
جميع مؤرِّخي الكنيسة والقسم الأعظم من
المسيحية العالمية. لقد سقط علم التقمص في
المسيحية القديمة في العام 553 م ضحية غلطة
وخيمة العاقبة، لأن اللعن الرسمي الوهمي لعلم
التقمص يعود فقط، كما ذكرنا آنفًا، إلى
تظاهرة سلطوية فردية موجهة شخصيًّا من
الإمبراطور البيزنطي. ثمة أجزاء مهمة من وثائق
المجمع المتعلقة بقضية أوريجينِس قد ضاعت،
إما مصادفةً وإما زُوِّرَتْ لاحقًا لأية
أسباب كانت، أو أنه لم يَجْرِ تداولُها
مطلقًا – وهو ما نرجِّحه – في جلسات المجمع
الرسمية الثماني المخصَّصة لموضوعة
أوريجينِس ولَعْنِه، لأن الجلسات اهتمت فقط،
كما يذكر پروتوكول المجمع، بقصة "جمعية
الرهبان الثلاثة"، أو العلماء الثلاثة
الذين وَصَفَهم جوستنيانوس بالملحدين، وأصدر
قبل أربع سنوات مرسومًا ضدهم. وعلى الرغم من
أنه لم يتم التطرُّق إلى سيرة أوريجينِس
علنًا، إلا أننا نجد اللعن التالي في البند
الحادي عشر من المجمع: ملعونٌ
كلُّ مَن لا يلعن جميع كتابات وتصانيف
أوريجينِس الملحدة وجميع الهراطقة الآخرين
المغضوب عليهم من الكنيسة الرسولية
والكاثوليكية المقدسة. من المعتقَد أن يكون هذا
اللعن الغريب قد قدَّمه جوستنيانوس قبل
افتتاح مؤتمر البطارقة الذين احتيج إلى
وجودهم لتسطير تواقيعهم فقط. ومن المهم أيضًا
أن البابا فيجيليوس لم يشارك في أية جلسة من
الجلسات، على الرغم من أنه كان موجودًا في
القسطنطينية بناءً على أمر القيصر في وقت
مثير للجدل (من 5 أيار إلى 2 حزيران من العام 553).
لهذا السبب، لم يتصدَّر البابا المجمع، كما
هو مألوف، بل بَطريقُ القسطنطينية إفطيخيوس،
الخادم المخلص للقيصر جوستنيانوس. واللافت أيضًا أنه لم
يُسمَح سوى لبعض أساقفة البلدان الغربية
بالحضور من أصل 165 أسقفًا حضروا المجمع، بينما
رفض الأساقفة الآخرون أن يشاركوا في ظلِّ تلك
الظروف. وكان هذا يعني أن مجمع القسطنطينية
كان، عمليًّا، اجتماعًا شخصيًّا خاصًّا
بالقيصر جوستنيانوس، قام به مع الموالين له؛
وقد تحدَّوا في ذلك احتجاج البابا وأساقفة
الكنيسة الرومانية عشوائيًّا بتحريم علم
الوجود المسبَّق للنفس وإقصائه؛ وبذلك
سُحِبَتْ من العلم المسيحي القديم قاعدتُه
التي نشأ عليها. وبسبب حقيقة رفض البابا
فيجيليوس المشاركة في المجمع، فإن بعض
العلماء الكاثوليك المنفتحين بدؤوا من جديد
يشكُّون فيما إذا كانت للمجمع نفسه وقراراته
أصلاً صلاحيةُ التطبيق على الكاثوليك، أو
بكلمات أخرى، فيما لو كانت تعاليم التقمص لا
تزال، كما كانت سابقًا، جزءًا من مادة
التفكير المسيحي. اختتم المجمع الذي استغرق 4
أسابيع أعمالَه في 2 حزيران من العام 553 م؛
ولكن البابا فيجيليوس لم يضع توقيعه إلا في 8
كانون الأول، بعد تعرُّضه لضغوط لا هوادة
فيها من القيصر، ولخشيته من القتل أو
الاغتيال أو من تعيين أحد معارضيه في منصبه،
وذلك دون أن تكون لديه معلومات مسبقة عما
دُبِّرَ ضد أوريجينِس. كتب رودُلف باسيان في كتابه الولادة
من جديد: حياة أم حيوات؟ في الصفحة 223 منه: مجمل
القول إن القضية كانت مشبوهةً إلى أبعد
الدرجات، لا أثر للمشروعية فيها. وننصح لِمَن يريد أن يطَّلع
باختصار على الطريقة التي كانت تُحسَم بها
الخلافاتُ العقائدية في المجامع المسكونية
الخمسة الأولى بالرجوع إلى مقال روبرت كيل
بعنوان "روح قدس خاص". فقد طلب كيل من الكنائس، لو
أرادت أن تستعيد مصداقيتها من جديد، أن تنأى
بنفسها عن هذه المجامع المسكونية وعن
قراراتها التي اتُّخِذَتْ تحت عباءة الرعب
والدسائس. الاعتقاد
بالتقمص ليس غير مسيحي لم تُراجِع الكنيسة هذا
الحرمان المشبوه من القيصر بعد 300 عامًا على
وفاة أوريجينِس، ولم تُعِدْ النظر فيه، بل،
على العكس؛ فقد ترسَّخ تدريجيًّا في فكر
الكنيسة الاقتناعُ بأن اللعن جزء من مقرَّرات
المجمع المُلزِمَة لها، على الرغم من كلِّ
الأقوال المتناقضة إبان هذه القرون المنصرمة
من الزمان. وتتبقى حقيقة أن هذا
التحريم الوضيع لعلوم التقمص – لو فحصنا
الأمر بدقة أكثر – ليس أكثر من غلطة تاريخية
لا تملك أية صلاحية مسكونية؛ ولو عبَّرنا عن
الفكرة تعبيرًا مغايرًا لأمكن لنا القول: ليس
أمام المسيحيين أيُّ مانع رسميٍّ يحظر عليهم
الاعتقاد بالتقمص. التقمص ليس غريبًا عن
المسيحية – فكيف به عن الكنيسة؟ لكن علوم
التقمص أُدينَتْ مجددًا، بأقصى درجة من الحدة
والتشنج، في مؤتمر ليون (1274 م)، وفي مؤتمر
فلورنسا (1439 م)، كما لوحق أتباعُ هذه العلوم،
بلا كلل ودون رحمة، وغالبًا ما تمَّ إعدامُهم.
وليس أدل على ذلك من مأساة العلاَّمة
الإيطالي والراهب الدومِنكاني جيوردانو
برونو (1548-1600)، الذي قُدِّمَ إلى محكمة
التفتيش الكنسية في العام 1592 م بسبب معتقداته
الفلسفية الخاصة حول ارتحال النفوس،
فحُكِمَ عليه في النهاية بالموت حرقًا بعد
فترة طويلة قضاها في الاعتقال، وأُحرِقَ
علنًا في 17 شباط من العام 1600 م فوق كومة ضخمة
من الحطب في "معسكر الزهور" Campo
dei Fiori في روما. وعن أسباب هذه الممارسات،
قالوا: إن فكرة التقمص تتناقض مع مختلف
العقائد المسيحية عن الحياة الأخروية،
كقيامة الجسد مثلاً، أو تتناقص مع المبادئ
المسيحية، لأن الفصل بين شقاء الإنسان
وسعادته يكون في هذا العمر الأرضي الوحيد
الذي نعيشه والذي تنتقل النفسُ بعده مباشرةً
إلى النعيم الأبدي أو إلى الجحيم الأبدي. وهي،
إلى ذلك، تتضمن الآراء التي أدانتْها الكنيسة
مثل "استقلال النفس عن الجسد" anima separata،
أو أسبقية وجود النفس على الجسد. ***
*** *** ترجمة:
منذر أحمد عمرانª § فصل من كتاب
للمؤلِّف بعنوان التقمص، ترجَمَه د.
منذر عمران مشكورًا من الألمانية إلى
العربية: Ronald
Zürrer, Reinkarnation, Govinda-Verlag. [1]
للتوسع في مفهوم التقمص في
تعاليم المسيح، راجع بالعربية: ندره
اليازجي، رد على اليهودية واليهودية
المسيحية، القسم الرابع، فصل "إيليا
ويوحنا المعمدان أو العودة"، ص 485-496، الأعمال
الكاملة، مج 5، دار أمواج، 2001؛ وكذلك:
ميخائيل نعيمه، من وحي المسيح، فصل "المولود
أعمى"، ص 267-271، المجموعة الكاملة، مج
9، دار العلم للملايين، بيروت 1981. (المحرِّر) [2]
فيما بعد، أدَّتِ النزاعات بين الكنيستين
اليونانية والرومانية في العام 1054 م إلى
"الانشقاق" Schisma الكبير، أي انشطار
الكنيسة إلى يونانية أرثوذوكسية ورومانية
كاثوليكية. [3]
راجع:
روبرت سترويلي، أوريجينِس الماسي، 1987،
المقدمة. ª أستاذ في جامعة
تشرين، اللاذقية (سورية). |
|
|