|
حَوْلَ الإبْدَاعِ
وَالنَّقْدِ وَثَقَافَةِ العَوْلَمَة الحداثةُ أزاحتِ
المرجعيةَ الدينيةَ وأسَّستْ لمرجعيَّةِ
العَقل "الشعر
اختراقٌ لهشاشة الوجود الطاغي، ونقضٌ لركام
الغثاء. إنه بصيرةُ الكشف عن روح العالم.
وهو ما يحتاج دائمًا إلى تقشيره من سطوحه
وطبقاته المتراصة. ولا سبيل إلى ذلك إلا
بالرؤى الحية التي توجِب تقشيرَ الأداة
نفسها، أي انتهاكَ سُنَن اللغة، في علاقاتها
وأنظمتها المتشكِّلة، والمغامرةَ بها لخلق
كيفيات جديدة للقول، بحيث تكون شرارةَ
التصادمات القاسية والاحتكاكات الصعبة
والمزاوجات البعيدة الكاشفة التي تقف على
حافة التخوم القصوى وتتوثب. غلاف ديوان في سماء
الهديل "إنني
أكتب هذا القليل لأرى نفسي، أو لأقوِّمَها،
في كنف تلك البصيرة التي تَصِلُ بروح العالم." هذا ما ذكره د. وفيق سليطين، الشاعر
والناقد والأستاذ الجامعي، لدى حوارنا معه
حول قضايا الشعر والحداثة والنقد. وقد أضاف: "على
الرغم من ذلك، أنا مُقِلٌّ في الكتابة، شعرًا
ونقدًا. وعلى هذا الأساس يمكن لي أن أقول إنني
لست كاتبًا "محترفًا"، وأزعم أنني لست
مأخوذًا بالحضور "الكمِّي" ومصاحباته
الخطابية والإنشائية. وفي خصوص العلاقة بين
الشاعر والناقد، فإن كلاً منهما يتطلب الآخر،
عبر "مقاومته" النسبية له. وبهذا المعنى،
فأنا أمارس نوعًا من الضبط الضروري على ما
أكتب، بمقتضى اللحظة التالية للإنجاز التي
تعيِّن المُنشِئَ متلقيًا أولاً لنصه. إنني
أحاول أن أكون على مسافة نقدية تجاه ما أكتب،
وأن أعزِّز حضورَ هذه المسافة تجاه كثير من
التجارب المحمومة بفكرة إعلان نفسها نقطةَ
ابتداءٍ خالصة، بينما هي تأتي دائمًا من
الأخير، وتكتب بلغة تجهل أسرارَها، فضلاً عن
جهلها بالتاريخ الجمالي للنوع الذي تكتب فيه." وأشارَ إلى أن "إبداع
الشاعر مرتبط، أولاً، بتحول مفهوم الشعر بين
زمن وآخر، وبين ثقافات متعاقبة أو متجاورة؛
وهو مرتبط، تاليًا، بموقع الفاعل له." وتابَع: "الاستعداد،
لا الموهبة – تجنبًا للإحالة على نَسَقٍ من
التفكير – توجِبُه كثافةُ الإيحاء المقترن
بالموهبة، والعوالق السحرية الموصولة بها.
وإذا كان الشعر، في مرحلة ما، مكتفيًا
بالاستجابة الانفعالية للظواهر، وبشرط
الكفاية اللازمة للتعبير عنها، فإنه من غير
الممكن في العالم الحديث أن يتعرف المبدع
بغير شرط الثقافة، اتساعًا وعمقًا؛ وهو
بغير ذلك ليس مؤهَّلاً لإنتاج نصٍّ جديد، هو
من الغنى والتركيب بحيث ينطوي على رؤية عميقة
للعالم، أو بحيث يكون قادرًا على بناء موقعه
داخل شبكة الثقافة المعاصرة. ثمة فارق
بالتأكيد بين استجابة النصِّ لثقافةٍ معطاة،
يعكس أوضاعَها ويثبِّتها، وبين فعل النصِّ
في الثقافة وإسهامه في تخصيبها وإعادة بنائها.
ومن هنا يأتي الفرق بين "النظَّام"
والشاعر، بين المحاكاة والإبداع، بين
الانفعال الهش والفعل المؤسِّس." الحداثة والعولمة وعن ماهية الحداثة وما بعدها
والعولمة ألمح قائلاً: "الحداثة،
في اختصار، قَطْعٌ مع المرجعية الدينية
القروسطية، وإزاحةٌ لمركزها اللاهوتي،
وتأسيسٌ لمرجعية العقل وحده، بما يعني ذلك من
تعيين الإنسان بديلاً مركزيًّا ينحِّي
المرجعيةَ اللاهوتيةَ المميِّزةَ للعالم
القديم. "وإذا
كانت الحداثة وليدة المجتمع الصناعي، أو
مساوِقةً للتحولات الأساسية والانعطافات
الحادة التي تَسِمُ هذه المرحلة وَسْمًا
عميقًا، فإن ما بعد الحداثة هي وليدة
المجتمع ما بعد الصناعي؛ وهي، في الوقت نفسه،
موقفٌ مشتق من انعكاسات الحداثة على نفسها
بكيفيات مختلفة، من جرَّاء فقدان الثقة بها
وبوعودها الخلاصية. ما بعد الحداثة، بهذا
المعنى، هي التجلِّي السلبي للحداثة، أو هي
الوجه الآخر الذي يكشف أوهامَها ويعرِّي
تناقضاتِها. وداخل الإطار ما بعد الحداثي،
يمكن إقامة ضروب متعددة من أشكال التمايز
والتخالف، لأن السياق ما بعد الحداثي ليس
كلاًّ متجانسًا ومتطابقًا ومتحدًا وخاليًا
من ضروب التصدع والانقسام. إنه يوفِّر في
داخله إمكانيةً كبيرةً للفَرْز وللتمييز؛
فهو – كما يقول إيغلتون – يشتمل على كلِّ
شيء، من مجالات التسالي إلى ميشيل فوكو. "ولا
شك أن التحولات الجارية اليوم، بفعل آليات
العولمة الناجمة عن التوسع الرأسمالي العابر
للقوميات، تهدِّد بإفقار العالم، عبر إدماجه
وتوحيده تحت ظلِّ هيمنتها القطبية الواحدة؛
هذا في الوقت الذي كانت تشير فيه إلى ما ينطوي
عليه مشروعُها من خلق إمكانات جديدة وفرص
إضافية وإحلال مناخات لا سابقة لها للمشاركة
والتفاعل. ولكنها، في طورها المتوحش الذي
نشهده اليوم، لا تحمل إلا نذيرًا بالشؤم،
يهدِّد باختلال الحياة، وبحدوث انهيار شامل
على مستوى الكوكب. "على
الرغم من ذلك، فإن النظر إلى العولمة، بوصفها
سياقًا يتشكل ويتحول في ضوء رهانات متباينة
الاتجاه والقيمة، يفتح على تبايُن الموقف
حيالها. وهذا ما نلحظه في الفكر العربي
المعاصر في مثال الانتقال بين صادق جلال
العظم وعلي حرب ومَن بينهما." الأدب النسائي وعن تقويمه للأدب النسائي يقول
موضحًا: "المقصود
بـ"الأدب النسائي"، طبعًا، هو الأدب
الذي تكتبه المرأة. وصفة "النسائي" هنا
تتميز عن "النسوي" و"الأنوثي"
وسواهما، احترازًا من الخلط بين هذه
المفهومات أو الجمع بينها بصيغة الترادف
والتطابق. لقد أريق مدادٌ غزير لإضفاء خصائص
معنوية وأسلوبية تميِّز أدب المرأة، وتنشد
إقرار ماهية مقوِّمة له في مقابل كتابة الرجل.
لكن التمادي في هذا المنحى، وإنْ كان ينطلق من
"نيات طيبة"، فإنه ينتهي، في المحصلة،
إلى شيء من "القولبة"، ويمكن أن ينتهي
بدفع الأمور إلى أقصاها، إلى عَزْل الأدب
النسائي في جزيرة نائية خاصة به وحده – وفي
ذلك إخراج له من خضم الصراع والمشاركة
والتفاعل. "صحيح
أن هذا الأدب يشهد اليوم ازدهارًا ملحوظًا،
وتتسع الرقعة التي يحتلها في التعبير
والمشاركة والتمثيل الثقافي، – وإنْ كان قبل
ذلك قد اكتسب في الغرب دفعةً إضافية نوعية بعد
أحداث أيار 1968 [فرنسا]، وبأثر من مفاعيل ما بعد
الحداثة التي كانت لها ترجيعاتُها المحيطة
وآثارُها المنبثقة في قوة على أطراف المركز،
مما لا سبيل إلى إنكاره، ولاسيما في نصوص
الكتابة النسائية المتقدمة التي شقَّت
مجراها وعمَّقت أثرَها في غير مكان من العالم
العربي في قوة واقتدار، – لكن هذا لا ينفي، في
الوقت نفسه، دور "الموضة" من خلال الطلب
المتزايد على الكتابة. وعلى هذا الأساس، كان
التمييزُ أحيانًا ينعدم داخل أفعال الحفاوة
المسرفة، مما أضفى على كثير من الأعمال "هالة"
خاصة تتصل بجنس الكاتب أكثر من اتصالها
بالمكتوب. وما نشهده في الحياة الثقافية
المعاصرة خير دليل على ذلك." أزمة القراءة أما عن عصر التكنولوجيا وأزمة
القراءة، فقد أكد قائلاً: "ليست
القضية تقابُلاً ثنائيًّا ضديًّا بين
التكنولوجيا والقراءة، بحيث تبدو أولاهما
نافيةً للثانية أو خافضةً لها. الأزمة، في
نظري، تقترن بسياق حضاريٍّ شامل؛ وهي أزمة
تتجدد، وتُدار، ويعاد إنتاجُ دورتها، بما
يكفل تثبيت الأوضاع المنتجة لها. خارج هذا
الإطار، وفي سياق حضاريٍّ مختلف، لا شكَّ في
أن القراءة تزدهر، ويتنامى محصولُها،
وتتميَّز بإنتاجيَّتها العالية والمتسارعة،
بوجود روافع وأدوات متطورة لها، تمنحها فرصًا
جديدة، وإمكاناتٍ زاخرة، وقابلياتٍ نوعية لا
عهد لنا بها من قبل. "وهذا
ما توفِّره تكنولوجيا العصر عبر تدفق
المعلومات، أثيريًّا، على مدار الساعة. فهل
يمكن اعتبار ذلك تقليصًا لفرص القراءة في
المجتمعات المنتجة حقًّا؟ أم أن الأمر، على
هذا النحو، يقتصر على بُنى اجتماعية ذات
خصوصية متجوهرة ، تُعرَّف بمناعتها
ومعاندتها واستعصائها وغير ذلك من الأوصاف
التي تصوَّر على أنها ذراتها الروحية
والمعنوية ولباب هويتها، التي يتعيَّن
التشبث بها؟ إننا لم نبتعد بعدُ عن تلك الصورة
النَّسَقية التي تستقدم التكنولوجيا وترفض
أساسَها العقلي وتضعه موضع الإدانة
والإنكار." الإبداع في النقد
الأدبي وكان لا بدَّ من أن نصل مع د. سليطين
إلى الحديث عن أحد كتبه، وهو الزمن الأبدي،
الذي نال عليه جائزة "المنظمة العربية
للتربية والثقافة والعلوم"؛ وقد جاء في
نصِّ الوثيقة: إن المنظمة العربية تعلن عن إسناد
الجائزة التشجيعية في الإبداع الأدبي، في
مجال النقد الأدبي، إلى د. وفيق سليطين عن
كتابه الزمن الأبدي، بناءً على قرار لجنة
التحكيم المؤلَّفة من كلٍّ من د. جابر عصفور،
د. محمد برادة، د. محسن جاسم الموسوي، د. فيصل
درَّاج، د. حمادي صمود، وذلك لما يتميَّز به
من تحليل متماسك، منهجًا وتأويلاً ولغة. وقد تحدث عنه قائلاً: "ينعقد
كتاب الزمن الأبدي على دراسة الشعر
الصوفي من خلال مفهومات الزمان والفضاء
والرؤيا، ويُعنى بالكيفية التي امتصَّتْ بها
قصيدةُ التصوف الخطاباتِ الشعريةَ السابقة،
وتفاعلتْ معها، وأعادت توظيفَها واستوعبتْها
وحوَّلتْها داخل خطابها الخاص. ويُعدُّ
العمل، من هذا المنظور، قراءةً تهدف إلى
اكتشاف القواعد التي تحكم اشتغال موضوعها،
وتبحث في أنظمته الدلالية، وتفتحه على سياقه
الأوسع. "وإذا
كان إخضاع الوحدات المشار إليها للدراسة يجيب
عن سؤال التشكل، فإن العمل على فكِّ
الشيفرات النصِّية، وإعادة تنظيم عناصرها،
وصولاً إلى تحرير الرسالة التي تنطوي عليها،
يجيب عن سؤال الإبلاغ، ويفضي إلى إنتاج
معنى ممكن للمقروء في إطار النَّسَق الثقافي
الذي ينتمي إليه ويصدر عنه. "والحال،
فإن التوجُّه البحثي هنا ينصرف عن المساعي
الهادفة إلى استنطاق النصوص لمعادلتها بجملة أفكارها
المعلَنة؛ وهي معادلة تقود إلى نفي
بنائها الفنِّي، عبر الاتجاه المباشر إلى
تقرِّي المحتوى بالقفز على الوسيط اللغوي.
ولقد سبق أن نبَّه د. نصر حامد أبو زيد، في هذا
الخصوص، إلى ما يترتب على قراءة المضمون –
دون اعتبار لطبيعة النص – من العودة إلى
مفهوم المحاكاة." منهجيَّات حديثة في المقدمة التي كتبها أستاذُه د. نصر
حامد أبو زيد لكتابه الشعر الصوفي بين
مفهومَي الانفصال والتوحد وَرَدَ ما يأتي: [...] لم أتردد في قبول كتابة هذه
المقدمة حرصًا منِّي على نقل الحوار بيننا من
مجال علاقة الطالب بالأستاذ إلى مجال علاقة
الباحث بباحث آخر، ربما يكون أكثر منه خبرةً،
لكنه بالتأكيد لا يريد أن يمارس إزاءه سلطةً
معرفيةً من أيِّ نوع. إن مجرد التصدِّي لتقديم
هذا الكتاب يُعدُّ دلالةً على التقدير
الإيجابي المبدئي للبحث والباحث، وهو تقدير
يتجاوز الإعجاب. والجدير ذكرُه أن هذا الكتاب
استُقبِلَ لدى صدوره استقبالاً جيدًا في
الوسط الثقافي العربي، ولاسيما في القاهرة،
وكُتِبَتْ عنه في الصحف والدوريات مقالاتٌ
متعددة آنذاك، وكان الكتاب الأكثر مبيعًا في
"معرض القاهرة الدولي" بحكم الاستطلاع
الذي أجرتْه صحيفة أخبار الأدب في ذلك
الحين، إضافةً إلى نيله "جائزة النقد
الأدبي" في سوريا عندما كان مخطوطًا. د. وفيق سليطين ففي هذا الكتاب تصدَّى، بالمنهجيات
الحديثة والمعاصِرة، لتحليل نصوص قديمة.
ويقول الباحث سليطين عن أهمية المنهج
البنيوي التكويني الذي اتَّبعه في دراسته
تلك: "إنها
تنبع من نقطتين: أولاهما تكمن في إيلائه – أي
المنهج – النصَّ أهميةً خاصة، وفي عمله على
اكتشاف قوانين انتظامه. وهو، بهذا المعنى،
يفارق الدراساتِ التقليديةَ التي تعزف عن
النص لتتكلَّم على ما يحيط به من أوضاع ثقافية
واجتماعية وتاريخية، وهي بذلك تهمِّشه
وتُلحِقُه بغايتها، وتُحيله إلى مجرد وثيقة
للاستشهاد؛ والنقطة الثانية تكمن في تجاوُز
هذا المنهج للاتجاه البنيوي السكوني،
الذي يعزل النص، ويحوِّله إلى وجود مغلق
ومكتفٍ بذاته، فيكون عملُه، وفقًا لذلك،
مقتصرًا على الوصف واكتشاف الأنساق الداخلية
للعمل الأدبي." غلاف ديوان معاكسة
لأوابد الضوء وأخيرًا، فإن قارئ الشاعر سليطين في
دواوينه الخمسة لا يملك إلا أن يلاحظ غوصَه في
الأعماق وبحثَه المستمر عن اللآلئ المتناثرة
في الروح، ليشفَّ عما يجول في داخله من أفق لا
يكتنهه الوصف. فهو القائل: وَسِّعْه... وَسِّعْ كلَّ شيء فيه صوتك الذي يتلفَّتُ في القلب بينما هو يتهيَّل على كثبانه ويسحبها حقولاً يختلط فيها الدمُ بالكلام. *** *** *** حاورتْه:
لمى يوسف عن
الكفاح العربي، 13/2/2004 تنضيد:
دارين أحمد [1]
وفيق سليطين من مواليد العام 1961، حائز على
درجة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها
من جامعة القاهرة (1995)؛ مدرِّس في كلِّية
الآداب، جامعة تشرين (اللاذقية)، وعضو
اتحاد الكتاب العرب (دمشق). صدر له شعرًا: أسفار
الكائن الآخر، حافيًا إلا من هذا الحب،
في سماء الهديل، العتبات، معاكسة
لأوابد الضوء، ودراسةً: الشعر الصوفي
بين مفهومي الانفصال والتوحد، الزمن
الأبدي – الشعر الصوفي: الزمان الفضاء،
الرؤيا.
|
|
|