|
سـيظلُّ
ريشـةَ طـائر ينزف النثر،
كالماء، يشرب من أصابعك. لكن ممَّ يشرب الشعر؟ قال أفلاطون: من الجسد هو أجمل
ما كتبت. أوَّاه، يبدو ذلك ضعفًا. لننسَ ما
ذكرت. هذا من اختصاص عنترة العبسي. جاء
الطاووس لاحقًا. أردف إلى فمه حبة قمح لكأنه
الزلحفاة. أكلامٌ مثل هذا يُكتب أو يُقرأ؟
بالمقاييس المعاصرة، هذا شعر. شعر؟! وقد يكون
أكثر حداثة إن أُلقِيَ بصوت رزين، مع خلفية
ضوئية وجلبة، – كارتطام زجاج، رنين هاتف، أو
انطلاق صاروخ، – إن أُثير مع قصائد أخرى مثل: رصاص
رصاص دماء
دماء أو شوهد مُضاءً في شكل لولبي
مكثف على بياض قائم في فراغ. يتكوكب الشعرُ اليوم في
اليوميِّ اللامعقول. ينفَّذ بأقصى ما يمكن من
الإيجاز، مالئًا الرقادَ بالرفض والنفسَ
بالغيبوبة. أليس الموت على مقربة من الروح
ينتهي لكأنه لم يبتدئ؟ أمن رؤيا لا يسكنها
الخوف؟ أمن حلم لا يرويه الصراخ؟ بعضه يسفك،
وبعضه يحاول أن يلملم – ولكن هيهات! بعضه
يهتك، وبعضه يحاول أن يصلح، يهبك قرابين
الطفولة وخلاص الوجدان. كلاهما يأخذك بين
ذراعيه، يرميك، في تراكم الجنون الحياتي – كي
تندهش. ألا يتجزأ الكون إلى نور وظلمة،
إلى خير وشرٍّ، إلى صيف وشتاء؟ هذا يأكل ذاك؟ أأغنى من أن تحمل أثرى ما في
الوجود؟ توزع مع عقارب الساعة على معطيات
لحظة مرسومة بقلم أسود فاحم أو ذهبي. تمَّحى
بتوالي السحر في بناء متجدد ينضوي على علم أو
أمر. ما القَدَر؟ ما الصبر؟ ما الحكمة؟ ما
الحقيقة؟ ما الكبرياء؟ هي أسماء يتخيلها
القاتل والمقتول! قُضِيَ الأمر، يقال. أنت في
قبضة الموت. في فوضاه، تحضن الزمن
والأبدية، والحرب والسِّلم، وصِلات القربى
في ذاتك أو ذواتك، كما تحضن النافذة والسرير
والهاتف والمصعد والصحيفة والقلم والكتاب
والله. بين مَن يسمع أو لا يسمع، يؤمن أو لا
يؤمن، يستجيب أو لا يستجيب، تُقاتِل الغير
كما تقاتل نفسك، سواء بسواء. المهم أن تحيا،
أن تتحرر من الخوف. في تفاوت المتخصصين شِيَعًا
أيتبع الشعر نفسه؟ أيتبع الشعر قمرًا ساحرًا
باطنيًّا، قرآنًا، إنجيلاً، أو توراة؟ أيتبع
الشعر الحدس الباطن أم روبوتًا آليًّا من
صنعه؟ آه... لكم تتداخل الأشياء! أيوالي حصانَ
طروادة؟ أيقلد هولاكو؟ أيتابع مناظرة جورج
بوش مع كيري؟ أيرافق منافسة ديسكوري مع الـFashion
Show؟ أتَعَوْلَم الشعرُ مثلما
تَعَوْلَم العالم؟ منه لهوٌ ولعب، خروج على كلِّ
ما هو سجين وموروث، غروب عن العقل والأرحام،
بل سخرية تقطير اغتراب. غلوٌّ، تهجُّم، تحريض.
اغربي، أيتها الخمائل، أيتها العادات!
طلَّقتكِ أيتها الأحجبة، أيتها الأدعية،
أيتها العمائم، أيتها المعابد! ابتعدي أيتها
الأشباح، أيتها الأرواح! كن بي، أيها
الشيطان، أيها الكفر! فقد ارتويت. ومنه عبوديةٌ وسَهَرٌ وأرَقٌ
وزهوٌّ وإماء. إشباع غريزة الخلق، غريزة
الإيمان، غريزة الألوهية، غريزة النبوة. كن
بي، أيها التاريخ، أيها الوجد، أيها الوحي،
أيها الصمد! كن بي، أيها الله! بين هذا وذاك، أمن خيار؟ – وإن
صفَّق المصفقون. أزوِّجك نفسي، أيها الشعر،
بمؤخَّر قدره عشرة دراهم من الفضة. "قبلتُ،
قبلتُ"، يجيب الشعر. أشتريكَ بليالٍ من
الإلحاح والجنون والكدح، أيها الشعر. "قبلتُ،
قبلتُ"، يجيب الشعر. في هذا التحدي كيف سيتعاطف
الشعر؟ الشعر الذي سيبقى، الذي سينجو، الذي
سيفوز؟ أبتحدِّي المكبوتات؟! – من ألم ووحدة
ومرض وفقر وخوف وغيرة وعجز. أبإشاعة المحال
والخسارة والفهم والتمني والظن والوصف
والمحظور والتهديد والصراعات؟ آه... لكم
تتداخل الأشياء! في جنة الصدق والأخلاق
والتدين، في مقابل جحيم الكره والسلطة
والهدم، يأكل الشعر في تعاليه سواه. ويقال:
"مات الشعر!" كيف يموت العقل ويُقضى على
القلب، مع أنهما روح الحياة. حتى إذا فسدت
الأرض سيأتي الغيث ليبرئ. سيغامر باللجوء
والتلاقي والاستعفاف والمناعة والانجذاب
والانكسار والتصادم والانسحاق والعزلة
والظمأ، فيلجأ إلى المغارة وسفينة نوح. أما السيطرة والظلم والتشكيك
والغبن والتفريغ والتغابن والنسيان والقتل
والقتل والقتل والقتل والقتل والقتل المتوحش
والهجين، الأشد تملكًا من الذبح، الأشد
استحواذًا من الجَلْد في عرين طغيان الهَتْك،
فسيمضي إلى حتفه. ولن يموت الشعر! سمة صَلْبٍ
يتجلَّى، كما في الملاحم والأساطير. ويقال:
"مات الشعر." أيموت الخير؟ "وفديناه
بكبش عظيم" – بلى، سيُفدى. متَّ، متَّ؟ ستظل تبدو قصائد
أبي نواس والمتنبي والشيرازي والرومي
والعطار والحلاج والنفري وابن عربي نبعًا لا
ينضب. ها هو ذو القرنين ينصبُّ في نهم. إنه
فداء الحياة. وسيظل الشعر ريشةَ طائر ينزف، في
الضوء كما في العتمة! لأنه – كالعبادة – صلاة
قائمة في الروح. ضارب سيف، بل ضارب حق، وشعلة
لا تنطفئ! في مضمر القول ابتعدوا! نحن
أولاد الله. رحمةً بالحرف والتضحية. قيامةً في
الجمال والبذل. للنار نافذة مشرعة على
الظلمة، وللخلاص فيض في الرباط والتفرد. ابتعدوا!
نحن أولاد الله. قد
يكون انحناء الخطوط عبادة، قد
يكون التئام الأحرف دعاءً، قد
يكون تزاوج الأرقام رموزًا من السحر، قد
تكون القصيدة البخور واللبان، قد
تكون الخطوط حكمة سليمان، قد
تكون السطور سنابل يوسف وألواح موسى، قد
يكون الإيقاع مضارب زحل، وشوشات النمل، غرَّة
الهدهد، زوَّجتُك
نفسي، وهبتُك نفسي، أيها
الشعر. *** *** ***
|
|
|